كتبتُ كثيرًا وتكلمت ووعظت في العديد من الكنائس والفضائيات عن أننا نعيش في عالم روحي؛ فكما يعلمنا الكتاب المقدس أن الله روح، والملائكة أرواح، والشياطين أرواح؛ ونحن البشر – وفقًا لتعاليم كتاب الله – أرواح تسكن في أجساد لها أنفس بشرية. ليس ذلك فقط، بل قد أصدرتُ كتابًا خاصًا عن هذه الأرواح وهو كتاب ”حرب في السماويات“، الذي شرحتُ فيه بالتفصيل أعمال روح الغي وروح الإرهاب وروح رئيس مملكة فارس وروح الضلال وروح الحق، وغيرها من الأرواح المختلفة التي تعمل في عالمنا الحاضر الشرير منذ أن سقط الشيطان ليصبح رئيس سلطان الهواء، وسقط معه جنوده التابعون له ليضلوا الساكنين على الأرض، وليضلوا لو أمكن المؤمنين بالمسيح ربًا ومخلصًا وسيدًا، أولئك الساكنين على الأرض أيضًا.
وبالرغم من كثرة هذه الأرواح الشريرة وخداعها للجنس البشري، ومحاولة إخفاء نفسها عن فهم وذهن البشر، و بالرغم من نجاستها وشرها جميعًا، إلا أنني أرى أن أسوأها وأشرها وأكثرها حيلة وخداعًا هو من يُعْرَف بـ ”روح التدين“؛ ففي رأيي أن ”روح التدين“ أسوأ في صفاته وأعماله وتأثيره على البشر، وتخديره لعقولهم، وإبعادهم عن الواقع، من روح القتل أو روح الزنا أو السرقة أوغيرها، فهذه الأرواح يعرفها الكل ويدينها الكل، حتى أولئك الذين تسيطر عليهم وتقوم بتعذيبهم ودفعهم لارتكاب ما لا يبتغون؛ فهم يؤمنون ويعترفون ويقرون بأنها أرواح شريرة، تلك التي تسيطر عليهم وتدفعهم للقتل أو السرقة أو الزنا. فمَنْ مِنْ خلق الله – على اختلاف أديانهم وخلفياتهم وثقافاتهم – لا يعلم ويؤمن أن السرقة أو القتل أو الزنا من المحرمات في كتب جميع الأديان؟ حتى تلك الأديان التي تؤمن أن الضرورات تبيح المحظورات تعتبرها من الكبائر.
أما أعمال وصفات روح التدين، وما يدفع الناس إلى فعله أو ارتكابه، فهي مختفية وراء شعارات وممارسات دينية، ومناقشات وفرائض وقوانين تبدو أنها روحية صحيحة وسليمة، مع أنها جميعها ليست إلا طقوسًا وعادات وتقاليد وأوامر وفروضًا ومحللات ومحرمات لا تغسل من يمارسها من آثامه وخطاياه، ولا تعطه القوة على العيش الصحيح مع الله أو السلوك المرضي أمامه سبحانه، ولا تعطي للمستعبدين لها السلام والمحبة في الأرض، ولا تضمن لهم مكانًا بهيجًا آمنًا يذهبون اليه في الآخرة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، وهي ليست ذات قيمة ما من جهة إشباع البشرية، كما عبر عنها كتاب الكتب الكتاب المقدس، بل هي كالمخدر الذي اعتادت الغالبية العظمى من المدمنين لها من رواد الكنائس – على اختلاف طوائفها ومسمياتها – على تعاطيها، لتريح المدمن بها من التفكير في آلامه وظروفه القاسية وإحباطاته. لذا، فقد أصاب الهدف من قال إن الدين – أو بمعنى آخر التدين – أفيون الشعوب، هذه مقولة صحيحة لكنها تتوقف على مفهوم كلمة الدين والتدين، فإن كان مفهوم الدين عند قائل هذه العبارة هو التدين أو محاولة تطبيق وصايا وأوامر ونواهٍ وُضعت في كتاب أي دين، إذًا فالتعريف صحيح، أما إذا كان مفهوم الدين عند قائلها هو الحياة الروحية الجديدة السامية التي في المسيح إذًا فهذا مفهوم خاطئ ١٠٠٪١٠٠. فالمسيح يسوع – تبارك اسمه – لم يأتِ ليؤسس دينًا على الأرض بعد موته وصعوده الى السماء، ولا ليكتب كتابًا دينيًا – سواء بيده أو بواسطة كتبة أو حفظة الوحي وكتابه – لا في كتاب واحد أو سبعة كتب، أو أن يمليه على حوارييه ليكتبوه أو يقوموا بجمعه في نسخ وقراءات متعددة بعد موته ثم يحرقوا منها الكثير ويبقوا على نسخة تصبح هي المنزلة والمحفوظة في لوح في السماء، وعلى الجميع حفظها وتلاوتها والإيمان على أنها النسخة الصحيحة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ بل جاء – كما قال بفمه الطاهر – ليكون لنا حياة ولتكون لنا أفضل حياة، ويجعلنا نحن أنفسنا – المؤمنين به سيدًا وربًا وإلهًا – كتابه المعروف والمقروء من جميع الناس. ولذا، فكلمة دين أو ديانة، بمفهومها المذكور هنا في هذا المقام، لم ترد في الكتاب المقدس كله إلا مرتين، وكلاهما في عدد ٢٦ و٢٧ من الأصحاح الأول من رسالة يعقوب، في قوله: ”إن كان أحد فيكم يظن أنه دين، وهو ليس يلجم لسانه، بل يخدع قلبه، فديانة هذا باطلة. الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هي هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم.“ إذًا، فروح التدين ليس هو روح المسيح يسوع، تبارك اسمه، أو حتى روح من عنده أو من ملائكته سبحانه، بل هو روح شرير – كما سبقت الإشارة – من عند إبليس الساقط والمغضوب عليه إلى أبد الآبدين. وأبسط دليل على ذلك هو أن الناس في الشرق الأوسط – وخاصة في مصر – يوصفون دائمًا بالمتدينين، وهذا حق وصحيح؛ ومع ذلك، فأحدث البحوث والإحصائيات التي نشرتها مؤسسة جالوب الأمريكية، في تقريرها السنوي عن التدين حول العالم، كانت نتيجتها أنه من بين ١٤٣ دولة أجرت المؤسسة البحث عليها كانت مصر هي الأولى في التدين، وفي نفس الوقت، في منظمة النزاهة العالمية، احتلت مصر المرتبة ٦٧ بين ٩٢ دولة أجرت المنظمة عليها بحثًا عن مستوى الشفافية والوضوح في الدول المختلفة.
والسؤال: كيف تحتل مصر المركز الأول من أصل ١٤٧ دولة في التدين، وفي نفس الوقت تحتل المركز ٦٧ من أصل ٩٢ دولة في الوضوح والشفافية؟ أما كان ينبغي أن تحتل مصر المركز الأول في الشفافية لأنها تحتل المركز الأول في التدين؟! أليست نتيجة طبيعية أنه كلما زاد التدين زادت الشفافية وزاد الوضوح والعكس صحيح؟ ألم ينفع مصر تدينها في شيء عندما نأتي إلى الشفافية والوضوح؟! واليوم لدينا أكثر من ٢٥ مليون قضية في المحاكم المصرية، أي بمعدل قضية لكل أربعة مواطنين في مصر، أما كان ينبغي أن تكون عدد القضايا في المحاكم المصرية أقل ما يمكن، نظرًا لأننا أكثر الدول تدينًا؟! ألا يزرع التدين الرحمة والمودة والشفقة والسلام بين الناس فتقل الخلافات والسرقات والانحرافات والتحرشات وغيرها؟!
الإجابة البسيطة الواضحة للسؤال السابق هي: ”لا“. التدين لا يجعل الناس أكثر شفافية ووضوحًا ولا يقلل مشاكلهم وقضاياهم، بل على العكس تمامًا، فالتدين يجعل من الناس – على اختلاف أديانهم وثقافاتهم وخلفياتهم – ممثلين يظهرون عكس ما يبطنون، ويضعهم تحت ضغوط من المجتمع الديني فيطلقون لحاهم ويمسكون بالمسابح، ويقرؤون الكتاب – أي كتاب – في المواصلات العامة بصوت مرتفع، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بصوت عالٍ في الأماكن العامة وهم أهل المنكر وأبعد ما يكونون عن المعروف. أولئك هم النسخة المصرية، العصرية، الجديدة، للذين قال لهم السيد المسيح – تبارك اسمه: “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون (المتدينون) المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس، فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون! ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون (المتدينون) المراؤون لأنكم تأكلون بيوت الأرامل ولعلة تطيلون صلواتكم، لذلك تأخذون دينونة أعظم. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون (المتدينون) المراؤون لأنكم تطوفون البحر والبر لتكسبوا دخيلاً واحداً، ومتى حصل تصنعونه ابنًا لجهنم أكثر منكم (المتدينون) مضاعفًا! ويل لكم أيها القادة العميان (المتدينون) القائلون: من حلف بالهيكل فليس بشيء ولكن من حلف بذهب الهيكل يلتزم! أيها الجهال والعميان (المتدينون) أيهما أعظم: الذهب أم الهيكل الذي يقدس الذهب؟ ومن حلف بالمذبح فليس بشيء ولكن من حلف بالقربان الذي عليه يلتزم! أيها الجهال والعميان (المتدينون) أيهما أعظم: القربان أم المذبح الذي يقدس القربان؟ فإن من حلف بالمذبح فقد حلف به وبكل ما عليه، ومن حلف بالهيكل فقد حلف به وبالساكن فيه، ومن حلف بالسماء فقد حلف بعرش الله وبالجالس عليه! ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون (المتدينون) المراؤون لأنكم تعشرون النعنع والشبث والكمون وتركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان. كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك. أيها القادة العميان (المتدينون) الذين يصفّون عن البعوضة ويبلعون الجمل! ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون (المتدينون) المراؤون لأنكم تنقون خارج الكأس والصحفة وهما من داخل مملوآن اختطافًا ودعارة! أيها الفريسي (المتدين) الأعمى نق أولاً داخل الكأس والصحفة لكي يكون خارجهما أيضا نقيًا. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون (المتدينون) المراؤون لأنكم تشبهون قبورًا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة. هكذا أنتم (المتدينون) أيضًا: من خارج تظهرون للناس أبرارًا ولكنكم من داخل مشحونون رياءً وإثمًا! ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون (المتدينون) المراؤون لأنكم تبنون قبور الأنبياء وتزينون مدافن الصديقين وتقولون: لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء! فأنتم تشهدون على أنفسكم (المتدينون) أنكم أبناء قتلة الأنبياء. فاملأوا أنتم (المتدينون) مكيال آبائكم. أيها (المتدينون) الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم؟ لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة، فمنهم تقتلون وتصلبون، ومنهم تجلدون في مجامعكم وتطردون من مدينة إلى مدينة، لكي يأتي عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن برخيا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح“.
لذا نرى، من كل ما تقدم، أن التدين لا ينفع شيئًا، بل يضر المتدينين، أما الحياة في المسيح ومع المسيح ولأجل المسيح ووفقًا لتعاليم المسيح والروح القدس، روح المسيح، فهي الحياة الصحيحة الباقية والتي لها مجازاة إلى أبد الآبدين.
وكثيرًا ما خلط الناس – إن عمدًا أم جهلاً بالأمر – بين مفهوم كلمة التدين وبين حقيقة الحياة والسلوك بالإيمان مع المسيح يسوع. ولعله من الترتيب الإلهي أن يرسل لي أحد أصدقائي – الآن وقت كتابة هذا المقال عن روح التدين – يرسل لي فيديو لرد غبطة البطريرك تواضروس الثاني على سؤال لأحد أبناء الكنيسة الأرثوذكسية عن ميل الشباب الأرثوذكسي إلى اللا طائفية وذهابهم لحضور اجتماعات ولقاءات غير أرثوذكسية. قال غبطة البطريرك في إجابته عن السؤال: ”فيه ظاهرة ابتدأت تظهر من مصر الجديدة اسمها ”المسيح يكره التدين“، أيضًا هناك العديد من اللقاءات والمحاضرات التي يحضرها ويحاضر فيها أساقفة مختلفون عن فكرة ”المسيح يكره التدين“، كتلك المحاضرة التي ألقاها للشباب الأنبا ”زوسيما”، بحضور الأنبا موسى أسقف الشباب حول نفس الفكرة، وكلها تخلط بين مفهوم الدين والتدين. وفي رأيي أنها لا تكشف بوضوح عن الخط الدقيق الفاصل بين كلمة الحياة في المسيح والحياة في الدين، أيّ دين وُجد على الأرض. فالمسيحية ليست دينًا أو ديانة تتبع بل هي حياة روحية شخصية في المسيح، ووفقًا لكتابه – الكتاب المقدس – وبمعونة وقيادة وتمكين الروح القدس للمؤمنين بالمسيح أن يعيشوا حياة المسيح على الأرض.
