بين الاحتواء المسئول والانحناء المُتضع، بين الحب والسير ضد التيار، بين السعي الصادق نحو ترميم ما صدعته قرون القطيعة وتحدياتها وتعاظم كتلة التربص، جرت من جديد دماء المودة في شرايين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، وارتفع صوت الألحان القبطية في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان، وهي الساحة التي استُشهد فيها القديس بطرس على الإيمان المسيحي. تقدم الحب ليمحو جرائم تاريخية اقترفها البعض وغطى عليها البعض الآخر خشية اللوم والإقصاء والوصم الديني المُرعب الذي يدفع لإنصاف العناد بلا تدقيق أو بوازع من الخوف. في هذه الأجواء، جاءت زيارة قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية للفاتيكان، مما أثار جدلًا واسعًا حول وحدة الطوائف المسيحية، خاصةً مع الكاثوليك. البعض يراها تقاربًا ومحبة بعد قطيعة امتدت 15 قرنًا من الزمان منذ تاريخ الانشقاق في عام 451م، والبعض الآخر يراها دمجًا غير مقبول يتسبب في الذوبان وضياع جوهر الإيمان. وبين هؤلاء وأولئك ظهر التراشق على مواقع التواصل الاجتماعي، بحجة التفريط في الإيمان الأرثوذكسي الصحيح، ونعت المؤيدين بأنهم أصحاب فكر منحرف، وإلصاق التقارب الطائفي بفترة حبرية البابا تواضروس الثاني دون غيرها. وهنا يجب إعلان بعض الحقائق الموثَّقة تاريخيًا، والتي يتخطاها المهاجمون جهلًا أو تجاهلًا، فهل الحوار الأرثوذكسي الكاثوليكي وليد السنوات الأخيرة؟ وهل هو حوار أم وحدة أم ذوبان أم تقارب؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، علينا العودة للتاريخ الكنسي، فالانشقاق الذي وقع في القرن الخامس كان بين الكنيستين الشرقية والغربية بسبب المجمع المسكوني في مدينة خلقيدونية في بيثينيا القريبة من القسطنطينية آنذاك (تُسمى اليوم قاضى كوى في تركيا) كان عام 451 م، والمجمع هو اجتماع للأساقفة والقادة الآخرين للنظر في مسائل العقيدة المسيحية والإدارة والانضباط والمسائل الأخرى التي تتم فيها دعوة مَنْ يحق لهم التصويت من العالم بأسره. إذًا الحوار حول المسائل العقائدية واللاهوتية ليس أمرًا وليد العصر بل هو ضارب في جذور التاريخ المسيحي.
شهد مجمع خلقيدونية خلافًا حادًا، مما أفرز نتائج سيئة، أهمها توقيع «حرومات»، والحرومات هي «حرمان كنسي، أي عقاب تُنزله السلطة الدينية لفصل أو تقييد شراكة شخص من المصلين في المؤسسة الدينية». وجاء ضمن تلك الحرومات قرار المجمع بحرمان البابا ديسقورس، البابا السكندري حينها. ورفضت كنيسة الإسكندرية قرارات مجمع خلقيدونية وحدث الانشقاق، ثم أصبحت كنائس الشرق، تحت قيادة كنيسة الإسكندرية، تُعرَف بالكنائس «الأرثوذكسية»، في حين سُميت كنائس الغرب، تحت قيادة كنيسة روما، الكنائس الكاثوليكية. وقد كان ذلك بسبب خلاف عُرف لاحقًا بأنه خلاف لفظي حول طبيعة السيد المسيح، وعززت العوامل السياسية حينها هذا الخلاف، وبمرور الوقت كانت القطيعة التامة بين الكنائس التي اعترفت بنتائج مجمع خلقيدونية، أي كنيستي روما والقسطنطينية، والتي عُرفت باسم الكنائس الخلقيدونية من جهة، والكنائس التي لم تعترف بنتائج هذا المجمع، وتتمثل في الكنيسة القبطية، وكنيسة أنطاكيا، وكنيسة أورشليم، ومجموعة من كنائس آسيا الصغرى، والكنيسة الإثيوبية، والتي عُرفت باسم الكنائس اللاخلقيدونية من جهة أخرى، وذلك حسبما يذكر حنا جرجس الخضري في كتابه «تاريخ الفكر المسيحي»، ثم ظهرت بعض الخلافات حول الطقوس والشعائر والأسرار الكنسية أيضًا.
