تدور القصة في مدينة شوشن عاصمة بلاد فارس في عهد الملك “أحشويروش” المعروف باسم زركسيس الأول الذي حكم 127 مملكة.
(شبنة هو ابن عم الطفلة التي ماتت أمها أثناء ولادتها وسبقها أباها، اتفق شبنة مع عمته رفقة أن تسمى الطفلة اليتيمة هداسا… كانت العمة “رفقة” هي الأم الروحية لكل أبناء عشيرتهم.. أضاع “أبيحائل” والد الطفلة، قبل مماته ثروته مع تجار غرباء ولم يحتمل الخيانة فمرض..
وبسبب علاقة شبنة (مردخاي) بهذه الطفلة الصغيرة التي غزت محبتها قلبه، أعاد اكتشاف نفسه. فقد وجد أنه ما زال قادرًا على العطاء والحب والاهتمام.. واختبر مشاعر من نوع جديد أضفت الحيوية والانتعاش على حياته. تطورت العلاقة بين شبنة والطفلة الصغيرة وأصبح يخاف عليها من أي شيء.. (يمكنك قراءة الحلقات السابقة على موقع الجريدة..)
امتدت الوليمة أيامًا كثيرة وصلت إلى مئة وثمانين يومًا، وكانت خلال فترة الخريف ضمانًا لاعتدال الجو.. أعلن فيها الملك عظمة غناه فانبهر كل الحاضرين مما رأوا.. وسعوا لإرضائه والتقرب منه ليستفيدوا هم أيضًا منه..
في الشهر الأول أظهر “أحشويروش” كنوزه لضيوفه.. وفي الشهر الثاني استعرض عظمة جيشه وخدامه وخصيانه.. وفي الشهر الثالث عرض الهدايا القادمة للملك من كل أنحاء المسكونة.. وفي الشهر الرابع استعرض ممتلكاته الأدبية ووثائقه وتميز مملكته في القانون.. وفي الشهر الخامس عرض الحلي الذهبية المرصعة بالماس واللؤلؤ.. وفي الشهر السادس عرض الكنوز التي أعطيت له كجزية من الأمم.. وخلال الستة أشهر كان يتم فتح ست غرف كنوز يوميًا لعرض محتوياتها لضيوفه.
لم تحمل هذه الأيام عملًا فوق المعتاد لـ “مردخاي”.. باستثناء بعض المراسيم الملكية والمعاهدات التي تخص أماكن بعينها.
واختتم الملك وليمته العظيمة بإعلان دخول بلاده الحرب ضد اليونان وحظي بتأييد مطلق النظير واستمر الهتاف باسمه لوقت طويل.
وعند انقضاء هذه الأيام، أراد الملك أن يضمن ولاء كل الساكنين في العاصمة فعمل لجميع الشعب الموجودين في شوشن من الكبير إلى الصغير وليمة سبعة أيام في دار جنة قصر الملك.. وكذلك عملت أيضًا وشتي الملكة وليمة للنساء في بيت الملك.
*********
– لن يحدث، “هداسا”. لا تفكري حتى في الأمر. ذهابك إلى الحفل أمر منتهى.
بادر “مردخاي” بهذا الحديث بينما كان يلبس مستعدًا للخروج.. فقد ألحت عليه طوال الأيام الستة الماضية ليصطحبها الوليمة التي عملها الملك في القصر لكل أهل شوشن.
رفض رفضًا قاطعًا.. فقد كان يخاف عليها ويعرف الأجواء هناك.. كلها ملوثة بالشر لا يوجد فيها خوف الله.. حتى هو نفسه لم يكن ليذهب لولا إصرار “إنليل” صديقه على ضرورة ظهوره مع باقي الكتبة حتى ولو في اليوم السابع والأخير.
أما المدينة كلها فقد كانت فرحة متهللة.. سيزورون قصر الملك.. سيشربون ويأكلون بحسب كرم الملك.. ليس هذا فحسب بل سيجلسون في حضرته، غني وفقير سواء وهي مرة لن تتكرر في عمرهم..
صمتت “هداسا” مذعنة لقراره فنبرة صوته حسمت الموقف قبل أن يحتدم النقاش من جديد.. فمحاولاتها الفاشلة في الستة أيام الماضية زادت من صمتها.. ولكن رغم محبتها وتقديرها له كانت في أعماقها تريد أن تذهب وترى ما يحدث هناك ولو لمرة واحدة.
انتهى “مردخاي” من ارتداء ملابسه، وقد حرص على أن يكون في أبهى صوره ثم وضع على كتفه الشال المطرز المحبب لديه الذي طرزته له “هداسا”، وركب على الفرس منطلقًا في طريقه إلى القصر..
بعد مرور هنية من الزمن.. خرجت “هداسا” مسرعة من الباب الخلفي للمنزل.. والتفتت يمينًا ويسارًا لتتأكد أن أحدًا لم يرها.. وركضت نحو أطراف الطريق العام.. لتلاقي “داود” الذي وافق على الذهاب معها لرؤية الحفل من بعيد.. بعد أن ألحت عليه كثيرًا..
ورغم المخاطرة.. جازف كلاهما بالذهاب متخذين كافة التدابير الاحتياطية حتى لا ينكشف أمرهما.. فقد تركت الشموع مضاءة بنور قوي لتوهم مَنْ يمر أمام المنزل أن هناك أحدًا فيه.. واتفق “داود” مع “عماسا” أن يغطي عدم تواجده إن سأل عليه أحد.
كان الاتفاق أن ينظرا القصر من الخارج.. خوفًا من أن يلمحهما “مردخاي” أو أي أحد آخر يعرف ذويهم.
سارا الطريق مسرعين هي و”داود” الذي بدا في أبهى صورة وهو يرتدي جلبابه الجديد ذو اللون البني المخطط بأقلام عريضة خضراء.. وقد وافقها على الذهاب ليس لأنه مهتم بالحفل أو القصر، فقد أراد أن يلفت انتباهها بأي شكل من الأشكال.. وحتى يحظى بقبولها خاطر باصطحابها رغم أنه كان يعلم جيدًا ماذا يمكن أن يحدث لو اكُتشف الأمر.
لعله يتجرأ ويستغل الفرصة ويصارحها بإعجابه بها.. كان مدركًا تمامًا أن عليه أن يسبق “آساف” غريمه بخطوة.
ورغم أنها فرصة عظيمة لن تتكرر.. إلا أن أحدًا من عشيرتهما لم يتحمس للذهاب.. فلم يذهب سوى بكر أليعازر وعماسا في اليوم الثاني، وبسبب حالة السكر الشديدة التي رجعا بها أخذ كبارهما القرار بعدم عودتهما للحفل مرة ثانيةً، لا هما ولا غيرهما.
حاول “داود” أن يتحدث مع “هداسا” التي شعرت بالملل من اهتمامه المستفيض بتربية المواشي وأحلامه المستقبلية بعيدًا عن عطاره أبيه.. وأخيرًا أنقذها من حديثه الممل صوت الموسيقى الصادرة من القصر.
*********
دخل “مردخاي” القصر من باب الخيل وسلم فرسه في يد المسئول.. وتوجه في طريقه نحو القاعة الرئيسية مرورًا بالحديقة من الجانب الأيسر..
وعلى باب القاعة الملكية التقاه “شيلاي” زميله في قلم الكتبة بالقصر.. وقال وهو يغلق عينيه المشتعلتين بنار الحقد:
– آه.. انظروا مَنْ أتي.. “مردخاي” رئيس القلم الآرامي كله.
– وماذا في ذلك؟ هل تريد أن تهنئني على ترقيتي؟
– ولم لا؟ “إنليل” يتحدث عنك الآن مع “أوروك” المسجل.
– وماذا في ذلك؟
– هل تظن أني سأتركك حينما تأخذ مكاني؟
– لم يكن مكانك.. لقد كنت فيه بوضع مؤقت بعد وفاة “مناين” والآن قرر “أوروك” أن يختار الأكفأ.. شخص أمين ودقيق للترجمة.. ثم أنك لا تقدر أن تفعل لي شيئًا.
– لا.. أنا أستطيع أن أفعل الكثير الذي لا تدركه أنت.
– كلا، لا تستطيع أن تفعل لي شيئًا إن لم يأمر به الرب.
– هههه.. ما يأمر به ربك.. لا ينطبق عليّ أنا.
– مَنْ تظن نفسك؟ نعم، ينطبق.. فأمره نافذ على الجميع وأنت مجرد إنسان مثل بقية البشر
تحدث “شيلاي” بصوت يشبه فحيح الحية وابتسامة صفراء يملأها:
– سأريك مَنْ أنا.. احذر لنفسك.
أجابه “مردخاي” بارتياح وثقة:
– لا تقلق أنا محمي جيدًا.. اصقل لغتك أولًا حتى تكون ترجمتك دقيقة أو لا تنشغل بغيرك حتى تقدر أن تركز في عملك.
لم يستطع “شيلاي” أن يتحمل حديث “مردخاي” فترك له المكان متوجهًا نحو الحديقة ليتناول المزيد من الشراب بينما دخل “مردخاي” القاعة الملكية لعله يجد مكانًا وسط هذا الزحام.
كان عرش الملك في نهاية القاعة مقابل الباب وكان موضوعًا فوق منصة واسعة يصعد إليها بست درجات.. تحتها بدرجتين جلس يمينه ويساره المقربين منه.. ثم في القاعة وضعت موائد مستطيلة قصيرة الأرجل على الأرض ليجلس حولها المدعوون.. لمح “مردخاي” زملاءه في قلم الكتبة جالسين حول إحدى الموائد في المقدمة فذهب لمشاركتهم الجلوس فقط، فقد وضع في قلبه ألا يأكل أو يشرب شيئًا.