أحاطتنا هالات الجهل، وتراكمت فوق رؤوسنا سحب عدم اليقين، حين بدا لنا أن ما نراه خارجًا من الممكن أن يؤثر عما بداخلنا، وقد تناسينا أن لروح الإنسان أعماقًا تحدد وتبنى وترسي، أعماقًا تجدد وتخلق وتحيي، روحًا اختلف وسيختلف البشر في تحديد طبيعتها ووضع تعريف محدد لها، لها من الأعماق ما لا قِبل لنا به ولا قدرة على الإحاطة بأطرافه بأي حال من الأحوال! فهي روح إنسانية وإن كان البعض يصفها بأنها روح محدودة إلا إنها محدودة فقط قياسًا لروح الله غير المحدود، لذا نراها وقد تحررت من أغلال الزمان وقيود المكان لتجوب وتجول أينما أرادت ووقتما شاءت.
لها من الأعماق ما يحدد وجودنا وسط محيطنا، ترسي قواعد إحساسنا بالوجود تارة، وإحساس بغياب المعنى وانعدام الذات عندما تمرض تلك الروح تارة أخرى، ولذا فهي تخلق تأثيرًا علينا وعلى ما يحيط بنا بل وعلى الآخرين أيضًا، وهذا لأنها جوهر عظيم للإنسان وما يحدد كينونة البشر ووجودهم، بل هي ذلك الشيء الخفي الذي يمد أجسامنا بالمعنى والحياة، وما أن تخرج منها حتى تصبح تلك الأجساد بلا قيمة فتمسي هي وتراب الأرض سواء.
كثيرًا ما نظن أننا قد بلغنا مداها وإذ بها تفاجئنا بما ما لم يكن لنا في الحسبان! كلما حاولنا سبر أغوار تلك الروح الإنسانية بأعماقها اصطدمنا بخضم بحر هائج من ألغازها، فهي تحوي الكثير مما لا نعلمه والعديد مما لم نعرف عنه شيئًا بما لا يعد أو يحصى …..، تخطت حدود العلم إذ إنها خارج نطاقه، فلديها من الإمكانيات ما نعجز عن وصفه وما لا نجرؤ على التطرق إليه في أي وقت من الأوقات. قد تتكلم إلينا أحيانًا وتخبرنا عن شيء مما لديها، وفي كثير من الأوقات التي تلتزم فيها الصمت، فتبقينا قابعين على حافة شاطئها لننظر ونشاهد ونتأمل دون الخوض في ما تحتويه أو ما تحيط به، بما لديها من أعماق تفوق ارتفاع الجبال في شموخها كما انحدار مياه البحار في أعماقها بل وصحارى الأرض في اتساعها.
لا تنضب فهي مصدر لكل وعي، والخلفية الحقيقية لكل فكر، ونبع يتفجر منه كل قرار وعمل واتجاه، تُشعِرنا بصغرنا ومحدودية معرفتنا بها لما لها من إمكانيات وقدرات خارقة، ولذلك فهي لا تتورع عن أن تمنحنا الطاقة لمواجهة أي شيء مهما علا شأنه أو تعاظم أمره. بطلها عقل يفكر وذهن يتخيل وضمير يميز بين الخير والشر، وحين يجتمع العقل والذهن متحدين بالضمير تحدث الخوارق والمعجزات التي قد نتنبأ ببعض منها وقد نتفاجأ بالبعض الآخر.
نخطئ إذا خُيِّل لنا فهم دقائقها أو حتى الفصل في ماهيتها، فالبعض ظن أن الروح هي مادة أثيرية كالطاقة والموجات الكهرومغناطيسية، والبعض نفى عنها الطبيعة المادية واعتبرها شيئًا معنويًا غير ملموس أو محسوس، وهناك قليلون ممن أنكروا وجودها واعتبروا أن الإنسان آلة عندما تتعطل وتتوقف عن العمل ففي ذلك موته ومن ثَمَّ فناؤه …….، لكنها نتاج روح إلهية خالقة لها ولذا فهي على صورتها وشبهها، فهي خالدة ومريدة وصادرة لقرارات، وما أعضاؤنا سوى كونها جهة تنفيذ لها، ولذا فقد دفعت البعض من المتأملين فيها لأن يطلقوا على أنفسهم أنهم آلهة صغيرة نظرًا لما للروح من قدرات تفوق قدرات العلوم الطبيعية.
حاول العلماء بصفة عامة والفلاسفة بصفة خاصة ــ على مر العصور ــ وضع جهة اختصاص لدراسة وتفسير الأصل الوجودي للأشياء وكيف نشأت من خلال ربط العلم بأحد فروع الفلسفة النظرية لينتج علم الميتافيزيقا أو علم ما وراء الطبيعة، والتي كان من ضمن مادة بحثه (الروح) من حيث ماهيتها وكنهها وجوهرها. وعلى الرغم من ذلك فهو لم يستطع أن يقدم لنا الحقيقة الشافية، فالخيال الافتراضي أو الافتراض الخيالي كان ولا يزال هو القاسم المشترك الذي تقوم عليه تلك الفلسفات العلمية أو العلوم الفلسفية.
وجد فيها الخيال ضالته كما وصلت شطحات الفكر البشرى مسترسلة في وصف طبيعة وإمكانيات تلك الروح إلى نسب أشياء وأحداث وقوانين كونية لها، فاعتقد البعض بأن الأفكار ــ وهى صادرة عن عنصر الروح ــ لها خاصية جذب للأشياء في نطاق ما يُعرف بقانون الجذب الفكري، وأن لكل فكرة ترددًا خاصًا بها، وهذه الترددات الناتجة عن الأفكار تُرسل إلى الكون الذي حولنا ثم تعود إلينا محققة ما نريد من أمنيات وآمال، فإذا كانت أفكارنا سلبية فإن ترددات تلك الأفكار تُرسل إلى أرجاء الكون لتعود إلينا بكل ما هو سلبي وعلى العكس من ذلك الأفكار الايجابية.
لها ارتباط وثيق بينها وبين قوى الطبيعة فتتفاعل معها في حوار ذات لغة مبهمة في مفرداتها وتعبيراتها فيصدر عن ذلك أنواع شتى من الفنون والخلق الإبداع، تتآلف مع الشمس تارة وأخرى مع القمر وكثير من الأحيان التي تتحد فيها مع البحر وأمواجه فيتولد الإلهام بكل صوره ليصبح بذلك الإحساس لفظًا والشعور نطقًا لنتفاجأ بأحرف لكلمات لا ندرى عنها شيئًا..!
وليس فقط رجال الدين ورواد العلوم الطبيعية والفلاسفة هم مَنْ خاضوا ظلام الروح وأسرارها، بل نجد أيضًا رجال العلوم الإنسانية كعلم النفس الذي اختص بدراسة النفس البشرية وما ينتج عنها من سلوك، إلا أن رجاله وعلماءه لم يدخروا جهدًا للوقوف على أعتاب تلك الروح الإنسانية وما تبطنه من خفايا وأسرار، فالكثير منهم أيضًا لصقوا بالروح واحدة من العمليات الخارجة عن إدراكنا المعرفي ألا وهى عملية (توارد الخواطر) أو ما يسمونه بالتيليباثى، وهى انتقال الأفكار من عقل شخص لآخر دون اعتبار لبعد المسافات بينهم نتيجة قوة كهربية وذبذبات تربط الأشخاص بعضهم ببعض دون استخدام أي وسيلة حسية لديهم …!
هي جسر يصل بين الأشخاص وربهم كما أنها وسيلة تربط سكان الأرض بسكان السماء في تناغم وانسجام يفوق الأبصار والإحساس المادي، وهي ليست فقط وسيلة لربط الأرض بالسماء لكنها أيضًا أداة ربط بين سكان الأرض بعضهم ببعض عن طريق تلك العملية الباطنية والخفية والتي تُدعى (الحدس)، تلك العملية التي عن طريقها ندرك أشياء وأشخاصًا دون سابق معرفة بهم، وعن طريقها أيضًا نتنبأ ونشعر بأشياء قبل حدوثها فإذا بها تكون واقعا ماديًا وحقيقة مرئية وملموسة …!
كثيرة وعميقة هي تلك التأملات والكتابات والاعتقادات عن الروح، وبالرغم من ذلك تبقى كتابًا تملأه الشفرات ولا يوجد مَنْ هو قادر على فكها أو قراءتها سوى مَنْ خلقها وأوجدها، لذا فهي تُعد من خفايا الوجود ومن ضمن أسرار الكون بكل ما يحتويه ….. إنها الروح؛ العنصر الأعلى في تكوين الإنسان الذي يتكون من روح ناطقة ونفس شاعرة وجسد مادي معبِّر عن كليهما …… إنها الروح …!