مرت القرون واتسعت الفجوة وتعمقت القطيعة، حتى ظهرت مبادرات ودية في عام 1964. ووفقًا لكتاب «يا إخوتنا الكاثوليك، متى يكون اللقاء؟ للكاتب حلمي القمص يعقوب، جرى اللقاء الأول في جامعة آرهوس بالدنمارك في 11 أغسطس سنة 1964 م، ونتج عنه النص التالي: «تعارفنا وتباحثنا بصدق المحبة ووثوق الحقيقة وبدأت تنقشع غيوم سوء التفاهم الموروث، فتعارفنا – أحدنا على الآخر – على إيمان الكنيسة الأرثوذكسية الواحدة، واكتشفنا أن خمسة عشر قرنًا من التباعد لم تبعدنا عن إيمان الآباء.. صحيح أن كثيرًا من المشاكل العملية لا تزال قائمة.. إلا أننا على يقين بأن الروح عينه الذي قادنا هنا معًا (في آرهوس) سيواصل قيادة كنائسنا في سبيل حل جميع المشاكل».
تلت هذا اللقاء عدة حوارات، حتى اتخذ مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث مبادرته الأولى في مايو عام 1973 بزيارة روما. وفي ضيافة البابا بولس السادس، وقَّع رئيسا الكنيستين بيانًا مشتركًا تم فيه الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة، مهمتها كما جاء في نص الاتفاق المنشور هي: «توجيه دراسات مشتركة في ميادين: التقليد الكنسي، وعلم آباء الكنيسة، الليتورجيات، واللاهوت، والتاريخ، والمشاكل العلمية، حتى إنه يمكننا، بالتعاون، أن نسعى معًا لحل الخلافات القائمة بين كنيستينا، بروح الاحترام المتبادل، بل ونستطيع أن نعلن معًا وسائل الإنجيل التي تتطابق مع رسالة الرب الأصيلة، ومع احتياجات عالم اليوم وآماله». وتوالت اللقاءات التي أفرزت لجنة مشتركة للحوار على مدار العقود الماضية شارك فيها الأنبا بيشوي، أسقف دمياط والبراري وسكرتير المجمع المقدس آنذاك.
استمر الحوار من أجل الوحدة لسنوات، فالحوار هو السبيل الوحيد لتلاقى وجهات النظر، خاصةً إذا كان الخلاف لفظيًا، أثبتته الترجمات اللاحقة فيما بعد حول ما يطلق عليه «الكريستولوجي» أو طبيعة المسيح. واكتشف الجانبان، الكاثوليكي والأرثوذكسي، أنهما يؤمنان بذات الإيمان، وأن ما حدث كان بسبب اختلاف اللغة والترجمة، وبناءً عليه تمت الموافقة على الاتفاقية «الكريستولوجية» بواسطة المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية في لقاء 12 فبراير 1998 في دير الأنبا بيشوي بمصر، وكان سكرتير المجمع حينها هو الأنبا بيشوي أسقف دمياط والبراري الذي نشر هذا النص على موقعه الشخصي. وهكذا قَبِلَ الجانب القبطي الأرثوذكسي تعديلات الجانب الكاثوليكى ووافق عليها، مع وضع منهجية للحوار – الذي لم ينقطع – حول بقية المسائل الطقسية والمفاهيمية التي أنشأتها قطيعة أضاعت 15 قرنًا قبل اكتشاف أنه لم تكن هناك – جوهريًا – سوى اختلافات لفظية. إنها جريمة تاريخية بكل المقاييس، ورغم تراكم الاختلافات الأخرى عبر القرون إلا أنها أقل أهميةً ولا تستعصي على الحل عن طريق الحوار الجاري حاليًا.
