يقول تنزيل الحكيم العليم الكتاب المقدس: “قولوا لخائفي القلوب تشددوا، لا تخافوا هوذا إلهكم…”
منذ أن بدأنا في إصدار جريدة الطريق لم تنقطع الرسائل الإلكترونية أو الورقية أو الشفهية عن الوصول إلينا، بعض هذه الرسائل يحمل تشجيعاً كثيراً نشكر القراء عليه، بعضها يحمل نقداً بناء أو هداماً، وهذا نشكر أيضاً القراء عليه، والقليل منها يتوعدنا بجهنم النار وبئس المصير والدرك الأسفل من السعير وهذا أيضاً نشكر القراء الأعزاء عليه. يكفي أننا أثرنا فيهم إن سلباً أو إيجاباً وأنهم قطعوا من أوقاتهم وطاقتهم للكتابة إلينا. نعم نحن لكم جميعاً شاكرون واعدون أننا سنبذل قصارى جهدنا لنكون عند حسن ظنكم وسنعمل معاً على بناء الإنسان العربي فكرياً وثقافياً ودينياً واجتماعياً أينما كان.
لكن أغرب هذه الرسائل التي وصلتنا وأكثرها دلالات وتأثيراً كانت تتضمن سطراً واحداً، وأهمية هذه الرسالة وغرابتها لا ترجع فقط لأهمية قائلها، وهو مسئول كبير في مصر، بل ترجع إلى مضمونها الخطير الذي عبر عنه راسلها في كلمات قليلة.
الرسالة تقول: “من أين جاءتكم هذه الشجاعة لتصدروا مثل هذه الجريدة”.
والحقيقة أنني لا ألومه إطلاقاً على هذه العبارة التي تدل على نظرته المتعالية علينا نحن المسيحيين، فقد تعود الأصدقاء المسلمون على رؤيتنا كمسيحيين في حالة من الرعب والخوف والانسحاب والهزيمة والتملق.. وصراع بعضنا البعض. تعودوا أن لا يسمعوا أصواتنا إلا همساً وتلميحاً (على فرض أن هناك منا من يتكلم وهو فرض جدلي أيضاً) حتى نسوا أننا أصلاً موجودون في بلادنا.
فليس لنا رأي أو صوت يعتد به لا في الانتخابات ولا في السياسة، ولا في مشاكل البلاد الاجتماعية أو العلمية أو التعليمية ولم يتعودوا أن يسمعوا أصواتنا أو آراءنا حتى فيما يخص ديننا ودنيانا أو قضايانا المسيحية، بل على العكس تعودنا نحن أن نسمع ونسكت ولا نجادل أو نجاوب أو نعترض، تعودنا في طوابير المدارس وبرامج الإذاعة والتليفزيون أو الصحف أن نسمع ما يخالف تعاليم ديننا العظيم ومعتقداتنا الإلهية السامية، تعودنا أن نسمع الأدعية التي تدعو الله أن يثكل نساءنا وييتم أطفالنا ويقتل رجالنا، تعودنا أن لا نتطلع إلى تقديرات مرتفعة في الجامعات، فالتعيينات والترقيات وشغل مناصب المعيدين والمدرسين وأساتذة الكليات، لا يجب أن تكون للمسيحيين. ولعل خير دلالة على ذلك هو أنه في خلال ثلاثين عاماً مضت لم يحصل طالب واحد مسيحي في كلية طب الأسنان جامعة القاهرة على تقدير عام (جيد جداً) في البكالوريوس حتى لا يصبح، والعياذ بالله، من هيئة التدريس. كل هذا مع أننا كمسيحيين نمثل ما يقرب من 15% من مجموع سكان مصر وحدها ما عدا البلاد العربية الأخرى.
هذه بعض الأفكار التي تزاحمت في عقلي ووجداني وأنا أسمع مضمون تلك الرسالة، وتساءلت ما الذي أوصلنا إلى هذه الدرجة المتدنية كمسيحيين نسكن في بلادنا الملقبة بالبلاد العربية؟ والإجابة هي الخوف…
الخوف.. نعم الخوف.. الخوف هو السبب الأول ولكن ليس الوحيد، فقررت أن أبحث عن الخوف من هو، أجمع الحقائق عنه، أعرف أساليبه وحيله وألاعيبه، تأثيره على الفرد والجماعة، وطرق التصدي له وقهره وتجريده من قيوده التي كبلنا بها.
