تقبُّل النفس للشفاء

4

د. إميل لبيب

في المراحل الأولى من النمو الإنساني، وتحديدًا مرحلة الطفولة المبكرة، يعتمد الطفل بشكل كامل على حواسه لفهم العالم من حوله. فهو لا يستطيع استيعاب المعاني المجردة مثل الحب أو الأمان دون ربطها بأشياء ملموسة، مما يجعل هذه المرحلة حاسمة في تكوين مفاهيمه الأساسية. على سبيل المثال، يفهم الطفل الحب من خلال التلامس الجسدي، أو تلقي الهدايا، أو سماع كلمات المديح – وكلها تجارب حسية تشكل لبنات فهمه الأولى للعالم.

وبما أن والديه هما مصدر إشباع احتياجاته الجسدية والعاطفية، فإنه يرى فيهما المثل الأعلى والقدوة، بل وقد يصل به التفكير إلى اعتبارهما “إلهه الصغير” لأنهما يمتلكان قدرات خارقة مقارنة بمحدوديته الجسدية وقلة مهاراته.

هذه العلاقة التبعية الكاملة تشكل البنى المعرفية والعاطفية الأساسية التي ستؤثر على مسار نمو الفرد، حيث تبدأ أنماط التعلق والثقة بالتشكل من خلال هذه التفاعلات اليومية.

تتميز هذه المرحلة التأسيسية بأنها مرحلة التلقي والتسليم أكثر من النقد والتحليل، حيث تنطبع التجارب في ذهن الطفل بشكل انطباعي غير ناقد.

وتعمل هذه الخبرات الحسية المباشرة على نسج الخريطة الذهنية الأولى التي ستوجه استجابات الفرد وتفاعلاته لاحقًا.

 فالحب الذي يعيشه الطفل من خلال العناق أو الهدايا الملموسة، والأمان الذي يجده في وجود والديه، كلها تصبح مرجعيات أساسية تظل مؤثرة حتى بعد تطور القدرات العقلية الأكثر نضجًا.

هذه الحساسية المفرطة في المرحلة المبكرة تجعل تصورات الطفل عن الحب والأمان والعلاقات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتجاربه الحسية مع مقدمي الرعاية.

فكما يعتمد على حواسه لفهم العالم المادي، يعتمد أيضًا على هذه التجارب الملموسة لبناء مفاهيمه العاطفية والاجتماعية الأولى، والتي ستشكل الإطار المرجعي لعلاقاته المستقبلية، بما في ذلك تصوره لذاته وللآخرين، بل وحتى تصوره عن القوة العليا أو الإله في مراحل لاحقة من نموه.

إذا كان الوالدان محبين، وداعمين، ويستجيبان لاحتياجات الطفل بشكل صحيح، ينشأ الطفل وهو يشعر بالأمان، ويتشكل لديه مفهوم إيجابي عن الحماية والرعاية.

أما إذا كان الوالدان قاسيين، غير متسقين في تعاملهما، أو متجاهلين لاحتياجاته العاطفية، فإن الطفل يطور صورة مشوهة عن “الإله” الذي يفترض به أن يكون مصدر الأمان، فيرى أنه غير موثوق به، أو قاسٍ، أو حتى مؤذٍ.

هذه المرحلة حاسمة لأن الطفل لا يملك القدرة على تحليل سلوك والديه نقديًا، بل يختزنه في عقله الباطن كحقيقة مطلقة. فإذا تعرَّض للإهمال أو العنف، يترسخ لديه الاعتقاد بأن مَنْ يُفترض بهم حمايته قد خانوه، مما يزرع بذور الاضطرابات النفسية مثل القلق، والاكتئاب، وتكون هذه التجارب سببًا رئيسيًا في تحفيز ظهور اضطرابات الشخصية، خاصةً عند وجود استعداد وراثي، حيث تتفاعل العوامل البيئية المؤلمة مع الموروث الجيني لتنتج أنماطًا سلوكية واضطرابات نفسية راسخة.

ومع اقتراب مرحلة المراهقة، يبدأ العقل في تطوير القدرة على التفكير الناقد، فيعيد المراهق تقييم القيم والمعتقدات الموروثة من طفولته في عملية تشبه الفحص النقدي الشامل. وهذه المرحلة الحيوية تمثل محطة لإعادة التشكيل الذاتي، حيث يسعى المراهق، بوعي أو دون وعي، إلى تأكيد هويته المستقلة واختبار حدود استقلاليته. وهنا تبرز الأزمة عندما تتعارض هذه المعتقدات الموروثة مع الواقع، أو عندما تكون قد تأسست على تجارب مؤلمة أو تناقضات عايشها في سنوات تكوينه الأولى.