ولعل السؤال الجوهري هنا: كيف أميز وأكتشف إن كنت أنا كإنسان – في أي مكان وفي أي دين أو دولة أو طائفة أو مذهب – إن كنت شخصًا متدينًا مسيطرًا علي من روح التدين، أو إنني شخص روحي أعيش وفق تعاليم المسيح يسوع – تبارك اسمه – والروح القدس؟ وللإجابة على هذا السؤال أذكر على سبيل المثال لا الحصر:
١- روح التدين يحبب الناس ويرغِّبهم في عبادة الله، لكن بطريقة الإنسان، بعيدًا عن طريقة الله التي أعلنها في الكتاب المقدس. فمما هو واضح أن نشاط روح التدين قد بدأ منذ خلق الله لآدم وحواء في الجنة، وإعطاء الخالق إياهما أول وأهم وأخطر الوصايا الإلهية للإنسان، حيث قال لآدم: ”من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت“. فأكل آدم وامرأته فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فأرادا إصلاح خطأهما وتغطية عوراتهما، فخاطا لهما أوراق التين وصنعا لهما مآزر، ولم يفكرا أن أوراق التين لا تصمد أمام أشعة الشمس، وإن صمدت فكيف لها أن تصمد أمام لهيب نار عينين من له عينان تخترقان أستار الظلام وهو سبحانه نار آكلة. ولم ينقذهما من ورطتهما وإثمهما إلا ما كساهما إياه العليم بكل شيء، من أقمصة صُنعت من جلد الذبيحة. ومنذ ذلك الحين ولايزال الشيطان عدو النفوس يستخدم روح التدين في إبعاد الناس عن الخالق سبحانه، بمحاولة إرضائه تعالى بطرقهم واختياراتهم وتقاليدهم وعاداتهم واستحساناتهم البشرية، وليس بطريقته ووفقًا لأوامره هو سبحانه؛ فعندما قدم كل من الأخوين قايين وهابيل ذبيحتهما لله، قدم هابيل تقدمته وفقًا لتعاليم المولى وأوامره، والمثال الذي اتبعه سبحانه في التعامل مع أبويه، من خلال الذبيحة، فقدم من خيار غنمه وسمانها، أما قايين أخوه، فقدم تقدمته على هواه وبطريقته الخاصة من ثمار الأرض الملعونة، والتي قال عنها المولى – تبارك اسمه – لآدم أبيه عنها: ”ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكًا وحسكًا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل“. فكانت النتيجة أن قبل الله سبحانه هابيل وتقدمته لأنها مقدمة بروح الله وفقًا لأوامره ومتطلباته، ورفض تقدمة قايين، لأنها قدمت بإيعاز من روح التدين وبطريقته الشريرة.
٢- روح التدين يسعى جاهدًا أن يقيم نوعًا ما من الوحدة، أو على الأقل شراكة في العمل، أو حتى في الخدمة أو في العمل الروحي، بين الطوائف المسيحية المختلفة، أو أصحاب الديانات الأخرى اليوم، أو حتى في أيام العهد القديم، بحجة مد الجسور بيننا وبينهم، أو إظهار محبة الله التي في المسيح لهم، أو لنكسب منهم البعض للحياة الأبدية ومساعدتهم على الإفلات من عذاب القبر والنار. ففي العهد القديم، أيام النبيين نحميا وعزرا الكاتب، عندما عزم نحميا وأخذ في بناء هيكل الله في أورشليم القدس، طلب منه الفلسطينيون والعرب، ممثلين بطوبيا العبد العموني وجشم العربي وسنبلط الحوروني الذين كانوا يقيمون في مدن عديدة حول أورشليم، أن يجتمعوا معه ويبحثوا أمر بناء هيكل الله في أورشليم. لكن نحميا كان من الدراية والخبرة الروحية وتمييز الأرواح بوضوح بحيث أنه رفض رفضًا باتًا طلب هؤلاء الفلسطينيين والعرب أو حتى اللقاء بهم. في هذا يقول الكتاب المقدس: ”ولما سمع سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العموني وجشم العربي هزأوا بنا واحتقرونا، وقالوا ما هذا الأمر الذي أنتم عاملون؟ أعلى الملك تتمردون؟ فأجبتهم وقلت لهم إن إله السماء يعطينا النجاح ونحن عبيده نقوم ونبني. وأما أنتم فليس لكم نصيب ولا حق ولا ذكر في أورشليم“. وليس نحميا فقط، بل عزرا الكاتب أيضًا عمل نفس العمل وأجاب نفس الإجابة عندما طلب منه أعداء شعب الله أن يشتركوا معه في بناء الهيكل؛ يقول الكتاب في هذا الشأن: ”ولما سمع أعداء يهوذا وبنيامين أن بني السبي يبنون هيكلاً للرب إله إسرائيل. تقدموا إلى زربابل ورؤوس الآباء وقالوا لهم: نبني معكم لأننا نظيركم نطلب إلهكم، وله قد ذبحنا من أيام أسرحدون ملك آشور الذي أصعدنا إلى هنا. فقال لهم زربابل ويشوع وبقية رؤوس آباء إسرائيل: ليس لكم ولنا أن نبني بيتًا لإلهنا، ولكننا نحن وحدنا نبني للرب إله إسرائيل كما أمرنا الملك كورش ملك فارس“.
