اقتحمت الأنفس قلاع الأَسْر الحصينة غير مبالية بغائر الجروح التي خضبت دماء أبدانها حتى تستأثر هي بما تسعى للحصول إليه. وحين ملكت ما حلمت به، نراها وقد فقدت كل ذكريات تحمل كثيرًا من البؤس، فرحًا بالتخلص من القيود المُحكمة -التي لطالما أبكتها فأذلتها- في مقابل تحريرها بل بالأحرى حريتها الغالية الثمينة!!!
وهل للحرية استحقاق في الشقاء للوصول إليها؟ تجاسرت القلوب خلف ألسنة البشر حين اجتمعت أحرف الأرض في توحدها وترابطها لإلصاق بعض الأحرف بأخرياتها من بني جلدتها وجنسها حتى تتشكل كلمة بل كلمتان كانتا هما “نعم، تستحق”. وهل على وجه الأرض قيمة تضاهي قيمة تلك الحرية لكي تتهافت عليها القلوب وتتغنى لها الأفواه وتشدو لها الألسنة والحناجر؟!
تتعاظم أقاصي الأرض بوسائل رفاهيتها وتتحد نعم السماء بكل عظمتها لإرساء بهجة النفس وما يتبعها ويستتبعها من سعادة وفرح وسرور، إلا أن الفشل كان هو الحليف الأوحد لهما بدون الخلفية التي منها تبرز كل صور استقامة البدن والروح معًا، ألا وهي الحرية!!! وهل نبت الأرض يظهر قمته إلى الرؤية دون ماء؟ وهل يحيا البشر دون هواء ودماء؟ وهل تتوازن الأرض في دورانها بلا شمس؟ وهل تسير الأعين من غير نور وبريق وضياء؟؟؟ كان الحق هو الاستعلان الأوحد في ذي الوجود حين تفوه بمكنوناته، معلنًا ومظهرًا فعل المستحيل في هذا الكون الفسيح دون بقاء إنسان يشعر فاقدًا لحريته!!! وكيف للحياة أن تستقيم متخلية عن مظاهرها بل ماهيتها وفحواها وكنهها؟؟! فلا الحياة تبقي حياة ولا الإنسان يصير بعد إنسانًا بعيدًا عن كل ما من شأنه أن يأسر ويستأسر كل مَنْ يحمل في ذاته عقلًا يفكر ونفسًا تشعر وجسدًا يعبِّر عن كليهما!!!
فتبًا لشخوص وأشخاص امتلكت إرادة لكي تتخلى بكامل تلك الإرادة عن حريتها المريدة وإرادتها الحرة مقابل بعض من الرغبات الدنيا الدونية الدنيئة، فأمست بلا كيان رافض أو وجود مؤثر، وظلت هكذا إلى أن تخلل الاعتقاد الخاطئ والفكر غير الصائب كل تفاصيلها، فاعتقدت في قرارة نفوسها بأن الأسْر والفكاك واحد وأن الربط والإفلات هما أيضًا كذلك، فعاشت الموت الحي بل الحياة المائتة. وبتفاعلها مع الزمن، تنتقل إلى صورة أخرى لموتها، فيها تفوح الرائحة ويتحلل الجسد وتذهب إلى حيث جاءت، إلى تراب الأرض. وهكذا كان مجيئها وإيابها كما الفراغ والعدم بلا وجود، وكان هذا لكل مَنْ تنازل عن قوته بقوته وهوائه بأهوائه بل حريته بفعله وتفاعله وكامل مشيئته!!!
توارت مَلَكة الخلق والإبداع حين أطلت بوجهها الباسم إلى عالم البشر ولم تبصر عقلها المدبر لها – الحرية – وما كان لها سوى القبوع في عالمها غير المرئي لحين خروج تلك الحرية من معقلها وإطلاقها دون قيد، صائلةً جائلةً بين أطراف أرجائها، تنتخب وتختار من العقول البشرية والأذهان ليتفرد المرء بما يملكه ويمتلكه من القدرات الإبداعية، ليصبح محط الأنظار في كل حدب وصوب، مُفرَزًا بعتقه، وحيدًا بمواهبه، فريدًا بما أُعطي له من نعم ومنح وعطايا، معلنًا أنه الحر بمواهبه والموهوب بحريته والتي لولاها ما كانت للبراعة حياة كما للحياة خلق وإتقان ومهارة وإبداع ……… الحرية.