الخوف هو روح شرير نجس، هو ليس حالة من الرعب والذعر تنتاب الإنسان لسبب أو لآخر كما يعرفه الكثيرون. فحالة الرعب أو الذعر هي نتيجة لعمل روح الخوف داخلنا، لكنها ليست هي روح الخوف. لا، هو شيطان رجيم، سقط مع الحية القديمة، إبليس الوسواس الخناس، وطرد من عرش الله هو وجنوده، وأصبح متخصصاً في تخويف الناس وإرهابهم وتقييد حواسهم وإتلافها حتى يضمن سيطرته عليهم فلا يفلتون من قبضته ويصبحون في النهاية من أتباعه المخلصين والأوفياء له إلى أبد الآبدين وهم في الآخرة من الخاسرين.
فالخوف روح شرير يعمي المبصرين، يدفع قادتنا وأولى الأمر منا إلى رؤية الكنيسة على غير حقيقتها، يعميهم عن الحقيقة، أن الكنيسة في بدايات القرن الواحد والعشرين في شر عظيم وعار، يدفع أحد القسوس الإنجيليين أن يكتب مقالاً بعنوان “الكنيسة الإنجيلية بخير” ويصور لآخر أن يدفع مئات الجنيهات لنشر إعلان في جريدة رسمية يقول فيها “إلى الذين يقولون إن هناك اضطهاداً للمسيحيين في مصر” وكأنه يعيش في أوربا أو أمريكا حيث الحرية في ممارسة كل لعقيدته، وحتى في هذه الأخيرة يعاني المسيحيون فيها الاضطهاد.
الخوف روح شرير يصم آذان الخائفين فلا يسمعون لصوت محذر مخلص لا يبغي إلا مرضاة الله، بل يسمعون لأصوات الكذب والتملق والخداع وزمجرة الوسواس الخناس. الخوف روح شرير يطمس عقول الخائفين فيستبعدون الحقائق الإيمانية البسيطة المجردة ويستبدلونها بأكاذيب وأضاليل ملفقة هي من وصايا الناس ووحيهم.
الخوف روح شرير أخرس إذا تمكن من الخائف جعله يرى الشر ويسكت عنه فلا يقومه حتى بلسانه. يعقد لسان الخائف فيصمت حيث لابد أن يتكلم، فهو يسكت دهراً وإن نطق، ينطق كفراً.
بالإجمال الخوف هو روح شرير يسبب شللاً كلياً للإنسان الخائف يجعله يجلس في طي النسيان فلا يشعر بوجوده أحد.
وللتدليل على ما ذكرت أسوق لك عزيزي القارئ قصة الخواف الأول الذي وجد على الأرض وهو أبونا آدم. لقد عصى آدم ربه وأكل من الشجرة المحرمة فأحاط به روح الخوف وألقى الرعب في قلبه من الله سبحانه وتعالى، فاختبأ آدم وامرأته خلف الشجرة من الله، الذي له عينان كلهيب نار تخترقان أستار الظلام، وأخرس نفسه حتى لا يسمعه السميع العليم، وشل تفكيره فلم يفكر أن يخرج إلى المولى ويطلب عفوه وصفحه وغفرانه ورأى في المولى الديان، الجبار، المتجبر، وعمى عن أن يراه الرحيم الغفور، الصافح عن الإثم والغافر للذنوب والزلات. وعندما ناداه تبارك اسمه قائلاً: “آدم أين أنت” لخص المسكين ما أوقعه فيه روح الخوف من شلل كلي للتفكير والسمع والنظر والكلام عندما قال آدم لله تبارك اسمه: “سمعت صوتك في الجنة فخشيت (خفت) لأني عريان فاختبأت”.
الخوف روح شرير يدفع الناس للتهور واتخاذ قرارات تضرهم ثم يدفعهم لاتخاذ قرارات أخرى مضادة ومتعارضة مع الأولى هي أيضاً تضرهم. فعندما جاء الجند الرومان ليقبضوا على سيد كل الأرض الرب يسوع المسيح، خاف تلاميذه وهربوا وتركوه وحده، وخاف بطرس مقدامهم واستل سيفه وقطع أذن عبد رئيس الكهنة الذي جاء مع الجمع القابضين عليه تبارك اسمه. إن قطع بطرس لأذن ذلك الرجل يدل على خوفه ورعونة اتخاذه لقراره باستخدام السيف وما هي إلا ساعات قليلة حتى جلس بين العبيد والجواري ليدفأ، وتحت وطأة عمل شيطان الخوف عندما سئل عن المسيح تبارك اسمه من جارية قال: “أنا لا أعرف الرجل” فتارة يستخدم السيف وأخرى يجبن أمام جارية، وهذه تصرفات الضعفاء الجبناء إذا ما أصابهم روح الخوف.
حقائق كتابية عن الخوف:
لقد أفرد كتاب الله العزيز الكتاب المقدس الكثير من المقاطع الكتابية التي تتحدث عن الخوف والخائفين، فلقد علم الرحمن الخلق أنه المتسلط في مملكة الناس. قال لهم إن رئيس هذا العالم، أي الشيطان الرجيم ليس له في السيد المسيح شيء، لذلك قال لهم تبارك اسمه لا تخافوه. وعندما رأى شعبه يخافون من أعدائهم قال لهم: “لا تخف يا دودة يعقوب يا شرذمة إسرائيل” وقال أيضاً: “لا تخف لأني معك ولا تتلفت لأني إلهك”.
ولقد وضع تبارك اسمه الكثير من الحقائق الكتابية عن الخوف أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أولاً: إذا خاف المرء من الشيطان وأعوانه، أخافه الله وأرعبه قدامهم فلن يقوى عليهم، أما إذا تشدد بالرب إلهه أخاف الله سبحانه أعداءه وحطم كبريائهم وكسر رؤوسهم فقد قال سبحانه وتعالى لنبيه أرميا في القديم عن كيفية مواجهته لأعدائه: “لا ترتع (تخاف) من وجوههم لئلا (أنا الرب) أريعك أمامهم”
ثانياً: أن الخوف إهانة كبيرة للمولى تبارك اسمه عندما يصدر من أولاده وأتباعه المخلصين. فعندما أرسل تبارك اسمه الجواسيس ليتجسسوا أرض كنعان التي كانت تفيض لبناً وعسلاً، جاء عشرة من الاثنى عشر جاسوساً إلى نبي الله موسى خائفين مرتعبين من سكان الأرض يومئذ وهم بني عناق وأشاعوا مذمة الأرض فقال المولى تبارك اسمه لكليمه موسى: “حتى متى يهينني هذا الشعب”.
ويحاول الخائفون أن يدافعوا عن أنفسهم وينفوا عنهم تهمة الجبن والخوف والتخاذل بأن يستبدلوا كلمة الخوف بالحكمة، فكثيراً ما تسمع الخائفين يرددون الآية الكتابية: “رابح النفوس حكيم” والحكمة التي يتكلمون عنها ما هي إلا مظهر من مظاهر الخوف والجبن. ففي رأيهم أن رابح النفوس ينبغي أن لا يبشر بإنجيل المسيح حيث تمنع القوانين الوضعية التبشير، ولا يجوز أن يقدم الكتاب المقدس إلى الأصدقاء والأحباء في أماكن العمل والدراسة أو حتى في البيوت، حيث تمنع الحكومات هذا الفعل وتجعله جريمة يعاقب عليها القانون. والحقيقة أن هذا ما لم يقصده تنزيل الحكيم العليم. هذا ليس حكمة بل هو عين الغباء أن يطاع الناس أكثر ممن خلق الناس وأن يطاع الرؤساء والحكماء أكثر من ملك الملوك ورب الأرباب. فالآية الكتابية التي فهمها الرسل والحواريون على حقيقتها ونطقوها وعملوا بها يوم تم القبض عليهم وضربوا بسبب مناداتهم في المسيح بالقيامة هي أنه ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس، وأن من يربح النفوس هو إنسان حكيم.
الحقيقة الثالثة: هي أن الخوف كالمرض المعدي، فإذا جلس المرء في وسط جماعة خائفة تسرب له في معظم الأحيان روح الخوف. فوسيلة من وسائل التعذيب والتخويف أن تسمع صرخات المعذبين والمضطهدين عند مرورك ببعض المكاتب التي دأبت على استخدام هذه الطريقة في انتزاع اعترافات الأبرياء وإسكات أصوات الأحرار العظماء. لقد عاد العشرة جواسيس المذكورين عاليه بعد أن تمكن منهم روح الخوف، فنشروا عدواهم بين جميع الشعب، بكوا فبكى الشعب، صرخوا فصرخ الشعب، قالوا لا نقدر على امتلاك الأرض فتخاذل الشعب وأهانوا المولى تبارك اسمه كما سبقت الإشارة.
ولعل أخطر ما في هذا المرض المعدي هو أنك لا تشعر بآلامه وإعاقته إلا بعد أن يتمكن منك، ولقد تمكن منا جميعاً هذا الروح الشرير، فوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم من الذلة والمهانة.
لقد ذكرتني هذه الحقيقة بحادثة مررت بها منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، فقبل أن أقوم بزيارتي الأولى للولايات المتحدة الأمريكية، كنت أعتبر نفسي من أشجع الشباب الصاعد الواعد بالدفاع عن دين الله في الأرض المسيحية. فقد بدأت بإنشاء اتحاد الشباب المسيحي المصري في منتصف 1981 في أيام غبراء كان فيها صفوة كهنتنا وخدامنا ورعاتنا ومفكرينا في المعتقلات وغياهب السجون، تحديت الجميع، تخطيت كل الصعوبات والمعوقات، والحق لابد أن يقال، إنني كثيراً ما تقابلت مع أكبر الرتب من رجال الأمن ورجال شئون الكنائس فأحسنوا معاملتي، وعقدت الاجتماعات الكبار في القاهرة والإسكندرية والزقازيق والسويس والإسماعيلية، وبني سويف والمنيا وأسيوط وغيرها من محافظات مصر ولم يضرني أحد، فلم أنتبه إلى أنني أيضاً بالرغم من كل هذا مصاب بروح الخوف الخبيث. سافرت إلى أمريكا وهناك كنت أجلس بين جماعة من أصدقائي المسيحيين، سألوني عن مصر، وعن مسيحي مصر وعن العلاقة بينهم وبين المسلمين ترددت كثيراً في الإجابة وعندما بدأت الكلام كان صوتي خائفاً مرتعباً هامساً ولم أنتبه إلى ذلك إلا بعد أن انفجرت الجماعة في الضحك بصوت عال، وسألوني لماذا تهمس في الكلام، أنت في أمريكا مش في مصر. عندها فقط عرفت أن أشجع الشباب الصاعد في مصر هو أيضاً مصاب بروح الخوف اللعين، حمانا الله منه أجمعين.
وبهذه المناسبة أقول لرؤساء كنائسنا وطوائفنا ومذاهبنا وجماعاتنا، لقد خفتم وهربتم إلى أديرتكم وصوامعكم وصحراواتكم. ففقدنا أرضنا وعرضنا. خفتم، فأغلقت كنائسنا واجتماعاتنا. خفتم، فضاعت حقوقنا وآمالنا. خفتم، فخفنا معكم ودفنا في التراب رؤوسنا. خفتم، فخفنا معكم فعيرنا السفهاء منا ومن قومنا وأترابنا. خفتم، فخلقتم جيلاً من الجبناء ينكرون مسيحيتهم ومسيحنا. خفتم، وأضعتم جيلاً من الصغار كان يمكن أن يستخدمه المولى في رد شملنا وإحياء ديننا. خفتم، فأعطيتم الجبناء منا الفرصة أن يصعدوا على أكتافكم وظهوركم ويزاحموكم على مقاعدكم وعروشكم. واليوم حان الوقت أن تستمعوا إلى صوت الحق سبحانه وتعالى: “قولوا لخائفي القلوب تشددوا لا تخافوا هوذا إلهكم…”.
الحقيقة الرابعة: إن الله لا يعتمد على الجبناء والخائفين من أولاده في تغيير الأمور وإظهار حقه تبارك اسمه. فالنصرة قادمة من عند الله، ووعوده لشعبه ستتحقق رغم أنف الذين يظنون أن معهم مقاليد الأمور، لكن الخائفين والجبناء لن يكون لهم مكان أو نصيب بين من اتكلوا وتشددوا بالرب إلههم. لقد أراد المولى تبارك اسمه أن ينصر شعبه في القديم على جحافل وألوف من أعدائه فطلب من أحد قضاته وهو جدعون أن يذهب ويعد الشعب للحرب. خرج مع جدعون لملاقاة العدو، 32 ألف جندي، وعلم ربك علام الغيوب أن من بينهم كثير من الجبناء والخوافين فقال تبارك اسمه لجدعون “ناد في أذان الشعب، من كان خائفاً ومرتعداً فليرجع وينصرف… فانصرف من الشعب اثنان وعشرون ألفاً وبقى عشرة آلاف”.
ومن هؤلاء العشرة آلاف الباقين أرجع جدعون تسعة آلاف جندي وسبعمائة ولم يبقى معه للحرب سوى ثلاث مئة جندي. فدخل بهم الحرب وانتصر على القوم الكافرين.
ولعلي أقول بروح النبوة أن الذين يستخدمهم الرب في تحقيق وعوده في بلادنا العربية هم زمرة من الشباب البسيط لكنه مكرس، والشباب الفقير لكنهم يغنون كثيرين، الأصغر في بيوت آبائهم لكنهم سيكونون أكبر في امتداد ملكوت المسيح على الأرض، من جاءوا من عائلات وعشائر هي الذلى في بلادهم لكنهم سيتقوون من ضعف، سيهزمون جيوشاً غرباء، سيقهرون ممالك، سيسدون أفواه الأسود، سيطفئون قوة النار، سيضعون أيديهم على المرضى فيبرأون، سيحيون الموتى ويدعون الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة، وكل ما شربوا ويشربون وسيشربون من أشياء مميتة لن يضرهم حتى يعرف المصريون الرب ويعرف الرب في أرض مصر.
أما الحقيقة الخامسة: فهي أنه بالرغم من أن الخوف روح نجس شرير يعذب الناس كما قال تنزيل الحكيم العليم أن “الخوف له عذاب” إلا أنه روح جبان، هو أيضاً يخاف. وعلى المؤمن بالسيد المسيح أن يعلم أن له سلطاناً من قبل رب السماء أن يدوس الحيات والعقارب وكل قوة العدو أي كل روح شرير وأن المؤمنين باسمه تبارك وتعالى “غلبوه (أي غلبوا الشرير وأتباعه، روح الخوف وغيره) بدم الخروف وبكلمة شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت” فلقد وقف أحد الملبوسين بروح الخوف الشرير أمامه تبارك اسمه وقت وجوده على الأرض، يرتجف في خوف وارتعاب، ذلك روح الخوف الذي طالما عاش في القبور وأخاف المارة وعابري السبيل وألقى الرعب في قلوبهم. وقف أمامه غير قادر على الحركة والذهاب من قدامه جل شأنه إلا بعد أن استأذنه واستسمحه أن يأذن له ليخرج من هذا المجنون ويدخل في الخنازير التي كانت تقف على الجرف. فإما أن يخيف المؤمن بالمسيح روح الخوف ويطرده المؤمن هو وكل متعلقاته النجسة من فكره وكيانه، وإما سيطارده روح الخوف ويسيطر على حياته ويقضي عليه. أما أساليب السيطرة التي يمارسها روح الخوف، هذا الشيطان الرجيم، على عباد الله فهي كثيرة:
أولاً: إنه يقنع الناس بالأمر الواقع ويخيفهم من محاولة التغيير والمطالبة بالحقوق المدنية والدينية، فكم من الرعاة والقسوس يشكرون الله على ما نتمتع به من حرية كمسيحيين في أراضي المسلمين، مع أنهم لا يملكون الحرية لإصلاح (شباك) من الزجاج تهدم ولو بسبب اصطدامه بحجر ألقاه عليه أحد المسلمين. هم لا يملكون الحرية أن يصلحوا سور كنيستهم المهدم وإن فعلوا في الليل وتحت ستار الظلام جاءهم من يقبض على قسيسهم وأحد رجاله لينتهي بهما المطاف في ترعة من المياه، واللهم لا اعتراض على شئونك يا رب. هم لا يملكون أن يشاركوا إيمانهم بالسيد المسيح مع المسيحيين أو غير المسيحيين خارج أسوار الكنيسة وإلا لعذبهم روح الخوف اللعين، وغيرها وغيرها الكثير. وبهذا يدفعهم لقبول سياسة الأمر الواقع والرضا بأنصاف الحلول والوعود والحريات.
ثانياً:- من أساليب روح الخوف، هذا الشيطان الرجيم، في السيطرة على عباد الله أنه يملأ رأس الإنسان بالأفكار السلبية الانهزامية المخيفة فيخيف نبي الله موسى
من أن أمر قتله للمصري قد انكشف فيهرب ليتغرب عن نفسه وأرضه لمدة أربعين سنة. يذكر نبي الله دانيال بأن الأسود الجائعة تنتظره متحفزة للبطش به إن لم ينكر إلهه ويحذر الفتية الثلاثة من رفض السجود لتمثال الذهب الذي عمله نبوخذ نصر، فالأتون محمى، والملك غضبان، وقد أمر بأن يحمى الأتون سبعة أضعاف، ويعمى عيونهم وأبصارهم عن رؤية الحقيقة، إن الذي معهم أقوى من الذين عليهم، لأن الله معنا وإن كان الله معنا فمن علينا.
ثالثاً: من أساليب روح الخوف أيضاً أن يذكر المرء بالخبرات السيئة السابقة فتسمع من روح الخوف عن طريق أحد الجبناء كيف أن أحدهم أدلى برأيه في مسألة دينية أو سياسية، كيف أخذوه (من هم؟ لا يقول لك من هم) واستقبلوه بنزع الملابس، ثم نزع الأظافر، ثم نزع الجلد من اللحم ثم أطلقوا عليه الكلاب المسعورة وأخيراً (كهربوه) وعلقوه في مروحة بسقف الغرفة، والآن هو مسكين أصابه التخلف العقلي، ومصيرك سيكون مثله إن شاء المولى القدير، وكأنك تشاهد مسرحية هزلية للفنان عادل إمام.
يا أيها المؤمنون بالقادر على كل شيء، قد تحدث في الواقع هذه الأشياء لكنها لن تحدث إلا لمن يريد المولى تبارك اسمه إكرامهم بتحمل الألم لأجله، فالألم والاضطهاد ليس للخوافين الجبناء، بل للمؤمنين الأقوياء، فإن كنت تخاف من غير المولى تبارك اسمه فلن يؤذيك أحد، فأنت لا تستحق الألم والإيذاء، فكم من مؤمن مغمور لا يعرفه سوى حفنة من البشر دخل إلى غياهب السجون وخرج منها أقوي مما خرج، وخرج ليصبح حديث العالم أجمع، ففتحت له الأبواب وأصبح مؤثراً في العالم أجمع يتحدى ممالك ورئاسات.
أما العلاج الوحيد لكسر روح الخوف فهو الامتلاء من روح الله، فروح الله هو روح القوة والمحبة والنصح أو العقل السليم. فعندما يقتل روح الخوف ستنتشر رسالة المسيح في بلادنا العربية، تلك الرسالة التي تنفع كل إنسان يبحث عن الحق في عالم باطل. عندما يقتل روح الخوف بروح الإيمان بالجالس على كرة الأرض والمتسلط في مملكة الناس، تسد أفواه الأسود، فلله ملائكة مرسلة لسد أفواه الأسود، وتتغير طبيعة الحيوانات المفترسة إلى طبيعة وديعة مسالمة، وتكتب قصة الألم والاضطهاد والعذاب في كتاب المولى فتكون عبرة للمتقين.
عندما يقيد روح الخوف تتغير المكائد وترتد على رؤوس أصحابها، فقد دبر الأعداء لنبي الله دانيال أن يلقى في جب الأسود فلم تؤذه، وخرج من الجب فرحاً لأنه رأى ملاك المولى عز وجل وهو يسد أفواهها، أما أولئك الذين دبروا له هذه المكيدة فانتهى بهم الأمر في نفس الجب، جب الأسود، فلم تصل أجسادهم إلى الأرض إلا وبطشت بهم هذه الأسود. لقد ألقى الملك نبوخذ نصر ثلاثة رجال في أتون محمى سبعة أضعاف وجلس على كرسيه مزهواً بأنه تخلص من أعدائه الذين لم يسجدوا لتمثاله. وما هي إلا لحظات حتى أقامه المولى تبارك اسمه عن كرسيه وهو خائف ومرتعب إذ رأى أن الذين ألقى بهم في النار يتمشون فيها ولم تكن لرائحة النار تأثير على ثيابهم فسجد الملك لهؤلاء الرجال. والقادر على كل شيء يجعل أعدائك يسجدون لك إن تمسكت به ورفضت السجود والخضوع لغيره فهو على كل شيء قدير.
وعندما يقتل روح الخوف في الإنسان تتغير الشرائع والقوانين ليس فقط التي يمكن أن تنسخ بل تلك التي لا تنسخ كشريعة مادي وفارس في القديم. فإن كنا نريد أن تتغير الشرائع والقوانين فعلينا بالامتلاء من روح الإيمان، ليهرب روح الخوف من أمامنا وتتغير الأحوال، فدوام الحال من المحال.
أخيراً أقول لمن بعث هذه الرسالة القصيرة الخطيرة، شكراً لك على رسالتك فإنها كانت سبباً في إلهامي لكتابة هذا المقال. أما من أين جاءت لنا هذه الشجاعة فإجابتي لك جاءت لنا من إلهنا ونبينا وحبيبنا الصادق الأمين الذي لم يخدعنا يوم دعانا لنمشي وراءه ونخدمه، لم يحبب لنا الجنة بجنات تجري من تحتها الأنهار، بل قالها صراحة: “في العالم سيكون لنا ضيق” لكنه أكمل القول: “لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم” “وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر”. وحيث أنه تبارك اسمه حي إلى أبد الآبدين وهو الصادق الأمين فقد ملأ قلوبنا بهذه الشجاعة.
جاءتنا أيضاً هذه الشجاعة من رسلنا وأنبيائنا الذين تركوا لنا مثالاً في المحبة والصفح والتضحية والشجاعة وتحمل الآلام فأطاحوا بأكبر ممالك العالم وهي مملكة الرومان.
وفي النهاية أقول لك جاءتنا من كتابنا، فكتابنا علمنا أن قوة الإنسان لا في سيفه وقوسه ورمحه بل في إيمانه بشخص المسيح، وهو مليء بالأمثلة لرجال وسيدات هزموا جيوشاً وفتحوا ممالك بقوة الإيمان والمحبة وكلمة الله المعصومة من كل باطل الكتاب المقدس.
اللهم نشكرك لأنك مصدر شجاعتنا وقوتنا وفخرنا، اللهم اغفر للمسيحيين والمسيحيات الذين صوروك للعالم إلهاً ضعيفاً غير قادر على الدفاع عن أولادك وبناتك. اللهم قم في وسط شعبك جباراً تخلص من الشرور والآثام، من المكائد والآلام. اللهم شمر عن ذراعك وأظهر ذاتك للعالم والأنام، اللهم سلحنا بحمل صليبك وأعدنا للموت الزؤام، اعف عنا وارحمنا وتوفنا مع الصديقين والأبرار يا رب العالمين. آمين