أما في العهد الجديد، وفي زماننا هذا الذي نعيش فيه، يستخدم ”روح التدين“ نفس الاستراتيجية الشريرة القديمة لكن بأسلوب روح التدين المسيحي مع المتدينين، فيستخدم ما ورد في الكتاب المقدس من صلاة قدمها الرب يسوع المسيح في الإنجيل بحسب البشير يوحنا بالأصحاح السابع عشر الآية ٢٢، عندما صلى السيد له المجد وحده قائلًا لله الآب: ”ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد“. ولعل هذه النقطة بالذات تبدو غريبة وشاذة ونشاذًا في سياق حديثنا عن روح التدين الشرير، فكيف لروح التدين وهو روح انقسام ومجادلات وتفرقة أن يعمل على إيجاد وحدة بين الطوائف والمسيحيين بعضهم مع بعض، من جانب، وبين أصحاب الديانات الأخرى، من الجانب الآخر؟ هل يستقيم هذا الكلام مع طبيعته الشريرة وسياساته اللئيمة؟ وإجابةً على هذه الجزئية بالذات أقول إن أسهل الطرق لإحداث إنقسام واختلاف وتباعد بين الناس أو الطوائف المسيحية هو العمل، من قِبَل الرجيم، على اتحادهم بعضهم ببعض؛ فعندما يبلع قادة الطوائف المسيحية طعم صلاة المسيح المذكورة عاليه بواسطة روح التدين، ويجتهدون من أنفسهم وبإمكانياتهم الشخصية، ووفقًا حتى لنواياهم الطيبة ورغباتهم الحقيقية، في الاتحاد معًا لتحقيق صلاة المسيح، دون أن يتفقوا على أساسيات الإيمان الواحد الذي لنا في المسيح، ودون أن يتواضعوا ويطلبوا من الروح القدس أن يصهرهم في بوتقته كوحدة واحدة، يكون اتحادهم هذا ليس من القدير في شيء، وبالتالي لا يستمر، أو لا يثمر إلا انقسامًا وخلافًا وعداوة، فتتسع الهوة بينهم وتتباعد المسافات الفاصلة لهم، وعندها يشعر الإخوة المتصارعون والمتباعدون – أيضًا بروح التدين – أنهم لم يتمموا كلام المسيح وصلاته، فيعاودوا الكرة مرة أخرى فيخفقوا مرة ومرات. لذا فالحل الوحيد لمقاومة روح التدين في هذه الجزئية هي أن يتحد الكل في المسيح وخلاصه وغفرانه وتمييزه للأرواح المضادة، إلى أن يتصور المسيح في الجميع بالروح القدس، ويحيا الجميع وفقًا للمبدأ الكتابي الذي ذكره بولس الرسول في قوله: ”أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ“. وعندها، لن يجد روح التدين مكانًا فينا أو بيننا كمسيحيين وطوائف ومذاهب وغيرها.
٣- الأمر الثالث الذي يعمله روح التدين مع المسيحيين هو أنه يحاول أن يضمن أن من يتبع المسيح يعيش باستمرار في حالة من الصراع الدائم بينه وبين نفسه، وبينه وبين التعاليم المسيحية الصحيحة، وبينه وبين من يخالفونه في الطائفة أو العقيدة أو الدين، فيعيش المرء دائم السؤال عما هو حلال أو حرام، ويحاول اتباع وتنفيذ ما يمليه عليه الآخرون – وخصوصًا من القيادات الكنيسة – من أوامر ونواهٍ، سواء في ما يتعلق بالصلاة وطقوسها، أو الصوم وممارساته، ماذا يأكل في هذا الصوم وما ينبغي أن لا يتذوقه، وكم يومًا يصوم في العيد الصغير وكم يومًا يصوم في العيد الكبير، وفي أي صوم يُسمح له بأكل السمك والبيض أو لا يسمح، وما هي الأشياء التي إن فعلتُها حتى سهوًا أصبح في عداد الفاطرين، أي كاسري الصوم، وغيرها الكثير مما شابه ذلك. ونتيجة لكل هذا يتولد صراع دائم وإحباط أكيد ومفارقة واضحة بين ما يريد الإنسان أن يفعل في داخله وما يعمله بالفعل في الواقع، ويشابه في اختباره هذا ما كتبه بولس الرسول عندما صرخ وقال: ”فإني أعلم أنه ليس ساكن في، أي في جسدي، شيء صالح…… لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل….. ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟“
٤- أمر آخر يعمله روح التدين هو وضع مقاييس أرضية وتفسيرات بشرية ونظريات وتعاليم إنسانية لا ذكر لها في الكتاب المقدس – بل وفي بعض الأحيان تكون عكس ما جاء بالكتاب – ليتبعها الناس ويكونوا تحت سيطرتها. فيقسم قادة الكنيسة إلى رتب ورياسات ونوعيات مختلفة ممن دعاهم كلهم المسيح بكلمة أخ في قوله – تبارك اسمه – عن المؤمنين بالله الواحد المثلث الأقانيم جميعهم: ”أخبر باسمك إخوتي وفي وسط الجماعة أسبحك“. لكن روح التدين يعمل من الإخوة المتساوين أمام الله ”بابا“ ثم ”أسقفًا“ ثم ”قمصًا“ ثم ”كاهنًا“، وفي طوائف أخرى ”قسًا“ ثم ”شيخًا“ ثم ”شماسًا“ ثم أخًا عاديًا، وهذا في عرفهم أقل المكانات في الكنيسة. ليس ذلك فقط، بل لابد من تمييز كل طائفة منهم للرتب بشيء يختلف عن الآخر، إما في شكل العمة التي يلبسها الفرد، أو في نوع ثيابه، أو ياقته التي تحيط بعنقه، أو بالشريط الأحمر أو الأبيض والحمامات التي تزينه، أو البالطو الأسود المزركش ذو الأهداب والثنايا والألوان المختلفة، المهم أن يكون مختلفًا عن بقية الرعية بحيث تستطيع أن تميزه من غيره عند دخولك إلى الاجتماع، دون الحديث إليه أو التعرف به، ناهيك عن الأحجار الكريمة التي تزين بعض التيجان الخاصة ببعض الرتب الكنسية، كل هذا مقارنةً بأننا لم نسمع عن يسوع أو تلاميذه أو أي فصيل من مؤمني الكنيسة الأولى أنهم كانوا يلبسون ما يخالف العامة حتى يلاحظهم الناس ويتعاملوا معهم وفقًا لمكاناتهم بجماعة المؤمنين، والدليل على ذلك أنه عندما أقدم يهوذا الإسخريوطي على تسليم الرب يسوع – تبارك اسمه – إلى رؤساء اليهود، اضطر لإعطائهم علامة لكي يعرفوه فلا يلقوا القبض على غيره. ولم تكن العلامة هي ما يلبس أو ما يضع على رأسه أو يمسك في يده، فلم يكن له في كل ذلك ما يميزه عن الآخرين، فكانت العلامة هي أن يلتصق به ويقبله.
٥- يعمل روح التدين على التركيز على أقوال الآباء والأولين واعتبارها المرجع الأساسي للإيمان المسيحي حتى لو كانت مخالفة لما جاء بالكتاب المقدس، ووضع الكتب والمجلدات عن تاريخ الكنيسة التي تبرز أقوال الآباء وآراءهم، ويعتبرون أن لها نفس سلطان الكتاب المقدس، والويل لمن يختلف مع هذه الكتابات، متغاضين عن ما قاله الرسول بطرس في التأكيد على أهمية الكلمة النبوية المدونة في الكتاب المقدس وحده، لا في تاريخ الكنيسة، ولا ما رواه حتى الرسل أنفسهم مما لم يدون في الكتاب المقدس الذي بين أيدينا اليوم. ففي رسالته الثانية بالأصحاح الأول يقول بطرس الرسول: ”لأننا لم نتبع خرافات مصنعة، إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنا معاينين عظمته. لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجدًا، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى: »هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به«. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء، إذ كنا معه في الجبل المقدس. وعندنا الكلمة النبوية، وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها، كما إلى سراج منير في موضع مظلم، إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم، عالمين هذا أولاً: أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص. لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس“.
٦- روح التدين مغرم ومولع بخلط التبن مع الحنطة، المسيح مع بليعال، الترانيم والألحان والتسبيح للمسيح مع مدائح وتواشيح لغير المسيح بل ولروح ضد المسيح، المولد والميلاد، الصوفية و المسيحية، فطور وسحور رمضان مع رواد الكنائس وخدامها، إلخ.
٧- روح التدين يركز على وجود أكثر من طريق للوصول إلى السماء، ويقنع الناس في هذه الأيام أن هناك برًا آخر غير بر المسيح يمكن أن يُحسب للإنسان ويجعله مقبولاً أمام الله، غير الإيمان الإبراهيمي الذي تجسد في المسيح.
٨- روح التدين يركز على الناس وأعمالهم، ويمنح لقب قديس فقط للإنسان بعد موته، وبحكم من الكنيسة وإكليروسها ورجالها، ويضع صفات لمن يحق لهم أن يحصلوا بعد مماتهم على هذا اللقب متجاهلاً بذلك أن الكتاب المقدس يدعو كل من قبل يسوع المسيح رب السماء والأرض قديسًا في المسيح، الأمر الذي كتبه بولس الرسول في معظم رسائله عندما خاطب كنائس بأكملها بالقول: ”إلى القديسين الذين في أفسس“، أولئك الذين كانوا أحياء يرزقون لم يفارقوا الحياة بعد، ولم يذكر الكتاب لأحدهم أنه ترك الكون في ضوضائه واعتزل الكل كي يبقى معه تبارك اسمه، أو عاش متوحدًا في صحراء جرداء بين الوحوش والدبابات، أو أنه خدم في معسكرات الجزام في الهند أو السند فاستحق أو استحقت لقب قديس، أو غيرها من المعايير التي يتخذها رجال الكنيسة اليوم ليمنحوا لقب ”قديس“ لرجل أو امرأة ما، بل قد حصلنا جميعًا – كمولودين ثانية من الله في المسيح – على هذا اللقب والمقام، لأننا تقدسنا بدمه تبارك اسمه. وبالطبع لابد من أن يكون لهذا القديس شفاعته لدى المسيح لأجلنا، فتتخذ الكنائس شفعاء مختلفين من الذين رقدوا حتى يشفعوا فينا، فحق للكاهن سمعان، كاهن دير سمعان بالمقطم، أن يصرخ في سامعيه ويقول بأعلى صوته: ”ضاع المسيح في وسط القديسين“.
وفي النهاية، أقول إنه يعوزني الوقت ومساحة النشر إن كتبت بالتفصيل عن أعمال وأساليب وخداع ”روح التدين“ ومدى تأثيره المدمر على المسيحيين الأسميين الذين لم يختبروا خلاص المسيح الحقيقي، وبالتالي لم يولدوا في عائلة الله، إلا أنني أثق أن الله جعل في قلوبنا وضمائرنا وكتابنا ما يُعرف بموهبة تمييز الأرواح، والتي بدونها لا يمكن أن يكتشف أحدنا وجود هذا الروح الشرير المدعو روح التدين، وبالتالي لا يستطيع أن يقاومه، وكتحصيل حاصل، لا يمكنه أن يغلبه ويتخلص من شره. لذا، فصلاتي لنفسي وكل نفس أن يملأنا الله بروحه القدوس إلى كل ملئه، ويعطينا موهبة تمييز الأرواح في هذه الأيام الشريرة الصعبة، لنميز الطاهر من النجس، التعليم الصحيح من المزيف، صوت الراعي الصالح من صوت العدو الشرير، ما هو كتابي مما هو من أساطير الأولين. والقادر أن يحفظنا غير عاثرين، ويوقفنا أمام مجده بلا عيب في الابتهاج، الإله الحكيم الوحيد مخلصنا، له المجد والعظمة والقدرة والسلطان، الآن وإلى كل الدهور. آمين.