العدد 74 الصادر في نوفمبر 2011 حديث مع المدرعة المسروقة
هناك أسماء لحافلات أو ناقلات دخلت التاريخ، كما يقولون، من أوسع أبوابه، فصارت مشهورة يَحكي عنها الكبير والصغير، مع أنها ليست إلا سيارة كباقي السيارات، أو دراجة كسائر الدراجات، أو مركب وعَبارة ككل العبَارات، أو طائرة لا تُفَضل عن غيرها من الطائرات، لكن السر ليس فيها في حد ذاتها، بل في مَن كان يستخدمها، أو الحادثة التي وقعت فيها أو لها، أوفي نهايتها حزينة كانت أم مفرحة في لحظة من الزمان. مثال ذلك السيارة التي داهمت المتظاهرين في ميدان التحرير، أو تلك التي استخدمت في إغراق كاهن كنيسة طحا العمودين في الترعة، والدراجة البخارية التي استخدمتها الجماعة الإسلامية في قتل رئيس مجلس الشعب الأسبق، أو إلقاء القنبلة على حاضري العرس في كنيسة مسرة بشبرا، والعبارة التي غاصت بالأعداد الغفيرة التي كانت على ظهرها آتية من السعودية، والتي رفض صاحبها رجوعها لإصلاحها في السعودية، ضارباً بتحذير قبطانها عرض الحائط، وطائرة مصر للطيران التي كان على متنها أكثر من 30 رتبة عسكرية مصرية كبيرة، وكانت قادمة من أرض الشيطان الأكبر أمريكا (كما يُعرفها جل المصريين، المثقفون والجهلاء) والتي لقت حتفها في مياه المحيط الأطلسي بعد دقائق من إقلاعها من مدينة نيويورك الأمريكية، واقتباس مساعد طيارها 12 مرة لقراءات من القرآن، هذه كلها أمثلة حية على قليل من كثير جداً من الحافلات التي دخلت التاريخ. ليست الحافلات فحسب، بل هناك أيضا كثير من الطيور، كغراب إيليا، والحيوانات، كالحمار الذي امتطاه المسيح، تبارك اسمه، والأسماك والحيتان كحوت يونان، وغيرها مما خُلدتْ أسماؤهم في التاريخ القديم والمعاصر. ولقد قال السيد المسيح بفمه الطاهر، أن حتى الحجارة الصماء يمكن أن تصرخ وتتكلم، فعندما سأله رؤساء الدين في القديم أن يُسكتْ الجمع الذي التف حوله صارخاً أوصنا للملك الآتي أوصنا بابن داود، قال جلاله، إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ. وقد علمنا تبارك اسمه، أنه يمكننا أن نسأل حتى البهائم فتعلمنا، ويحدثنا سمك البحر عندما تثقل آذاننا عن السمع لصوت الحق، وتتوقف عقولنا عن الفهم عندما نصر على عنادنا وكبريائنا والسير في طرقنا الرديئة.
لذا، عندما رأيت المدرعة العسكرية “المسروقة” حسب رواية قادة الجيش المصري، تجرى كالمجنونة من انفلات زمام التحكم فيها، قلت لنفسي ماذا لو استطاعت هذه العربة المدرعة أن تروي لنا القصة الحقيقية لما حدث في ماسبيرو، وتَركتُ العنان لنفسي لأجري معها حديثي التالي.
وجدتها مهجورة مجروحة مخضبة بالدماء، تجلس في صمت وكأنها عجوز تتأمل في حوادث أيامها الخوالي، لكنها تبدو في حيرة واشمئزاز مما جرى لها. اقتربت منها، الصمت يخيم عليها مع أن الضوضاء تحيط بها، على عيونها الأمامية وجدت قطرات مياه متساقطة وكأنها تبكي في صمت، ولم تكن قادرة على التوقف عن البكاء، أو حتى مسح دموعها، اقتربت منها متسائلاً، لست أدري إن كان من المفروض أن أهنئك أم أعزيك في هذا الوقت، وبعد كل ما جرى لك في ماسبيرو، لم ترفع المدرعة رأسها وما تحركت، لكنها قالت بصوت لا تسمعه الأذن بل القلب، على ما تهنئني؟ قلت، لأنك أصبحت أشهر مدرعة عرفها التاريخ حتى اليوم في العالم كله، فصورك تملأ الجرائد والمجلات ونشرات الأخبار في التليفزيونات والراديوهات، ويتحدث عنك القادة والساسة والملوك والبرلمانات في بلاد الأحباء والأعداء، وأنت لغز محير للمحللين والمراقبين والمعلقات، فكيف لا أهنئك على كل هذا، قالت ليته ما كان كل هذا، ولا أتى اليوم الذي أصبت فيه هذه الشهرة بأنني المدرعة التي قَتَلَتْ أهلها وناسها من الأبرياء المقهورين، الذين خرجوا ليطلبوا رفع الاضطهاد والتفرقة الدينية عن كاهلهم، مع أنني من المفروض وُجدتُ في الأصل للدفاع عنهم ضد كل معتد ظالم لا يرتدع ولا يخاف الله سبحانه وتعالى، وبدلا من أن أشكرهم على دفعهم ثمن شرائي وصيانتي واستخدامي من أموال ضرائبهم، وأقوم بالدفاع عنهم وعن قضاياهم العادلة، صرت أنا المسئولة عن إفنائهم كالفئران والقطط والكلاب الضالة في شوارع القاهرة. قلت، فلماذا إذاً اشتركت في هذه المذبحة، ولماذا لم تعترضي عليها؟ قالت المدرعة، لم يميزنا المولى كجماد بعقل وعواطف وإرادة كما ميز بني البشر، وحيث إنه تبارك اسمه، هو الذي صممنا على ما نحن عليه، وهو كلي العلم، إننا كجماد، أو حتى طيور وحيوانات وأسماك، في سيرنا وراحتنا واستخدامنا لخير البشر نحتاج إلى العقل والعواطف والإرادة، تلك التي بدونها لأصبحنا فقط آلات شر وإثم وعنف وعدوان واستعراض للقوة الخارقة التي ميزنا بها سبحانه عن بني البشر، لذا، فلقد أوكل أمرنا، وهو من لا اعتراض على أمره، لبني البشر أن يتسلطوا علينا ويستخدمونا بعقلهم وإرادتهم وعواطفهم كما يشاءون، وليس لنا أن نعترض أو نمتنع عن تنفيذ إرادة البشر الصالحين منهم والطالحين، الذين فقد أغلبهم بدورهم العقل والعواطف والإرادة، وصاروا أسوأ من الجماد أو الحيوان، وأصبحوا وكأنهم جماد يسوق جماد أو حيوان يسوق حيوان، وإن كان كذلك الحال، فكيف كان لي أن اعترض على ما حدث في ماسبيرو، ثم سكتت برهة وواصلت الكلام قائلة، وبالرغم من كل هذا فقد اعترضت، قلت اعترضت! كيف اعترضت؟ قالت عندما ضغط علي من لا عقل أو عواطف أو إرادة له، وأقصد الجندي الذي كان يقودني، وأراد إن يحصد رؤوس أكبر عدد ممكن من المسيحيين المتظاهرين في ماسبيرو، صعدت أنا فوق رصيف الشارع وتظاهرت بالعطل وتوقفت عن المسير. قلت معك حق، وأنا أيضا كنت أفكر كيف صعدت على الرصيف، وما الذي جعلك تتعطلين عن تكملة الحصد في رؤوس المتظاهرين في تلك اللحظة بالذات، لكن انتظري لحظة واحدة، ألم تقولي لي أنك بلا عقل أو إرادة أو عواطف وأن المولى أوكل استخدام هذه الأمور الثلاثة للبشر لكي يقودونك ويتحكمون في مسيرك، فكيف تقولين إنك اعترضت ووقفت وامتنعت عن المسير، قالت المدرعة الحزينة، في بعض الأحيان، عندما يفقد البشر العقل والعواطف والإرادة في التعامل معنا نحن الجماد أو الحيوان يتدخل المولى تبارك اسمه، بنفسه وبطرق معجزية فوق طبيعية، ليتحكم هو شخصياً في مسير الأمور وإنقاذنا منهم ومن استخدامهم لنا قسراً رغماً عن أنوفنا. وغالباً ما يرسل ملاكه تبارك اسمه، ويأمرنا نحن الجماد أو الحيوان بعمل ما يريد سبحانه، وعندما يكون هو في المشهد يبطل كل عمل بشري ويصبح الأمر له وحده، والجماد والحيوان وغيره لا يطيع إلا إياه، ولا يعير أي أوامر من البشر التفاتاً، فهو فعال لما يريد. صمت إلى لحظة مفكراً في كلام هذه المدرعة وحكمتها وقلت لها، وما أدراني بصحة ما تقولين، فهل تشهدين أمام الله أنك رأيت ملاك المولى تبارك اسمه، أو الله نفسه سبحانه، هو الذي أوقفك عن المسير وقتل المزيد من المسيحيين، أجابت المدرعة، ليس من المهم أن يرى الجماد أو الحيوان أو الأسماك الملاك أو الله نفسه ظاهراً لهم، آمراً إياهم بتنفيذ أوامره، فنحن الخلائق الأخرى عدى الإنسان لا نشك في قدرة الله سبحانه، ولا نعصى أوامره، ولا نحتاج إلى المنظور لنرى ونؤمن ونطيع كبني البشر، قلت وكيف أصدق أن الله له المجد أو ملاكه هو الذي أوقفك وأصابك بالعطب، هل لديك دليل على هذا أو قصة أو حدث تشاركيه معي حتى أصدق ما تقولين، قالت المدرعة، في عالم الجماد ألم يسقط تمثال داجون في القديم أمام تابوت عهد الرب وانكسرت رأسه؟ قلت نعم، قالت ألم يرى حمار العراف بلعام في القديم ملاك الله وهو مستل السيف وواقف قبالته حتى أنه برك تحت العراف؟ قلت نعم، قالت ألم يفتح الرب فم الحمار ووبخ العراف ومنع حماقته؟ فلو كان المولى تبارك اسمه، في مشيئته قد فتح فمي، كما فتح فم حمار بلعام، وأنا في قلب الأحداث في ماسبيرو لكنت قد تكلمت بأعلى صوتي، ولكنت قد صرخت بكل قوتي، واعترضت بصوت مسموع على ما يحدث من فظائع ضد المسيحيين في مصر، ولأفشيت بكل الأسرار عن الاستعدادات والأوامر التي يتلقاها المجندون، عند التعامل مع المسيحيين المتظاهرين، والتي طالما سمعناها نحن الجماد يوم بعد يوم وحادثة بعد حادثة. ألم يقل الكتاب المقدس في سفر الجامعة “لا تسب الملك ولا في فكرك ولا تسب الغني في مضجعك لأن طير السماء ينقل الصوت وذو الجناح يخبر بالأمر”. سكتت المدرعة ثم قالت هل تكفي هذه الأمثلة أم تريد المزيد؟ قلت كفى. لكن أخبريني عن حادثة سرقتك، من الذي سرقك وكيف، ومتى وما هي الأسباب التي أدت لسرقتك؟ قالت المدرعة أية سرقة هذه التي تتحدث عنها؟ قلت العالم كله يناديك بالمدرعة المسروقة، ألست أنت المدرعة المسروقة؟ ضحكت المدرعة بأعلى صوتها وقالت، نعم شر البلية ما يضحك، هل صدقت أنت أيضا رواية السرقة هذه؟ فكرت في الإجابة للحظات، فأنا لا أصدق كما لم يصدق أحد هذه الرواية الغبية السخيفة حول سرقة هذه المدرعة، لكنني لم أرد أن أصرح بهذا فأنا مُجري الحديث، ولا بد للمدرعة نفسها أن تشهد بكذب هذه الرواية، فهي صاحبة الشأن والوحيدة التي لا بد أن تقول الحق، وفي نفس الوقت لم أرد أن أكذب وأقول لها نعم إنني أصدق هذه الرواية البلهاء، فأجبت بحكمة وقلت، وما الذي يمنعني من تصديق هذه القصة، فأنا أفضل حتى أن أخدع نفسي وأصدق هذه الرواية، حتى ولو كانت كاذبة، عن أن أتخيل أو أصدق أن القوات المسلحة المصرية تسمح لأحد جنودها أن يتعامل مع متظاهرين سلميين عزل عن السلاح بهذه الطريقة الوحشية اللا آدمية، ثم تخرج لنا بعذر أقبح من الذنب نفسه، قالت المدرعة هناك عشرات الأسباب التي تمنعك من تصديق هذه الرواية الملفقة الكاذبة الخادعة المضللة، قلت هل يمكن أن تعطيني أحدها؟ قالت المدرعة هل يمكن أن تذكر لي أنت حادثة واحدة منذ قيام الثورة خرج فيها قائد عسكري واحد ممن حكموا مصر وقال لكم الصدق فيها؟ تعمدت أن أبدو وكأنني لا أفهم السؤال، وقلت للمدرعة أنا الذي أسألك وأجري الحديث معك، فهل يمكن أن توضحي ما تقصدينه بسؤالك، قالت يا عزيزي أنتم لم تسمعوا منذ قيام الثورة وتولي العسكريون الحكم إلا إلى كل كذب وزور وبهتان في كل الأحداث التي مرت بكم، فلقد كذبوا عليكم عندما درس في المدارس أن ثورة 52 كانت ثورة شعبية ضد الاستعمار والإمبريالية المتمثلة في العائلة المالكة، لا لم تكن هكذا، بل كانت انقلابا عسكريا هوى بمصر إلى أسوأ عصورها على يد الجيش المصري، فليتكم عشتم في أيام الملك لكنتم الآن من المفلحين، وكذبوا عليكم حين درس أن جمال عبد الناصر هو أول رئيس مصري لجمهورية مصر، ومحو ذكر اللواء محمد نجيب من كتب التاريخ، وكذبوا عليكم حين درس إننا انتصرنا في 1956 على العدوان الثلاثي انجلترا وفرنسا وإسرائيل، فلو إرادة هذه الدول منفردة وليست مجتمعة أن تمحو ذكر مصر من التاريخ لاستطاعت في ساعات معدودات، ولو أرادت انجلترا أن تبقي على العائلة المالكة في حكم مصر لاستطاعت بكل سهولة. لقد كذب عليكم الجيش والعسكريون في حرب 67 عندما فقدنا كل سلاحنا الجوي في الخمسة دقائق الأولى من بدايتها، وتحطمت كل مطاراتنا ومات مليون عسكري فيها، وكانت الإذاعات وقتها تعلن على فم أحمد سعيد، المذيع الأشهر في إذاعة القاهرة يومئذ، وبأمر من الجيش أن طائراتنا أسقطت العشرات من طائرات العدو، وعادت إلى مواقعها سالمة، في حرب 73 كانت جولدا مائير اليهودية تتجول في منطقة الثغرة في السويس والإسماعيلية، وكانوا يغنون لكم أغنية محمد أفندي رفعنا العلم، وفي المفاوضات في الكيلو 101، أي على مشارف القاهرة كانت شادية تقول سينا رجعت كاملة لينا ومصر اليوم في عيد، ألا يكفي هذا أن يجعلكم على الأقل تشكون في كل تصريحات القوات المسلحة ورجالها حول أي موضوع كسرقتي؟
قلت، إذاً، لم يسرقك أحد أليس كذلك؟ قالت بالطبع لا، فأنا عهدة يتم مراقبتها واستخدامها باستمرار، وإن سُرقت كما يدعون، فلماذا تركني الجيش المصري ولم يبحث عني وعن من سرقني وينقذونني من يد السارق، أليس من الواجب عليهم أن يفعلوا هذا؟ أم يتركونني بين براثن من ادعوا أنه سرقني، أليس من الإهانة بما كان للجيش المصري أن تُسرق إحدى مدرعاته ويبحث عنها، إن كان قد بحث ولم يجدها، ألا يدل هذا على التسيب الفظيع الذي يعاني منه جيش مصر، وهو الذي يصور لنا أنه أكثر الجيوش انضباطاً في الأرض أو على الأقل في الدول العربية. يا سيدي، أنا مدرعة ولست دراجة، أو عربة صغيرة يمكن سرقتها وإخفائها وإخراجها عند الحاجة، من يتجرأ على أن يسرق مدرعة من الجيش المصري لا بد أن يكون لديه هو أيضا جيشاً أخر إلى جانب جيشنا، مع علمي الكامل أن بعض الجماعات الإسلامية لديها معسكرات للتدريب في الصحراء، إلا أن الجيش المصري يظل في خداعه لنفسه ومن حوله، سيرفض حتى الاعتراف بهذه الحقيقة. يا سيدي إن مباحث أمن الدولة كانت تعرف كل صغيرة وكبيرة عن مصر، تعرف أين يسكن متنصر واحد مختفي بين الناس، وكانت تذيقه ألوان العذاب، فكيف اختفى عنها مكاني لو كنت قد ُسرقت، وإن أدعوا أن السرقة حدثت بعد ثورة يناير من العام الحالي، فأين المخابرات والشرطة العسكرية، أم أن قائد الوحدة العسكرية التي أخدم بها كمدرعة قد تواطأ مع العسكري المكلف بحراستي مع المخابرات العسكرية والشرطة العسكرية حتى تتم سرقتي ويستخدمني سائقها في ضرب المسيحيين في ماسبيرو؟ سكتت المدرعة برهة وقالت ألم أقل لك إن شر البلية ما يضحك. قلت إذا، إن لم تكوني قد ُسرقت فلماذا ادعى قادة الجيش هذا الإدعاء الفاضح، قالت لأن العسكريين عادة لا يفهمون في السياسة، ومن كثرة إصدارهم للأوامر التي لا ترد ولا تستبدل يظنون أنهم أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة في كل مناقشة أو موضوع يتناولونه، فهم يعيشون في مجتمع مغلق مبني على القوة والأوامر والخضوع للأوامر دون مجادلة أو مناقشة، ولا يمكنهم أن يغيروا جلدهم بعد سنين هذه عددها، لذا، فعندما يوكلون على اتخاذ قرارات أو يواجهون تحديات في المجتمع المدني، يتعاملون معها بنفس العنجهية العسكرية المعتادة دون حساب للعواقب والتداعيات، وأيضا كما قلت لك قبلاً لأنهم تعودوا الكذب، والكذاب عادة لا يحسب النتائج أو التداعيات، ولا يفكر إلا في حل المشكلة الراهنة، غير عالم أن حل أية مشكلة بالكذب لا بد له أن يخلق مشاكل أكبر إن لم يكن في المستقبل القريب يكون في البعيد، أما السبب الثالث فهو لعلم القادة والمسئولين العسكريين والمدنيين، من التاريخ القريب والبعيد، أن المسيحيين فئة منقسمة على ذاتها، ليس عليهم أن يعملوا لهم حسابا، فعددهم أقل بكثير من المسلمين، وهم بلا قائد سياسي يوحد كلمتهم وصفوفهم في مواجهة كل من يعتدي عليهم، وقد غذتهم الكنيسة بروح الاستسلام والتدين المزيف والخوف والخنوع، وليس لهم من تاريخ مشرف في الوقوف ضد المعتدي عليهم ظانين أن الله ملزم أن يدافع عنهم وهم صامتون، وهم لا يعلمون أن المولى قال هذا لشعبه اليهود مرة واحدة، وسألهم عشرات المرات أن يذهبوا ويحاربوا المعتدي لكي يستطيع أن يدافع عنهم وينصرهم.
قلت لنفسي هذه المدرعة غير المسروقة بناء على كل ما تقدم، لها من الحكمة ما يجعل صوتها يُسمع في كل العالم حتى لو لم تستطع الكلام بصوت مسموع لنا نحن البشر. سألتها، قولي لي أيتها المدرعة بصفتك كنت في قلب الأحداث، هل ترين أن للمسيحيين الحق في التظاهر والمطالبة بحقوقهم كما فعلوا في ماسبيرو حتى لو قتلوا واستشهدوا؟ قالت المدرعة للإجابة على سؤالك هذا أقول أن للأقباط الحق كل الحق من حيث المبدأ أن يتظاهروا ويعترضوا ويخرجوا في مسيرات سلمية كما فعلوا في ماسبيرو، هذا من حيث المبدأ، أما من حيث طريقة التطبيق العملي فقد أخطأوا في كثير من النقاط. قلت للمدرعة لا تنسي أنني قبطي وواحد من المصريين، فكيف تقولين أنهم أخطأوا، ثم هل يمكن أن تعددي لي نقاط خطأهم في مظاهرات ماسبيرو. قالت المدرعة، لماذا يحمل الأقباط الصليب وهم يدافعون عن حقوقهم المدنية، ما موقع الصليب من المظاهرة؟ قلت وما الخطأ في حمل الصليب، فهو لتوضيح الهوية المسيحية للمتظاهرين، قالت لا خطأ في حمل الصليب في أية مناسبة لتحديد الهوية لكن في مظاهرات كهذه يكمن الخطأ في أن المسيحيين يظهرون في الصورة وكأنها معركة حول الصليب، مع أن رسالة الصليب كانت للسلم والمحبة والغفران، وهذا يجعل المسلمين يرون أنها ليست مظاهرة سلمية للمطالبة بحقوق مدنية إنسانية، بل يرونها معركة صليبية لا بد من التصدي لها ودحرها، ولعل هذا هو ما دفع المذيعة التليفزيونية إلى أن تحث المسلمين على الخروج للتصدي للصليبيين، حتى لا ينتصروا على المسلمين، فالمسلمون لا يؤمنون بصليب المسيح، ولا بقضية الصلب، ويعتبرون الصليب جهالة وقضية رفضها القرآن والرسول، فمنظر الصليب يحفزهم على العراك وإثبات من هو الغالب والمغلوب. قلت وماذا بعد، قالت ورفع الصليب في المظاهرات يجعل المثقفين والحقوقيين المتحمسين للدفاع عن القضية القبطية يحجمون عن الاشتراك في مظاهرة إن كان شعارها الصليب، ثم سألتني المدرعة ماذا لو خرج المسلمون في مظاهرة سلمية وقد رفعوا القرآن في أيديهم معلنين أن الإسلام هو الحل، فهل كنت ستخرج معهم تحت راية القرآن، قلت لا ليس بإمكاني المشاركة في ظل هذه الشروط، خطأ أخر هو أن يخرج المسيحيون لمظاهرة دون قيادة واضحة توحد كلمتهم ومطالبهم، وحتى شعاراتهم وترانيمهم التي يرددونها دون أن يفهموا تأثيرها على السامعين، مما يدفع بعضهم لينادي بشيء والآخرون بشيء ثان وثالث ورابع إلى آخره.
قلت ماذا تقصدين بالترانيم ومدى تأثيرها على السامعين، قالت المدرعة لقد كنت هناك عندما بدأت جوقة المرنمين المسيحيين يرنمون في ميدان التحرير وقت الثورة في شهر يناير الماضي، بدأت الترنيمات بكلمات وموسيقى وألحان ألهبت حناجر كل الحاضرين، واشتركوا جميعاً مسيحيين ومسلمين في ترديدها كترنيمة بارك بلادي، قلت هذا رائع وعظيم، قالت وفجأة بدأ المرنم القائد على المسرح في ترديد ترنيمة “الأرض دي ملكك يا بن الله أنت الساكن فيها” فبدأ المسلمون في الهمهمة ثم علت أصواتهم باعتراض على الكلمات، ثم رحلوا ولم تفلح محاولة المرنم بعد هذا وهتافه “إيد واحدة، إيد واحدة” أن تعيد الناس إلى مكانهم، فأنتم والمسلمون لستم إيد واحدة ولم تكونوا يوماً من الأيام، ولن تكونوا إلى الأبد عندما تتعلق المسألة بالصليب أو ابن الله، وغيرها من الموضوعات المختلف عليها، ثم أكملت المدرعة الحديث وقالت عند هذا المشهد سألت نفسي من هو الكبير للمسيحيين حتى يعلمهم ما يقولون وما لا يقولون على مسرح الترنيم، أو يمسكون أو لا يمسكون من لافتات وما يرفعون من شعارات وهتافات، فهل أعد قائد الترنيم هذا ترنيماته قبل صعوده على المسرح، هل تناقش فيها مع قائده، إن كان له قائد من الأصل، وبحث وأخذ الرأي والرأي الأخر فيما يرنم للمسيحيين والمسلمين في ميدان التحرير. قلت لها معك حق نحن نفتقد للكبير الذي يوجه الكل بحكمة ويلزم الكل على طاعته في تنظيم الصفوف، لكن دعيني أسألك سؤالاً أخر وهو، في رأيك ماهو السبب الحقيقي وراء ما حدث في ماسبيرو؟ قالت السبب هو الكراهية التي توطدت بين المسلمين والمسيحيين وتاريخها المرير، فالأمر اليوم قد أصبح من سيغلب من، من سيحكم من، من سيقهر ويقتل من. قلت هل تدخل الأمريكان وموضوع الحماية الدولية يمكن أن يحل هذه المشكلة بين المسيحيين والمسلمين؟ ضحكت المدرعة وقالت وجود الأمريكان في المشهد سيزيد الطينة بلة، فالمسلمون يكرهون الأمريكان بكل قلوبهم، وحيث إنهم أضعف من أن يصيبونهم بأذى وخاصة بعد ما حدث في11 سبتمبر لأمريكا على يد الإسلاميين، وبعد توالي خلع وقتل القادة والرؤساء العرب، بدأً بصدام حسين والقذافي وبن لادن بواسطة الأمريكان، أصبحت أمريكا بؤرة الفساد والواجبة الجهاد ضدها، أما الحماية الدولية فهي أضحوكة سخيفة يستغلها كلٍ لصالحه، فالمسيحيون بعضهم يستغلها كوسيلة لإظهار الضيق والمرارة ضد المسلمين، وبعضهم برفضهم المتشدد لفكرة الحماية الدولية يظن أنه يتقرب من المسلمين ويظهر وطنيته المزيفة للرؤساء وأولى الأمر منا، والبعض الأخر يصر على رفضها لعلمهم أنها مجرد كلام ليس إلا وأن الدول قريبها وبعيدها لن توافق من الأصل على هذه الفكرة، والمسلمون يستغلونها في تشويه صورة المسيحيين وفي تأكيد وصفهم للمسيحيين بأنهم ليسوا أهل البلاد بل هم رعايا ليس إلا، وغيرها الكثير من أسباب الرفض أو القبول لهذه الفكرة.