فإذا كانت الطفولة مستقرة، تمر مرحلة المراهقة بسلاسة نسبية، حيث يكتسب الفرد استقلاليته دون صراعٍ داخلي حاد – مستندًا إلى أساسٍ متين من الثقة في والديه، تلك الثقة القائمة على الدعم العاطفي المستمر، والتحفيز الإيجابي لتفرده، وتوفير مساحة آمنة ليمارس حياته بمحبة غير مشروطة وحرية منضبطة، تحت إشراف تربوي حكيم يوازن بين التوجيه غير المسيطر واحترام استقلاليته الناشئة.

أما إذا كانت الطفولة مضطربة، فإن المراهق يبدأ في تمرد غير واعي على الصورة التي كونها عن والديه – فيُسقِط علاقته بهم وما عاناه من إهمال أو ظلم على مفهومه عن الله – كأن يرى في السماء انعكاسًا مشوهًا لما عاشه على الأرض. هذه العملية النفسية التلقائية تؤدي إلى تشويه الموقف الروحي، خاصةً عندما يكتشف أن تربيته لم تكن عادلة أو صحية، فينقل بلا وعي إحباطاته من العلاقة الوالدية إلى العلاقة مع الله.

وبما أن الطفل يربط علاقته بوالديه بمفهومه عن الله، فإن أي تشوه في العلاقة الوالدية ينعكس على إيمانه. فالشخص الذي عانى من والِدَين قاسيين أو غير جديرين بالثقة، قد يطور فكرة لا واعية تقول:

“إذا كان والداي، اللذين كانا بمثابة إلهي الصغير، قد خذلاني، فكيف بإله أكبر غير مرئي؟ هل سيكون عادلًا؟ أم سيتخلى عني كما فعلا؟”

هذا الاعتقاد يجعله يرفض فكرة وجود إله محب وراعٍ، لأنه يشعر بأنه تعرض للظلم دون حماية. فكيف يقبل غفران الله أو محبته وهو يعاني من آلام نفسية بسبب إهمال أو عنف لم يُحاسَب عليه أحد؟

لكي يتقبل الشخص المضطرب نفسيًا فكرة الله العادل المحب، لا بد من علاج الجروح والتشوهات النفسية يحتاج إلى مسيرة تعافٍ طويلة تبدأ بمساعدة الفرد على تفكيك التشوهات الذهنية الراسخة تجاه نفسه والآخرين، خاصةً الوالدين الذين ارتبطت صورتهما في ذهنه بصورة الإله بسبب تجارب الطفولة المؤلمة، حيث يظل العقل الباطن يحمل تصورًا مشوهًا عن الله إما ككيان متواطئ في الأذى أو كشخص غير مبالٍ سمح له بالمعاناة داخل أسرة فاشلة في توفير الحماية والرعاية.

في هذه الرحلة العلاجية، يحتاج الفرد إلى إعادة بناء مفهومه عن الله من خلال فصل التجارب الأسرية المؤلمة عن الحقيقة الإلهية المطلقة، فالله لم يكن مصدر الأذى بل منح البشر حرية الاختيار التي أساءوا استخدامها، وهو في الوقت نفسه لم يتخل عن عبده لحظة واحدة، بل ظل حاضرًا في كل لحظات الألم ينتظر استعداد النفس للشفاء.

تكمن الخطوة الحاسمة في إدراك الفرق الجوهري بين الوالدين البشر الناقصين وبين الإله الكامل، فتقصير الأسرة في التربية والحماية لا يعكس تقصيرًا إلهيًا، بل يكشف محدودية وقصور البشر، بينما ظل العدل الإلهي قائمًا يمنح الفرصة للتعافي والانطلاق من جديد.

الشفاء الحقيقي يبدأ عندما يستطيع الفرد أن يرى الله في موقف المحب الرحيم الذي لم يتركه يتألم وحده، بل كان معه في كل مرحلة، وهو الآن يمد يده للجراح ليشفيها عندما يكون القلب مستعدًا لقبول هذه الرحمة غير المشروطة، فالتعافي ليس محو الماضي بل تحويله إلى حكمة وقوة تستند إلى محبة إلهية لا تتزعزع.

تقبُّل فكرة الله المحب يحتاج إلى شفاء الجروح القديمة أولًا. فالإنسان الذي عاش في بيئة مسيئة لا يستطيع أن يتخيل أن هناك قوة عليا تحبه دون قيد أو شرط.

لذا، فإن الخطوة الأولى للقبول الروحي هي إصلاح المفاهيم المشوهة، وفهم أن المعاناة التي مر بها كانت بسبب بشر غير كاملين، وليس لأن الله تخلى عنه.

وعندها فقط يمكنه أن يبدأ رحلة المصالحة مع نفسه ومع الإله الذي ينتظره بصبر وحنو.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا