إن متابعة الأحداث الدامية الأخيرة، وما أفرزت من مظاهر انهيار القيم الأخلاقية، وغياب متطلبات إعمال قيم الرحمة، وما حل من خراب للديار الفلسطينية من قِبل نفوس خربة لبشر أوغاد ما باتوا بشرًا بعد إعلانهم تلك الحرب غير المسبوقة في بشاعتها حيث استهداف المرضى بقصف المستشفيات بمن فيها والأطفال داخل حضاناتهم، لا بد أن تدفعنا كل تلك الحملات الشيطانية إلى التساؤل: أي معالجات نفسية وعضوية وتربوية يمكن أن ترمم وتبلسم نفوس أطفال فلسطين والعرب بعد توالي عرض مشاهد الرعب المميتة؟!
لقد كنتُ أتصور هبوط طائرات إسعاف مجهزة قادمة من دول العالم التي يصفونها بأنها المتقدمة المتحضرة أمام مستشفيات غزة لإنقاذ الحالات الخطرة وبشكل خاص حالات الأطفال الخدج، ولكن -للأسف- أسقط طوفان الأقصى أقنعة الزيف البشعة،.. وعليه، كل الشكر والامتنان لوزارة الصحة المصرية والرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس مصر الدولة المتحضرة، لمبادرة أجهزتها لنقل الحالات الأخطر إلى المستشفيات المصرية بعربات إسعاف مجهزة.
ولعلها ظروف مناسبة لمناقشة سبل إعادة تجهيز أطفالنا بشكل يمكِّنهم من التعامل مع كل تلك التحديات السابق الإشارة إليها… كيف يمكن أن نلقنهم وندربهم للتعامل مع معطيات زمان أهل الشر الجدد؟
إذا كان أمر تدريس التربية الدينية في المدارس -دون الاكتفاء بدروس دور العبادة- بات يمثل ضرورة حتمية وقضية غير قابلة للنقاش لدى متخذ القرار (مع أن كل شيء قابل للنقاش والدراسة والتجريب)، فليكن من أولويات أهداف مُعد مثل تلك المناهج -بالإضافة لتعليم أسس العقيدة والفرائض والشعائر وبث القيم الروحية النبيلة- أن يراعي تضمين فصول ذلك المنهج ما يؤكد على أن الأديان وكتبها المقدسة تدعونا للمزيد من الانتماء للوطن بدعم وتكريس مبادئ التربية والتنشئة الوطنية المعاصرة، ولتكن مناهج التربية الدينية مدخلًا رائعًا لدفع الأجيال القادمة للارتباط بقضايا وهموم الوطن وطموحات شعبنا وآماله في تحقيق التقدم.
على سبيل المثال، أرى أهمية أن تتضمن كتب التربية الدينية المسيحية خلاصة الفكر المسيحي عبر القراءة الجيدة لأقوال وأفعال وسير رموز الرشاد والصلاح والمحبة والوطنية، بجانب خلاصة الأمثلة التي ساقها السيد المسيح الداعمة لأصول التربية الصالحة ولمفهوم “المواطنة” والعدالة والانصياع للقوانين الأرضية المنظمة لعلاقات البشر البينية، واحترام الأنظمة المدنية المعمول بها في الأوطان، وأيضًا عرض المواقف الوطنية لرموز الكنيسة المصرية عبر تاريخها وتاريخ الوطن، والذين أدركوا الفارق الجوهري بين الدور الوطني للمؤسسات الدينية دون التورط الخطير في اتخاذ مواقف سياسية باسم أتباع الديانة وارتداء ثوب الزعامة السياسية .
ولعل من مؤلفات الأب “متى المسكين” -على سبيل المثال- ما يصلح لأن يمثل توجهًا طيبًا وعصريًا في مجال تنشئة المواطن الصالح وبث ونشر مفاهيم وأسس العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الكنيسة وأتباعها، وبين الكنيسة والدولة، والتعريف لمفاهيم التعصب والطائفية والتمييز والعنصرية والانتماء والولاء والتسامح وقبول الاختلاف… إلى غير ذلك من التعريفات التي حرص ذلك المفكر على تناولها في مؤلفاته من وجهة نظر دينية وطنية وتربوية .
يقول “المسكين” في تعريفاته الطيبة: “معلوم أن الحياة الأبدية هي الوطن السمائي للذين اختيروا وتعينوا من قبل الله لهذا الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل المحفوظ في السماوات، ولكن لم تُدع الحياة الأبدية بـ “الوطن الأفضل” للإنسان إلا على أساس أن الحياة هنا هي “فاضلة” أيضًا، لأن الأفضل لا يمكن أن يكون أفضل إلا بسبب وجود ما هو فاضل، لا يمكن ولا نوافق أحدًا أن يدعو الحياة هنا أنها نجسة أو دنسة، فالذي خلقه الله وقدسه لا تنجسه أنت، فكما أن كل شيء طاهر للأطهار، كذلك الحياة أيضًا تكون فاضلة للفضلاء.
فلتكن تلك المناهج فرصة لأن يعي الطالب أن الوطن السمائي لا يلغي وجود الأوطان، والسعي نحو الوطن السمائي لا يشمل معنى إنكار الأوطان، فالمسيح نفسه قيل عنه: “وخرج من هناك وجاء إلى وطنه وتبعه تلاميذه” (مر6: 1)، مع أنه معلوم لدى الجميع أن المسيح قائم أبدًا في حضن أبيه كما يقول الكتاب.
إن الحنين الذي ينمو في الإنسان جسديًا نحو وطنه الأرضي لا يعطل الحنين الذي ينمو في الإنسان روحيًا نحو وطنه الأعلى، لأن لكل حنين ميدانه الخاص الذي ينمو فيه، فهذا في الجسد، وهذا في الروح، وخطأ أن نخلط بين الاثنين، أو نئد الواحد لنحيي الآخر، فلكل حنين عمله في تكميل الإنسان، وجيد للإنسان أن يكون سليمًا معافى في كل مشاعره الجسدية ليؤهل أن يكون أيضًا إنسانًا روحيًا سويًا، فالوطن الأرضي ضرورة للإنسان ليكون كاملاً جسديًا، كما أن الوطن السمائي ضرورة ليكون كاملاً روحيًا أيضًا، فنمو الجسد الطبيعي هو وحده ينشئ الحنين نحو الوطن الذي تربى فيه الإنسان، ونبل الإنسان وأمانته يحولان الحنان إلى ولاء جميل.
وفي مجال خدمة الأوطان يشير “المسكين” إلى أن خدمة الوطن الأرضي باجتهاد حصيلة طبيعية للنمو الطبيعي لأن إعالة الوطن للإنسان من جهة ما يقدمه له من الأكل والشرب وعطف الأهل والأصدقاء وارتباط مرح الصبوة بالأماكن تنشئ في الإنسان النبيل دوافع طبيعية ملحة لرد الجميل ويحمله تلقائيًا روح المسئولية للدفاع عنه !
مطلوب أن يعي شبابنا أن كبت الروح الوطنية نوع من وأد الروح الإنسانية ومحاولة توجيه الإنسان نحو وطنه السمائي على حساب احتقاره للوطن الأرضي قصور في فهم النفس البشرية وإضرار بنموها، والأجود أن ننمي في الإنسان توقير الاثنين ..
ولعل من المناسب الإشارة إلى نموذج طيب لكتاب مقرر مدرسي في مجال التربية الدينية الإسلامية تحت عنوان “القرآن الكريم والتهذيب والدين” للمدارس الابتدائية (وفقًا لمنهج عام 1930) للسنة الرابعة الابتدائية، وهو تأليف عبد العليم حسين، المدرس بمدرسة مصر الجديدة الابتدائية للبنين. (وبالمناسبة، تجدر الإشارة إلى أهمية منح المدرسين فرصة إعداد المناهج الدراسية وفق آليات ترشحهم لجدارة العمل ومسئوليته، وكانت تلك الآلية فيما أرى داعمة لفكرة الاستعانة بأهل المهنة والكار وهم على دراية بالأهداف التربوية والتعليمية المرجوة). وحول موضوع بعنوان “زيارة الأولياء” على سبيل المثال، يذكر الكتاب: “إن كان الغرض من زيارتها العظة والاعتبار، كما في زيارة قبور الموتى، فلا بأس، وأما إن كان الغرض منها التوسل بالعظام التي فيها إلى قضاء الحاجة، أو تفريج كرب، أو شفاء مرض، أو كسب قضية، فذلك زيغ عن الدين وكفر بالله… فكل الرجال والنساء الذين تراهم يتزاحمون على الأضرحة، يُقَبِّلون الأعتاب، ويلثمون على أضرحة من الحديد والنحاس، ويكتحلون بترابها، وينذرون لهم النذر، إنما يدعون غير الله، ولا فرق بينهم وبين عُباد الأصنام، فزر أيها التلميذ الأضرحة كما تزور قبور أمواتك للعظة والاعتبار وإياك أن تدعو وليًا من الأولياء لينجحك في الامتحان، أو ليفرج عنك كُربة، لأنك تدعو غير مجيب، وتشرك مع الله عظامًا نخرة، ومخلوقًا قد تكون عند الله أفضل منه، وادع الله فإنه قريب يجيب دعوة الداعي ويُفرج كُربة الملهوف، وهو الذي يعطي مَنْ يشاء، ويمنع مَنْ يشاء، بيده الملك وهو على كل شيء قدير”.
ما رأيكم دام فضلكم ونحن نضع اللبنات الأهم لتطوير المنظومة التعليمية لو تمت الاستفادة بمثل تلك النماذج المصوبة لعادات وتقاليد ومفاهيم تربوية كان ينبغي التعرض لها في مناهج التربية؟
لم تُدع الحياة الأبدية بـ “الوطن الأفضل” للإنسان إلا على أساس أن الحياة هنا هي “فاضلة” أيضًا، لأن الأفضل لا يمكن أن يكون أفضل إلا بسبب وجود ما هو فاضل، لا يمكن ولا نوافق أحدًا أن يدعو الحياة هنا أنها نجسة أو دنسة.