قلت للمدرعة ما هي الرسالة التي تريدين توجيهيها للمسيحيين في مصر؟ قالت أولا: هذه ليست المرة الأولى التي حدث فيها مثل هذا الاعتداء عليكم ولن تكون الأخيرة.
ثانياً: لن يحترمكم، أو يخاف منكم الجيش والحكومة والمسلمون ما دمتم منقسمين على ذاتكم وبلا كلمة أو رأي موحد، أو كبير يسير أمامكم.
ثالثاً: الصراخ لله والصوم والصلاة وحدها مع علمي بأهميتها القصوى، لكنها لا تكفي لحل مشاكلكم، فأنتم مسئولون عن الأجيال القادمة، فحاربوا وقفوا في الثغر عنهم ولأجلهم.
رابعاً: لم يكن مسيحكم جباناً أو خائفاً، فلا تجبنوا فهو يقول للشئ كن فيكون، وهو يحي الموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة.
خامساً: ليس كل من دهس تحت عجلاتي شهيد، فلا تقلدوا المسلمين بلا فهم، فالشهيد في المسيحية هو من مات شاهداً عن الرب يسوع، وهو من سكن المسيح بحياته، ومن ضمن الأبدية السعيدة بسبب قبوله للمسيح مخلصاً شخصياً له، ولذا، فقد مات شهيداً وليس له من مكافأة في الأرض أو السماء، بل الشهادة نفسها هي مكافئته، وسرعة مقابلته للسيد المسيح قائماً عن يمين العظمة في الأعالي هي مكافأته، فهو مات شهيداً لأنه ضامناً للسماء وليس ضمن السماء لأنه مات شهيداً، وأنتم أيها المسيحيون تعلمون هذا كله أكثر مني، أما الشهداء في الإسلام هم من اشتروا الجنة بشهادتهم، ومكافأتهم حور عين، وأولاد مخلدون، وجنات تجري من تحتها الأنهار، فمن مات بالطاعون فهو شهيد، ومن مات محروق فهو شهيد، ومن مات تحت ردم أو في الحرب في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات بالمغص الكلوي أي ذات الجنب فهو شهيد، والمرأة التي تصبر على جور زوجها وتموت فهي شهيدة، ومن ماتت وهي حامل ليس من سفاح فهي شهيدة. قلت للمدرعة كفى. وماذا تقولين للمسلمين في مصر، قالت أقول لهم إنني كنت في العرض العسكري ورأيت السادات، يموت مخرماً بعد اعتدائه على كنيسة الله، وطال بي العمر لأرى صدام حسين يشنق بعد صدور الرزنامة المسيحية التي كُتبَ فيها من جانب قال السيد المسيح ومن الجانب الأخر قال صدام حسين، وزميلاتي وأنا كنا في حوادث الاعتداء على المسيحيين أيام مبارك، وقبل أن يحضر على سرير للمحاكمة، ولى أصدقاء في ليبيا قلن لي عن موت القذافي الذي دعا الرؤساء العرب لاتخاذ موقف متشدد ضد المسيحيين العرب، ومراجعة أمر بناء الكنائس في البلاد العربية، واليوم كل هؤلاء في خبر كان، لذا، أقول لإخوتي المسلمين اعلموا أن كل آلة صورت ضد كنيسة الله لن تنجح، وكل لسان يقوم عليها في القضاء تحكم عليه، فتوبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم، وتأتي أزمنة الفرج من عند الرب، اللهم أني أبلغت اللهم فأشهد.