فما الذي حدث حتى يتبنى البعض موقفًا معوِّقًا للوحدة ويخرج علينا البعض ناعتًا ما يجرى بأنه تفريط في الإيمان؟ ما يحدث الآن يعود لعدة أسباب، أولها الثورة التكنولوجية والانفتاح الإعلامي الذي لم يكن موجودًا في الماضي، فلم يطّلع غير المهتم على التفاصيل، وحينما حضرت الوسيلة السهلة للاطلاع راح يدلى بدلوه غير الموفق، متهمًا كل مؤيد بالانحراف الفكري العقائدي. والسبب الثاني هو غياب المحبة، وتداخل الفكر العقائدي مع الثقافات المؤثرة عليه، فأصبح الصوت العالي والهجوم وسيلة جيدة للظهور حتى لو على حساب الوحدة التي ترأب صدع الانشقاق الكنسي. والسبب الثالث هو الشخصنة والذاتية المُرعبة الطاغية على جميع مناحي الحياة، فالمادية حلت مكان الروحانية، والأنانية حلت مكان الحب والتضحية، والتشبث بالرأي، حتى لو كان خطًأ حل مكان الاعتراف بالخطأ الفكري للأشخاص من أجل مصلحة الجماعة. والسبب الرابع هو غياب الإرادة لدى بعض من أصحاب الأفكار المتشددة في مواقع النفوذ الديني، وهذا ليس من عندياتي، وإنما ما صرح به الأنبا دانيال، سكرتير المجمع المقدس، في لقاء مع قناة (سي تي في) التابعة للكنيسة قائلًا: «إن هناك أطرافًا لها (مصالح شخصية) تسعى لضرب وحدة الكنيسة واستقرارها». وأعتقد أن ما ألمح إليه قداسة البابا تواضروس حينما قال في خطابه الأخير في الفاتيكان: «اخترنا المحبة حتى لو كنا نسير عكس تيار العالم الطامع والذاتي، لقد قبلنا تحدى المحبة التي يطلبها منا المسيح» هو ذاته ما يتفق مع الفكر الكتابي الذي جاء على لسان بولس الرسول في رسالته إلى أهل كولوسي «الْبَسُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ».
إذًا المقصود بالوحدة هنا هو التكامل والتعدد الذي ينتج الثراء، وليس التفريط في الإيمان؛ هو الوصول للمحبة التي أرادها الله فينا، وليس التنظير الذاتي الأناني على حساب الحقائق التاريخية الموثقة. المقصود هنا هو الفهم الأعمق وليس التسطيح الأجوف. لكن يبدو أن البعض يرى في القطيعة أمانًا، وفي الوقت الذي يمد فيه جسور الود مع أبناء الديانات الأخرى ويحترم القوانين التي تنظم العلاقة بينهم، يقتلع بذور التوافق مع طوائف عقيدته، غير واعٍ أن الوحدة ليست تغييبًا للتفرد، بينما ينطوي رفض الحوار أو وصمه بالذوبان العقائدي والتفريط في الإيمان على مخاوف بالوراثة، ومنطق فاسد يعتبر أن فريقًا واحدًا على صواب يحظى بالخلاص، والآخرين لن ينجو منهم أحد، وهو فكر يجافي جوهر الإيمان المسيحي. هذا من جانب المنطق، أما من جانب المخاوف فالخوف من الوحدة دليل ضعف وليس دليل قوة، فالخوف يغُيِّب الحب، والحب يطرد الخوف كما قال الكتاب المقدس: «لاَ خَوْفَ فِي الْمَحَبَّةِ، بَلِ الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرَحُ الْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ» (1 يوحنا 4: 18). فإذا تغيَّر الخوف إلى حب يتم الاتحاد، وإذا أحببنا بعضنا البعض فلن نخشى التقارب ولا الحوار ولا الوحدة التي تحفظ عدم الذوبان. إن الاتفاق «الكريستولوجي» ذاته ينص على أن للمسيح طبيعتين بلا امتزاج ولا اختلاط ولا ذوبان، فهل يستعصى على المسيحيين الاتحاد بلا ذوبان؟!