دَوْلَةُ الفيسبوك الدينية

3

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

منذ عدة أشهر وأنا دائم التواصل والمتابعة والاستكشاف لموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك من أجل دراسة أكاديمية استهدفت استخدام شبكات التواصل الاجتماعي في تدريس اللغة العربية بالجامعة، وأثناء إعدادي للدراسة حتى الانتهاء منها في نهايات شهر وأنا شديد الاندهاش والتعجب من وجود دول ودويلات وجمهوريات وعوالم افتراضية استحالت حقيقية على شبكات التواصل الاجتماعي.

واكتشفت أن هناك أكثر من سلطة افتراضية تحكم هذا العالم الافتراضي الذي يحتاج إلى دراسات سيكولوجية صادقة تكشف وتستبين التوجهات الثقافية لدى مستخدمي تلك الشبكات والتي تعدت توصيفها من مجرد وسائل للتنفيس عن هواجس النفس الإنسانية، أو خلق صداقات جديدة أو التواصل مع الأهل والزملاء، لأن الخطاب الذي يسود تلك الشبكات تكشف عن ثقافات ليست بالقطع نخبوية بل شعبية بعضها ما هو جمعي يشترك في صياغته كثيرون من المنتمين إلى تيارات وفصائل دينية، أو يصوغه أفراد غير منتمين إلى واقعنا المشهود.

لكن الملمح الأكثر بروزًا والذي استطعت أن اقتنصه بيُسر وسهولة هو الخطاب الديني المسيطر على عالم الفيسبوك، ولا شك أن غيري سبقني في الحديث عن التوجهات التي تسيطر على عوالم شبكات الاتصال الاجتماعي والتي ربما لا تخرج عن مشاعر السخرية والتندر من الإحداثيات الاجتماعية والسياسية الراهنة، أو اصطياد النتائج الرياضية بين الزمالك فريقي الأثير والنادي الأهلي الذي بدأ في التعافي المؤقت، أو تلك التعليقات التي تتناول موضوعات حصرية كالامتحانات أو الانتخابات أو فوازير رمضان القادمة.

لكن الخطاب الديني السائد على شبكات التواصل الاجتماعي لاسيما المستخدم من قبل الشباب يدعو إلى توخي الحذر ونحن بصدد التعامل مع هذه الفئة العمرية، فهذا الخطاب الديني يكشف عن ظواهر لا يمكن إقصاء الإشارة إليها، وأولى هذه الظواهر أن ثمة يقظة دينية واضحة لدى مستخدمي شبكة الفيسبوك توضع فيها المعتقدات الدينية التي قد كونها الشباب في مرحلة الطفولة المتأخرة والمراهقة المبكرة موضع الفحص والمناقشة، وتتعرض للتعديل حتى تتفق مع حاجاتهم الجديدة الأكثر نضجًا، وهذه المناقشة قد تدخل في مساجلات ومعارك افتراضية قد تصل إلى السباب والتخاصم بل والفجور في الخصومة وأخيرًا حجب بعض الأصدقاء عن التعليق أو المشاركة الإلكترونية من الأساس.

ويزيد من اهتمام الشباب بالمسائل الدينية والقضايا الفقهية أنهم مطالبون بالاشتراك في معارك الإعلام التي تتناول الحديث الديني وقضايا الاتفاق والاختلاف التي أشعلت برامج التوك شو، بالإضافة إلى أن مناقشاتهم اليومية الصباحية بالجامعة يغلب على موضوعاتها الأمور والمشكلات الدينية ومسائل التحريم والتحليل والتكفير والتفسيق، كما أن بعض الحوادث التي تقع للمجتمع كاستشهاد الجنود أو مقتل القضاة على سبيل المثال أو انتخار موظف من ضيق الإنفاق على أسرته، أو مصرع أشخاص على الطرق السريعة، أو أعمال الشغب وترويع الآمنين وحوادث التفجير المستدامة، أو الصعوبات التي يواجهها تجعلهم أكثر تركيزًا على الدين وأموره وقضاياه بوصف الأخير الملاذ الآمن الذي يحقق للمرء الاستقرار النفسي والثبات الانفعالي.

وإذا قمنا باستقراء اتجاهات الشباب الدينية من خلال الفيس بوك يمكن تصنيفها في أربع فئات؛ فئة تلتزم بقواعد الدين كما انتقل إليهم من البيئة التي نشأتهم دون ميل ظاهر إلى مناقشتها أو معارضتها أو حتى أخذها مأخذها تظهر فيه شخصيتهم وهؤلاء يقومون بنشر بعض الأدعية والحكم والأحاديث النبوية التي تحض على الطاعات والعبادات بغير جدل أو إملاءات قصدية على الآخرين، وعادة ما تكون هذه المنشورات الإلكترونية أكثر سماحة وتسامحًا من النفس ومع الآخر دون أي توجه سلطوي في العرض أو قيد في التعليق والمشاركة.  وغالبًا ما يقوم هؤلاء بعرض أغلفة لبعض الكتب الدينية والمقالات التي تبوح وتشير إلى يسر الدين ومقاصده المحمودة.

 وفئة ثانية تأخذ الدين مأخذًا أكثر جدية، تتبدى فيها محاولة الشاب محاولة شخصية دعم الدين وتبريره وتسييده على اتجاه مضاد بمعنى نشر المعالم العامة للدين وإبراز الوجه الثقافي والحضاري للتاريخ الديني ورجاله الأوفياء. لكن لا يمكن توصيف هذه الفئة بالعمق الديني والتحليل السديد للمقاصد الدينية.

 وفئة ثالثة لا تقف مع الدين موقف الاستسلام السلبي، وتتفق مع الثانية في إبراز شخصيتها إزاء الدين ولكن في اتجاه نقدي، وهذه الفئة تنتمي إلى المتشككين وغالبًا ما يتشاركون إلكترونيًا وفق الحوادث والمناسبات الشخصية مثل وفاة شخص عزيز أو اقتراب موعد اختبار أو الفصل من وظيفة أو الالتحاق بوظيفة قريبة.

أما الفئة الرابعة والأخيرة: فهي فئة المنكرين لله إنكارًا واضحًا، والدهشة التي أفزعتني هو وجود وانتشار هذه الفئة بصورة كبيرة، والتعجب ليس فقط من انتشار هؤلاء على صفحات التواصل الاجتماعي الإليكتروني، بل التعجب والدهشة مفادها أن وجود هؤلاء يتنافى مع حالات ومشاهد المد الديني القوي والكبير لاسيما عقب اعتلاء جماعة حسن البنا حكم البلاد والعباد وتسيد الجماعة وتحكمها في مفاصل الدولة الأمر الذي واكبه انتشار حاشد للقنوات والصحف والمواقع الإلكترونية الدينية التي لم يكن عليها أي رقيب حتى من المؤسسة الدينية الرسمية الأزهر الشريف الذي كان خارج السيطرة وأقلام كثيرة وصفت المؤسسة آنذاك بأنها كانت منتهية الصلاحية لفقدانها السيطرة والتوجيه للمشهد الديني وقتئذ.

          وموقف هؤلاء يختلف عن موقف الفئة الأولى في تحررهم من الاستسلام والسلبية، وتتفق مع الثانية في الحسم، ولكنه حسم مضاد.  والتوجه الديني عند الشباب يأخذ إحدى صورتين؛ الأولى هي توجه ديني ظاهري، وصاحبه غير ناضج انفعاليًا، وغير متزن انفعاليًا، حيث إن دوافعه الأولية تتحكم في سلوكه، كما أنه غير ملتزم بتعاليم دينيه ومعتقداته. وفي هذا يعتبر عدم صدق النية، وعدم إخلاص الفرد في عمله وقوله لله عز وجل، تدينًا ظاهريًا، ومثل ذلك الشخص الذي ينفق ماله في وجوه الخير ويتصدق بها على الفقراء دون أن يقصد به وجه الله وبداخله حب الثناء والتقدير من الآخرين.

وهذا الشباب يلجأ للدين ويتمسح به وفق الحاجة وربما أحيانًا كثيرة وفق التأثر الذي يخضع له عن طريق الاستماع أو حضور محاضرة أو ندوة دينية، أو تأثر بشخصية دينية إعلامية، أو تابع فيلمًا وثائقيًا عن أحد رجال الدين، أو لأن أصدقاءه ينتمون لجماعة أو فصيل ديني معين، فهو اقتراب يعكس انتقال أثر التعلم والتأثر والاكتساب المباشر السريع الذي سرعان ما تنقضي أيامه وأوقاته.

أما الصورة الثانية، وهي التوجه الديني الجوهري، وصاحبه هو الذي يعيش دينه ويعده الغاية، وإن اختلفت سبل ووسائل المشاركة عبر الفيسبوك، ويعمل طبقًا لتعاليم دينه ويطبق ما أمر الله به، والإيمان بالعقيدة هو الدافع للحياة. أما الحاجات الأخرى فهي ذات أهمية ثانوية، ويمكن تكييف هذه الحاجات وتطويرها لكي تخدم الدين وتعاليمه.

لكن تنبغي الإشارة والتوجيه إلى أن الكثير من الشباب يرى في الفيسبوك مخرجًا لهم يبوحون من خلاله بانتماءاتهم الدينية التي ربما تحمل بعض مشاعر الاحتقان والتهميش للآخر ورصدًا ذاتيًا سريعًا لكل حوادث ومشاهد الوطن وفقًا لمنظوره وأيديولوجيته هذا إن كانت أصلاً لديه أيديولوجية وإطار ثقافي يتحكم في تفكيره وسلوكه، وربما يجدون في الفيسبوك بوابة سحرية للتعبير بل والجهر بآرائهم التي ربما لا تحمل قدرًا كبيرًا من الصواب والاتزان الديني، لأن الدين يحتاج إلى ممارسات أكثر من الاعتكاف على الكيبورد الذي عادة ما اعتاد الخيانة وفقًا لحركة الأنامل، ناهيك عن كم وكيف الفتاوى التي يصدرونها دون وعي أو روية أو دراية، والأدهش أنهم يحملون على عاتقهم مسئولية حوار الأديان.

وبدافع الفضول أقرأ ما يقوم هؤلاء بنشره من موضوعات، فأجدني أقوم بتأويل تلك المنشورات على أنهم في حالة هوس شخصي وتخبط وعدم استقراء جيد لواقعهم، ولا يمكن اعتبار أن تحللهم الديني نوع من الحرية الشخصية أو حرية المعتقد، لأن عدم الانتماء الديني هو في الأساس انتقاص من صفة الإنسانية أو من قيمة الفرد تجاه مجتمعه ووطنه، وتخلي سافر عن المسئولية الفردية تجاه الوطن. حتى أن الموضوعات التي تتم مناقشتها عبر صفحات هؤلاء الشباب المتخبط تكشف عري الثقافة الدينية والاهتمام بعناوين الفتاوى الساخنة أو الآراء الجدلية التي تحتاج إلى دراسة عميقة وقراءة واسعة وموسوعية أيضًا.

وخلاصة الأمر إن شبكة التواصل الاجتماعي (الفيسبوك) أحدث حراكًا دينيًا بين الشباب لاسيما وأن المشهد الراهن أصبح يتسم بالتسارع في تصريحاته ومواقفه وقضاياه، فبين دعوات خلع الحجاب، وممارسة الجنس قبيل الزواج، والتعدي على أصحاب ومدوني كتب الحديث الشريف، ومنكري السنة، والحديث عن شرعية المعزول محمد مرسي، وفضائح الفنانات، ومشاهد عري الكليبات الفاضحة، وحكم ارتداء لاعبي الكرة للشورتات القصيرة، ومشاهدة الفتيات لمباريات التنس والسباحة قصص وحكايات إلكترونية تحتاج إلى صفحات وكتب ومجلدات تروي هذه الأقاصيص والآراء صوبها.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا