رائحة الحياة

19

  تعود أحداث الرواية للفترة ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد

وتدور القصة في مدينة شوشن عاصمة بلاد فارس في عهد الملك “أحشويروش” المعروف باسم زركسيس الأول الذي حكم 127 مملكة.

 (شبنة هو ابن عم الطفلة التي ماتت أمها أثناء ولادتها وسبقها أباها، اتفق شبنة مع عمته رفقة أن تُسمى الطفلة اليتيمة هداسا… كانت العمة “رفقة” هي الأم الروحية لكل أبناء عشيرتهم.. أضاع “أبيحائل” والد الطفلة، قبل مماته ثروته مع تجار غرباء ولم يحتمل الخيانة فمرض..

 الحلقة الثالثة

قُرع باب البيت قرعات متتالية كقرعات عكاز “أليعازار” جار “شبنة” وصديق عمره.. همت العمة “رفقة” لتقوم فلم تعد بنفس قوتها القديمة ولم تعد هاتان الرجلان والركبتان بنفس قوة الأمس.. أسرع “شبنة” لفتح الباب.

            دخل “أليعازار” وأمسك “المزوزاة” الموضوعة على الباب بأطراف أصابع يده اليمنى وقبلها ثم ألقى السلام على أهل البيت.

–           كيف حالك عمتي؟ كيف أنت “شبنة”؟

–           بخير..

أجابا معًا في صوت واحد.. ثم قالت العمة “رفقة”

–           اجلس مكاني “أليعازار”. عليَّ الاهتمام ببعض شئون الطعام.

و”أليعازار” رجل أربعيني ذو رأس صغير وشعره خفيف من الأمام، لديه لحية كثة تغطي وجهه المستدير، وعيناه سوداوان ومتوسط القامة، وقوي البنية..

رد “أليعازار” بينما كان يضع عكازه جانبًا ويستعد للجلوس..

–           شكرًا عمتي .. ماذا ستفعل “شبنة”؟

–           لا أعرف .. لا يمكنني أن أتخلى عن الطفلة.

–           ولكن الطفلة تحتاج سيدة ترعاها. العمة “رفقة” لا تستطيع أن ترعاها وحدها.

–           نعم ، هذا ما كنتُ أفكر فيه.

–           اترك هذه المهمة لي .. “حنة” يمكنها أن تجد حلًا مناسبًا .. مرضعة أو زوجة.

نظر إليه “شبنة” بعمق وقد فهم سبب زيارته، فرد عليه بنبرة حادة:

–           لا تشغل بالك.. ستوفر العمة “رفقة” مرضعة مع “رؤومة”.

–           آه، لو لم يخطئ “أبيحائل” ببعده عن عشيرته وسيره وراء عادات الشعوب الوثنية لما حدث له ما حدث..

–           نحن في مدينة متعددة الثقافات .. مجتمع مفتوح إغراءاته كثيرة .. وللأسف .. أغرته هذه المدينة متعددة الثقافات والعادات.

رد “أليعازار” بصوت رقيق ولكن حاد:

–           ولماذا لم تغرك أنت أيضًا؟ رغم أنك في مكان مهم وينبغي عليك كرجل دولة أن تساير العادات من حولك.. لقد أخطأ بلا شك.

قال “شبنة” بحسم وتململ وكأنه يريد أن ينهي النقاش في هذا الموضوع:

–           أنا ما أنا عليه.. وليحمني القدير من أن تزل قدمي.

فهم “أليعازار” أنه لم يرد التحدث في الأمر فغيَّر الموضوع متسائلًا:

–           هل حقًا سيدخل الملك “داريوس” الحرب؟

هز “شبنة” رأسه وهو يتناول من العمة رفقة مشروبين ساخنين له هو و”أليعازار”.

–           الأخبار تنبئ بحرب مع الشعب الأثيني لأنهم يساعدون اليونانيين في غرب آسيا الصغرى على الثورة.

–           آه.. هناك دائمًا المزيد من الحروب، ولكن ماذا أخذنا منها؟ دائمًا هناك خسائر.

–           ولكننا لا نستطيع أن ننكر ما فعله في الطريق الجديد.

–           آه، سمعتُ أنه طويل جدًا ويصل للأماكن النائية.

–           نعم، أهم شيء أنه يمر بشوشن، فقد كانت الأخبار والأوامر الملكية التي نرسلها للولايات تصل متأخرة نصف عام على الأقل.. أما الآن فالمسافة التي يصلها شخص في ثلاثة أشهر أصبحت تُقطع في أسبوع واحد. على الأقل هناك محطات وسيطة لراحة الفرسان والخيول ربما تصل إلى 111 نقطة.

–           وهل تم تعبيده جيدًا؟ ألا يمر بجبال وصحاري؟

–           نعم، تم تعبيده بعبقرية بالحصى حتى لا تنزلق الأرجل أو تعلق العربات في الوحل.

–           أعتقد أن الهدف من الطريق ليس إصلاحيًا فقط..

–           طبعًا، الطريق ليس لتوصيل المراسيم الملكية بسرعة فقط، ولكن لتسهيل نقل أخبار بقية الدول من جواسيس الملك في هذه الإمبراطورية الواسعة.

–          هل تعلم يا “أليعازار”.. هذه الإمبراطورية هي أول مَنْ سمح بعودتنا من السبي إلى بلادنا.. نحن كتبنا المنشور..

–           نعم، ومَنْ ينسى نداء الملك “كورش”؟ كنتُ طفلًا. أذكر أن عائلتك وعائلتي تبرعتا بفضة وبذهب وبأمتعة وبهائم مع التبرع لبيت الرب.

–           نعم، ولكن في عالم السياسة، أراد الملك دولة فاصلة بين إمبراطوريته ومصر خاصةً بعد زيادة الثورات ضده هناك.. وضع في ذهنك أمرًا: ربما يكون “أهورامزدا” هو الإله الرسمي له ولإمبراطوريته لكنه من الذكاء الكافي لاستيعاب عادات وديانات الشعوب المختلفة وإلا تزايدت الثورات والإضرابات.

–           لماذا لم تتقدم ضمن المرشحين مَرزبانية لإحدى ولايات الملك العشرين؟ كان سيكون لديك نفوذ عظيم.

–           أتقدم؟ هذه المناصب توزع على الأصدقاء.. لن أترك شوشن.. هنا عاش جدي وأبي.

–           وجب عليك طلب هذا من أحد معارفك الكبار في القصر.. فشوشن ليست أرض آبائك أيضًا.. ماذا يربطك بها؟

–           لا أعرف.. هنا نشأتُ وتربيتُ.. ربما عشيرتي.. كل ما أعلمه أني لستُ مستعدًا للمغادرة.

–           حسنًا.. سأغادر أنا الآن.. أتركك في رعاية القدير.. هل تريد مني أي شيء؟

–           كلا، أشكرك.. وأشكر القدير على كل شيء.

تناول “أليعازار” عكازه ووقف وبينما يغادر المنزل قال مبتسمًا:

–           لقد أوصيتُ ابني يوسف بتجهيز خشب مناسب لأصنع سرير للصغيرة..

–           “أليعازار”.. أشكر القدير لأجل وجودك في حياتي..

ثم دخل “شبنة” غرفته وتناول رقًا من الرقوق الموضوعة في الخزانة المحفورة داخل الحائط .. جلس يقرأ ويقرأ إلى أن غالبة النعاس، فهو لم ينم ملء أجفانه منذ أتت الصغيرة!

يُتبع

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا