دارون وما بعد

2

د. مراد وهبة

كان الفيلسوف هيجل واهمًا عندما تصور أنه فيلسوف الدولة، ومن ثَمَّ ينتهي التطور، إلا أن التطور أمر لازم ومطلوب. ولا أدل على ذلك من نشوب الثورات بعد رحيل هيجل، وفي الصدارة نظرية التطور عند دارون (1809 -1882) والتي أصدرها في كتاب «أصل الأنواع» (1859). وبعد اثني عشر عامًا أصدر مؤلفًا عنوانه «تسلسل الإنسان» أثار فيه مسألة أصل الإنسان، وكان قد تركها معلقة. وفي رأيه أن الفارق بين الإنسان والحيوان هو فارق في الكم وليس فارقًا في الكيف. وسبب ذلك مردود إلى أن دارون لا يفرق العقل والحس. فمن يملك الحس يملك العقل. والحيوان لديه حس. إذن فلديه عقل. ويترتب على ذلك أنه يمكن القول إن الكائنات الحية على تنوعها إنما صدرت عن أصل واحد، وإن بقاء بعض الكائنات وتطورها إنما يتم بمقتضى قانون الانتخاب الطبيعي أو البقاء للأصلح. والنتيجة الحتمية هي أن القيم الدينية والأخلاقية يمكن تفسيرها بيولوجيًا طبقًا لقانون الانتخاب الطبيعي. وقد انتشرت هذه النظرية البيولوجية في إنجلترا، لأنها تتفق مع الثورة الصناعية التي تتميز بتحكم الروح الفردية والمغامرة وعدم تدخل الحكومة.

وفي هذا المناخ الاجتماعي عاش كارل ماركس (1818- 1883) ثورات اجتماعية واقتصادية بعضها أصيب بنكسة وبعضها الآخر لم يصب فتقدم إلى الأمام. وقد لازمت هذه الثورات اتجاهات تحررية واتجاهات تزمتية. وحيث إنها اتجاهات متناقضة فيلزم تفسيرها. وعندئذٍ ارتأى ماركس أن تفسيرها يلزم أن يكون ديالكتيكيًا على غرار ديالكتيك هيجل، إلا أنه تناوله من حيث الشكل، وليس من حيث المضمون، لأن المضمون روحي، وهو يعني عند هيجل أن الروح المطلقة هي الأصل والبداية في التطور، وهذا مرفوض من ماركس، لأنه يراه مقلوبًا رأسًا على عقب ويلزم أن نقلبه من جديد، لأن المادة هي الوجود الحقيقي ومحكومة بقوانين الديالكتيك. وهنا يطبقه ماركس على التاريخ الإنساني. فكيف يراه؟ يراه على أنه صراع الإنسان ضد الطبيعة.

وبفضل هذا الصراع، تنشأ الأنظمة الاجتماعية. والنظام الاجتماعي يقوم على النظام الطبقي، بمعنى أن المجتمع جملة طبقات، وهذه الطبقات في حالة صراع بفضل ظاهرة تقسيم العمل. وفي هذا السياق، نشأ الصراع بين الإقطاعيين والفلاحين، ومن ثَمَّ نشأت طبقة جديدة هي طبقة أصحاب الحرف اليدوية التي تطورت إلى أصحاب رؤوس الأموال بحكم الثورة الصناعية وبزوغ الصناعة الآلية. ويقوم بينهما صراع ينتهي إلى الانتقال إلى النظام الاشتراكي. والنتيجة الحتمية هي القول إن التاريخ البشري ليس إلا تاريخ الصراع الطبقي. والذي يحدد تاريخ هذا الصراع، في رأي ماركس، مردود إلى قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج – قوى الإنتاج تعني الموارد الطبيعية والآلات والعمل، وعلاقات الإنتاج تفيد أن العلاقات الاجتماعية إنما تتحدد بفضل قوى الإنتاج، ومن ثَمَّ تتصف هذه العلاقات بأنها إنتاجية. وهذه العلاقات بدورها تؤثر في تكوين القيم الاجتماعية والأخلاقية والدينية.

وهذه القيم تمثل القشرة الفوقية للنظام الاقتصادي. والنتيجة الحتمية هي أن تغيير قوى الإنتاج يؤدي إلى تغيير القيم. والذي يملك هذه القيم هو الذي في إمكانه التحكم فيها ويغيرها. التاريخ إذن ليس من صنع الروح المطلقة كما يتصور هيجل، إنما هو من صنع البشر بشرط أن تتم هذه الصناعة في ظروف اقتصادية، وهي ظروف ضرورية وإن لم تكن كافية. وعدم كفايتها مردود إلى لزوم توافر عنصر آخر هو الوعي الإنساني، إذ من غير هذا الوعي لن يكون في الإمكان تغيير النظام الاجتماعي تغييرًا جذريًا. وهكذا يقف ماركس معارضًا لمطلق فوقي يتجاوز الحدود الإنسانية، وداعيًا لمطلق مادي يؤلف فيه بين المادة والفكر بشرط أن تكون الصدارة للمادة. ومن شأن هذا المطلق دفع الطبقات المظلومة إلى الثورة. وقد حدثت الثورة بالفعل في روسيا في عام 1917 وأحدثت تغييرًا جذريًا في المجتمع الروسي، حيث تم القضاء على التخلف والإقطاع وتأسيس دولة اشتراكية. وفي هذا السياق، انتشرت في العالم الغربي نزعة وضعية كان قد دعا إليها الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت (1798-1857) ولقبه أبو الوضعية الفرنسية. كان كونت متأثرًا بآراء الفلاسفة بوجه عام وآراء سان سيمون بوجه خاص، وكان قد عمل سكرتيرًا له لسنوات عديدة. اشتهر بأنه صانع قانون المراحل الثلاث للتطور الاجتماعي وهي على النحو التالي: المرحلة الدينية والمرحلة الميتافيزيقية والمرحلة الوضعية، إلا أن هذا التطور لا يستند على صراع طبقي ولا على ثورة، لأن المطلوب هو التثبيت كما هو الحال عند ماركس الثورة الفرنسية لتدعيم الطبقة البرجوازية الصاعدة. ومن هنا كان كونت يلح على ضرورة النظام الذي يستند على التعاون والتآزر، وهما أساس الإصلاح الخالي من الصراع.

وقد تبنت هذه الدعوة الوضعية المدرسة الاجتماعية الفرنسية التي أسسها إميل دوركايم (1857-1917) وتابعه ليفي بريل (1857-1939)، وفيها تتساوى القيم، لأنها قانعة بما هو كائن. ومن هنا أسس ليفي بريل علمًا وضعيًا للأخلاق يسميه علم العادات الأخلاقية يكتفي بملاحظة القيم وينتهي إلى أنها تختلف باختلاف المجتمعات، وأنها جميعًا طبيعية، وخالية من الحماس لأي قيمة أخلاقية، الأمر الذي يؤدي إلى المحافظة على النظام الاجتماعي القائم، أي النظام الرأسمالي في المجتمع الفرنسي وفي غيره من المجتمعات المشابهة له. ولهذا لم تقتصر الدعوة الوضعية على فرنسا إنما امتدت إلى إنجلترا وأمريكا.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا