الناموس والنعمة: من الحجر إلى القلب

3

د. القس استفانوس زكي

أعطى الله الناموس من جبل سيناء، لا ليُثقل كاهل الإنسان، بل ليقوده إلى الاقتراب من القدوس لكن الإنسان، بعجزه، لم يستطع أن يفي بمتطلبات الناموس، فتحولت الوسيلة إلى عبء، وتحول الرجاء إلى دينونة.

وهنا سطع النور من الجلجثة، وجاء المسيح، لا لينقض بل ليكمل.

١- الناموس: وسيلة اقتراب، في إطار النعمة

الناموس لم يُعط في سياق غضب، بل في إطار عهد النعمة، ليُظهر للإنسان شكل العلاقة المطلوبة مع الله:

علاقة مقدسة، قائمة على الطاعة تعكس سلطان الله ومحبة الله، لكن هذا الناموس لم يُعطَ في صورة واحدة، بل في ثلاث صور متكاملة تعبر عن شخصية الله الكاملة.

٢- الناموس في ثلاث صور:

أ) الصورة الأخلاقية الأدبية: في لوحي الحجر، أعطى الله الوصايا العشر، تحكم علاقة الإنسان: بالله (الوصايا من 1 إلى 4) وبأخيه الإنسان (الوصايا من 5 إلى 10).

وتتوجّه هذه الوصايا نحو غاية واحدة: تحب الرب إلهك من كل قلبك… وتحب قريبك كنفسك”

ب) الصورة الطقسية: في تفاصيل الذبائح، والأعياد، والهيكل، والطهارة، نرى قداسة الله، لا يقترب الإنسان من الله كما يشاء، بل كما يحدد الله، لأن إلهنا نار آكلة، يجب أن نتقدس للاقتراب.

ج) الصورة التشريعية القانونية: في الأحكام والشرائع اليومية، يظهر سلطان الله كملك، يدبر حياة شعبه، ويقودهم في طريق البر والحق والعدل.

فالله، في الناموس، يكشف لنا عن: محبته، قداسته، وسلطانه.

٣ -الناموس: مرآة تُظهر، لا دواء يُشفي

“بالناموس معرفة الخطية” (رو3: 20)، “لأن ما كان الناموس عاجزًا عنه… أرسله الله بابنه” (رو8: 3)

الناموس يُظهِر عجز الإنسان، لكنه لا يمنحه الشفاء، يكشف الجرح، لكنه لا يضمد، وهكذا، بدلًا من أن يكون وسيلة اقتراب، صار أداة انكشاف وضعف. لكن ذلك لم يكن خطأً في الناموس، بل قصورًا في الإنسان.

٤ -الناموس ظل، والمسيح هو الحقيقة

“الناموس له ظل الخيرات العتيدة، لا نفس صورة الأشياء” (عب10: 1). الذبائح، الكهنوت، الهيكل… كلها ظلال، تشير إلى حقيقة آتية: المسيح؛ فحين أتى الأصل، لم نعد نعيش في الظل، المسيح لم يُلغِ الوصايا، بل أتم قصدها، وحقق معناها.

٥ -النعمة لا تناقض الناموس، بل تكمِّله

“الناموس بموسى أُعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا” (يو1: 17)

الناموس يطلب القداسة… النعمة تمنح القوة للحياة المقدسة.

الناموس يضع المعيار… النعمة تعيننا أن نبلغه.

الناموس يُدين الخاطئ… النعمة تُبرر التائب.

النعمة لا تهمّش الطاعة، بل تُلهمها وتطهِّر دوافعها.

٦ -الوصايا ارتفعت بمعيار المسيح

“سمعتم أنه قيل… أما أنا فأقول لكم” (مت 5)

المسيح لم ينقض وصايا الناموس، بل كشف عمقها الحقيقي: القتل يبدأ بالغضب، الزنا يبدأ بالنظر. الانتقام يُستبدل بالمحبة، فالنعمة لا تقلل من قداسة الله، بل تجعلنا شركاء فيها.

٧ -الناموس مربٍّ يقودنا إلى المسيح

“قد صار الناموس مؤدبًا لنا إلى المسيح” (غلا 3: 24)

الناموس ليس غاية، بل طريق إلى الغاية، يعلِّمنا حاجتنا، ثم يوجِّهنا نحو المخلِّص، لكن بعد أن جاء الإيمان، لا نبقى تحت “المربي”، بل نحيا كأبناء أحرار.

٨ -الروح القدس يحقق ما طلبه الناموس

“لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين حسب الروح” (رو 8: 4)

ما لم يستطع الناموس أن ينجزه في الخارج، يُنجزه الروح القدس في الداخل.

ثمار الروح: محبة، فرح، سلام… كلها تُكمِّل قصد الله من الناموس، لا بأعمال، بل بالنعمة.

٩ -المسيح أتى ليُكمِّل، لا لينقُض

“ما جئت لأنقض، بل لأكمل” (مت5: 17)

وهنا التوضيح اللاهوتي الجميل: المسيح لم يأتِ لأن الناموس ناقص، بل أتى لأن الإنسان ضعيف وغير قادر على إتمام الناموس؛ فــ”الإكمال” هنا هو تحقيق الغرض، لا تعويض النقص، الناموس جاء ليقود الإنسان إلى الخلاص، لكن لم يستطع الإنسان أن يصل، فأتى المسيح ليُكمِّل الطريق، ويمنح الخلاص مجانًا.

إن كان بالناموس بر، فالمسيح مات إذًا بلا سبب (غلا2: 21). لكننا نعلم أن الناموس قُدّم لأجلنا، لا ليُديننا بل ليقودنا إلى مَنْ يحمل الدينونة عنا.

هللويا!

حين لم يستطع الناموس أن يخلِّصنا بسبب ضعفنا، جاء يسوع لا ليكون مخلِّصنا فقط، بل ليكون هو نفسه خلاصنا. “أما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس، مشهودًا له من الناموس والأنبياء، بر الله بالإيمان بيسوع المسيح” (رو3: 21–22)

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا