من القضايا الهامة في الفكر المسيحي قضية “الوكالة المسيحية”. والجدير بالذكر أن كلمة “وكيل” في لغتنا العربية من أصل الفعل “وكَلَّ”، وهي تأتي بمعنى “سلَّم أو فوّض”، فالوكيل هو الشخص الذي أستأمنه المالك على إدارة أعماله وأمواله.
والدارس للغة اليونانية يجد أن الكلمة اليونانية المترجمة “وكالة” نشأت في المجتمع اليوناني قبل المسيحية، وكانت تُستخدم بأربعة معانٍ:
1. تصريف الأمور. 2. الإشراف على الممتلكات.
3. إدارة شؤون البيت . 4. إدارة شؤون الولاية.
وعندما دخلت المسيحية، أصبح استخدام الكلمة بصورة أوسع هو إدارة الكون، وهو تكليف الله للإنسان من البداية. فعندما خلق الله الإنسان، قال له: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض». فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرًا وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: أثمروا واكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض” (تك 1: 26-28).
وفي الكتاب المقدس، ترصد ريشة الوحي المقدس صورًا كثيرة لوكلاء قاموا بهذا الدور، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الآتي:
(أ) كان أليعازر الدمشقي وكيلًا لإبراهيم، وقد وُصِفَ أنه “كبير بيته المستولي على كل ما كان له” (تك 24: 2).
(ب) وكان يوسف وكيلًا مسئولًا في بيت فوطيفار، فمكتوب: “ورأى سيده أن الرب معه، وأن كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده. فوجد يوسف نعمة في عينيه، وخدمه، فوكله على بيته ودفع إلى يده كل ما كان له. وكان من حين وكله على بيته، وعلى كل ما كان له، أن الرب بارك بيت المصري بسبب يوسف. وكانت بركة الرب على كل ما كان له في البيت وفي الحقل، فترك كل ما كان له في يد يوسف. ولم يكن معه يعرف شيئًا إلا الخبز الذي يأكل. وكان يوسف حسن الصورة وحسن المنظر” (تك39: 3-6).
(ج) وعندما أقيمت خيمة الاجتماع في البرية، كانت مسئولية حراستها على عشائر بني هارون، فكان الرئيس عليهم ألعازر ابن هارون الكاهن وتم إسناد وكالة حراسة القدس له، فمكتوب: “لرئيس رؤساء اللاويين ألعازار بن هارون الكاهن وكالة حراس حراسة القدس” (عد3: 32).
(د) وسليمان الملك كان له اثنا عشر وكيلًا (1مل4: 7).
(هـ) وحين دعا الله إرميا ليكون نبيًا للشعوب قال له: “انظر! قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك، لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس” (إر 1: 10).
والوكالة في الفكر المسيحي لها أبعاد متعددة، أذكر منها الآتي:
أولًا: الأساس الكتابي للوكالة
1. الله هو المالك الحقيقي بحق الخلق
فيشدو المرنم في (مز 24: 1، 2): “للرب الأرض وملؤها. المسكونة، وكل الساكنين فيها. لأنه على البحار أسسها، وعلى الأنهار ثبتها” وفي (مز95: 3-6) “لأن الرب إله عظيم، ملك كبير على كل الآلهة. الذي بيده مقاصير الأرض، وخزائن الجبال له. الذي له البحر وهو صنعه، ويداه سبكتا اليابسة. هلم نسجد ونركع ونجثو أمام الرب خالقنا.”
فالله يملك على كل هذا الكون، ولا منازع لمُلكه فيها، ويعلن ذلك في مواقع كثيرة على صفحات الوحي المقدس، فنقرأ في (خر 19: 5): “فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي، تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب. فإن لي كل الأرض.”
ونقرأ في (لا 25: 23): “لأن لي الأرض، وأنتم غرباء ونزلاء عندي.”
وفي (حج 2: 8): “لي الفضة ولي الذهب، يقول رب الجنود.”
لهذا فكل ما نملك هو له، فنسمع داود وهو يقدم عطاياه التي أعدها لبناء الهيكل يقول: “لك يا رب العظمة والجبروت والجلال والبهاء والمجد، لأن لك كل ما في السماء والأرض. لك يارب الملك، وقد ارتفعت رأسًا على الجميع. والغنى والكرامة من لدنك، وأنت تتسلط على الجميع، وبيدك القوة والجبروت، وبيدك تعظيم وتشديد الجميع. والآن، يا إلهنا نحمدك ونسبح اسمك الجليل. ولكن من أنا، ومن هو شعبي حتى نستطيع أن ننتدب هكذا؟ لأن منك الجميع ومن يدك أعطيناك” (1أخ 29: 11-14).
كل هذا يبين لنا حقيقة امتلاك الله لنا ولكل ما نملك.
نعم! لقد خلقنا الله على صورته، والصورة والكتابة على العملة تفيدان وتعلنان ملكية الملك لهذا السلطان، حتى لو جعلت الخطية صورة الله باهتة فينا لكن ذلك لا يغير من الحقيقة، وحتى لو باع الإنسان نفسه للشيطان فإن المالك الحقيقي هو الله، والإنسان ليس له حق في نفسه.
حقًا! عندما خلق الله الإنسان، وجعله في جنة عدن، احتفظ لذاته بشجرة في الجنة، أوصى الإنسان بألا يقترب منها ولا يأكل منها، ليتذكر بأن الله هو المالك الحقيقي لكل شيء، والإنسان يحيا تحت سلطان الله وفي ممتلكاته، ولذلك عندما خالف الإنسان وكسر وصية الله قام بطرده من الجنة.
فالله هو الخالق لذلك فهو المالك، إلا أنه أوكل للإنسان مسئولية إدارة الكون (تك 1: 27، 28)، وقد تغنى المرنم قائلًا: “إذا أرى سماواتك عمل أصابعك، القمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره؟ وابن آدم حتى تفتقده؟ وتنقصه قليلًا عن الملائكة، وبمجد وبهاء تكلله. تسلطه على أعمال يديك. جعلت كل شيء تحت قدميه: الغنم والبقر جميعًا، وبهائم البر أيضًا، وطيور السماء، وسمك البحر السالك في سبل المياه. أيها الرب سيدنا، ما أمجد اسمك في كل الأرض!” (مز8: 3-9).
وهكذا أصبح الإنسان وكيلًا مسئولًا أمام الله عن إدارة الكون، وعمل كل ما يرضي الله بإخلاص كامل وأمانة متناهية.
2. الله هو المالك بحق الفداء
كل مَنْ يخترع شيئًا يملك حق اختراعه، وكل مَنْ يؤلف أدبًا أو ينظم لحنًا، يمتلك ما أبتكره وألفه، والقانون يحمي ذلك. فإن كان الله خالق السماوات والأرض وكل ما عليها، خلقها بأمره من العدم، فله كل الحق في ملكيتها.
هذا من ناحية، ولكن من ناحية أخرى الله يملك الإنسان ليس بحق الخليقة وحدها، ولكن بحق الفداء، فيقول الرسول بطرس: “إذا أرى سماواتك عمل أصابعك، القمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره؟ وابن آدم حتى تفتقده؟ وتنقصه قليلا عن الملائكة، وبمجد وبهاء تكلله. تسلطه على أعمال يديك. جعلت كل شيء تحت قدميه: الغنم والبقر جميعًا، وبهائم البر أيضًا، وطيور السماء، وس”عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب، من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح” (1بط1: 18، 19).
ويقول الرسول بولس: “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم؟ لأنكم قد اشتريتم بثمن. فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله” (1كو6: 19، 20).
مك البحر السالك في سبل المياه. أيها الرب سيدنا، ما أمجد اسمك في كل الأرض!” (مز 8: 3-9).
لذا فحياتنا ليست ملكًا لنا، وإنما هي لمَنْ افتدانا واشترانا بدمه.
فلقد كنا في عداد الموتى بسبب الخطية، فمكتوب: “أجرة الخطية هي موت” (رو 6: 23)، “والشرُ يميت الشرير” (مز 34: 21). لكن في ملء الزمان، تجسد ابن الإنسان لكي يفتدي الإنسان، فمكتوب: “ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني. ثم بما أنكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا: «يا أبا الآب»” (غل4: 5، 6).
3. الوكيل يدير الأملاك لمصلحة المالك
الدارس المدقق لشريعة الأرض في العهد القديم يرى في (لا 25: 23): “والأرض لا تباع بتة، لأن لي الأرض، وأنتم غرباء ونزلاء عندي”، فالشعب كانوا مقيمين مؤقتين فقط، ولم يكونوا ملاكًا، فالله وحده الملك والمالك.
وبالتالي ليس من حق أحد أن يبيع الأرض بيعًا نهائيًا، وكل خمسين سنة في سنة اليوبيل كانت تُفك رهون الأرض، وتُعاد إلى مالكها الأصلي.
فالله وزع الأرض على الشعب بحسب أسباطهم، وقد ائتمنهم عليها ليعتنوا بها، وأكد أن له كل الأرض.
كذلك فقد وضع مبدأ آخر وهو ألا يأخذوا لأنفسهم كل غلة الأرض بل يهتموا بالمحتاج والفقير، وأن يقدموا باكورات غلتهم وأفضل مواشيهم لله كتعبير عملي عن ملكية الله ووكالتهم أمامه.
عندما نتأمل في مثل الوزنات (مت 25: 14-30)، نرى السيد وقد سلم لكل واحد من عبيده عددًا من الوزنات بهدف استثمارها لصالح السيد المالك، فكل ما لدينا من وزنات ممنوح لنا من الله، ونحن مؤتمنون عليه لا لنستخدمه لذواتنا بل لصالح الله.
فالإنسان هو بمثابة مدير أملاك الله التي لديه، يستثمرها لصالحه بكل حكمة ومهارة وأمانة وشفافية.
4. الوكيل يقدم حساباته للمالك
الدارس لمثل الوزنات يرى بوضوح أن مثل الوزنات جاء في سياق حديث المسيح لتلاميذه عن مجيئه الثاني (مت 24: 25)، وقد أكد مرات عديدة أن مجيئه حتمي ومفاجئ، ثم تحدث عن ضرورة وكيفية الاستعداد لهذا المجيء. ففي مثل العذارى (مت 25: 1-13)، تناول ضرورة الاستعداد من خلال الإيمان والعلاقة مع الرب وسُكنى روح الله في القلب، وهو السر في الدخول إلى العرس. ثم في مثل الوزنات (مت 25: 14-30)، تناول كيفية الاستعداد لمجيئه الثاني، فالاستعداد ليس مجرد انتظار سلبي بل هو السلوك بأمانه واستثمار الوزنات التي أو كلنا الله عليها.
من كل ما سبق، نخلص إلى أن إيماننا المسيحي في الله يقوم على ثلاثة أعمدة:
1. الله الخالق. 2. الله الفادي. 3. الله الراعي والمعتني.
ولأنه الخالق فهو له كل الأرض والمسكونة (مز 24: 1).
ولأنه المعتني فله حق السيادة والقيادة.
ولأنه الفادي فهو مالكنا ومالك ما لدينا لأنه اشترانا.
ولذلك فالوكالة ليست مجرد طريقة ماهرة لإدارة ما لدينا بل هي موقف تجاه الله… وهي الأساس الذي بناءً عليه نقرر ما نفعله، فالوكالة المسيحية هي إقرارنا وخضوعنا لسيادة وقيادة الله علينا مما يشجعنا ويدفعنا لتكريس حياتنا بالتمام.