الكنيسة بين الماضى والحاضر والمستقبل

7

العدد 123 الصادر في ديسمبر 2015
الكنيسة بين الماضى والحاضر والمستقبل

    مرة أخرى أعود للكتابة حول شغلي الشاغل في الحياة وهو موضوع الساعة وكل ساعة ألا وهو الكنيسة في مصر، ما كان وما هو كائن وما هو عتيد أن يكون، أو لا يكون، من أمرها في المستقبل القريب والبعيد، أي “الكنيسة بين الماضي والحاضر والمستقبل” والسبب الأساسي الذي لأجله أسير في هذا السرداب المظلم المخيف الطويل المحبط هو إيماني أن في نهايته لؤلؤة ثمينة كثيرة الثمن تستحق أن يبيع المرء كل ماله ويشتريها، تمامًا كما فعل المسيح من أجلها، فأخلى نفسه آخذًا صورة عبد ووجد في الهيئة كإنسان ووضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب، لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شئ من مثل ذلك، بل  تكون مقدسة بلا عيب. ومع علمي الكامل إن الشيطان عدو الكنيسة الأول، وهو عالم أن له زمانًا يسيرًا ويلقى في البحيرة المتقدة بالنار والكبريت، يكره أن يطلب أحد ما فيه خيرها وهو يسعى جاهدًا لو أمكن أن يدمرها وأن يضل المختارين، إلا أنني أثق أن دراسة أحوال الكنيسة وصرف الوقت والجهد والعرق والصحة والمال في سبيل بعثها من جديد، أغنية وتسبحة وبركة في الأرض، يشار إليها بالبنان ويقال فيها: “من هي المشرفة مثل الصباح جميلة كالقمر طاهرة كالشمس مرهبة كجيش بألوية”، أمر لا مفر منه وليس ذلك فقط بل هو تجسيد لما في قلب القدير من ناحية جسده على الأرض، الكنيسة. ولذا فهو يوسوس في عقول وصدور الناس، فتجد أقوالهم وردود أفعالهم، عندما تتكلم أو تكتب عن كيفية بعث الكنيسة مرة أخرى، غريبة عجيبة تنم عن مستوى التغيب الروحي والانفصال عن الواقع ودفن الرأس في الرمال، الذي وصل إليه المسيحيون الاسميون أو حتى الغالبية العظمى من المؤمنين الحقيقيين بالمسيح في هذه الأيام، فكم من مرة سمعت أو قيل لي أو قرأت الكثير من العبارات المملة والمحبطة والمفشلة، التى تجعل الباحث عن خير الكنيسة، في هذا الزمان الأغبر الذي نعيش فيه، لابد أن يجاوب قائلها، ليس بأقل من، اذهب عنى يا شيطان لأنك معثرة لي وعدو لكنيسة المسيح، فمن قائل:  “يا أخ ناجي أنت ليه شاغل بالك بأحوال الكنيسة، الكنيسة ليها رب يصلحها ويعدل مسارها ويحميها، لا أنت ولا أنا هنقدر نعمل لها حاجة” أو “يا أخ ناجي أنت عايل هم الكنيسة ليه؟، ألم يقل المسيح بنفسه: أبني كنيستي وأبواب الحجيم لن تقوى عليها؟”. ومن قائل: يا أخ ناجي إحنا عندنا في مصر قضايا أهم من قضايا الكنيسة والأقباط عمومًا، إحنا لدينا قضايا مصرية مصيرية أكبر من قضية الأقباط، هو يا أخ ناجي أنت مسيحي أولاً ثم مصري ثانيًا؟ أم مصرى أولاً ثم مسيحي ثانيًا؟، لمن ولاؤك الأول، لمصر أم للكنيسة؟، وحتى أولئك الأقباط الذين يدافعون عن القضية القبطية في مصر، مع كل تقديرى واحترامي ومؤازرتي للكثير من الأحرار الأمناء المخلصين بينهم، حولوها إلى قضية حقوق الإنسان، وعدد مقاعد في البرلمان، والمطالبة بالمساواة بين المسيحي والمسلم، الشيوخ والقساوسة، ومباني الكنائس والجوامع في تصاريح البناء وفي من يدفع تكاليف الكهرباء والماء الحكومة أم الكنيسة؟، والمطالبة بالتساوي في الحقوق والواجبات والوظائف والعلاوات والترقيات ليس إلا، ونسوا أو تناسوا، والغالبية العظمى منهم جهلوا أن قضية الأقباط والكنيسة في مصر هي قضية روحية، حرب في السماويات بين قوى الخير والشر، ونجح الوسواس الخناس أن يبعد حتى الأقباط أنفسهم عن فهم أن القضية القبطية ليست قضية سياسية اجتماعية اقتصادية تاريخية بل هي قضية روحية أولاً وأخيرًا، بين مملكة النور التى يمثلها على الأرض كل من سار في النور ومن سكن داخله النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان، وحده السيد الرب يسوع المسيح، تبارك اسمه، وهؤلاء تجدهم في كل قبيلة وشعب وأمة ولسان تحت الشمس، وبين مملكة الظلمة التى ينتمى إليها كل من لم ينقذ من سلطان الظلمة ومن طغيان رئيسها، الشيطان، الخصم، العدو، الحية القديمة المشتكي علينا وعلى إخوتنا نهارًا وليلاً أي إبليس، ولم ينقل إلى ملكوت ابن محبته، تبارك اسمه. ولأولئك السائلين كل هذه الأسئلة والمتطوعين بكل هذه الاقتراحات التى لا طائل منها، فهي لن تسكتني عن النداء بالحق المعلن المكتوب في الكلمة النبوية التي هي أثبت، ولن تخفض صوتي بالمناداة العالية والتنبيه لما فيه الكنيسة من خطر، وبدورنا الأساسي المحوري في تغييرها وتنفيذ خطط القدير بالنسبة لها، أقول: أعلم أن الكنيسة لها رب يدافع عنها، وأعلم أننا بدونه لا نستطيع أن نعمل شيئًا، وأعلم أننا في عالم وضع في الشرير، لكني أيضًا أعلم أن خطط القدير في كل مكان وزمان تحتاج إلى أناس متواضعين، أولئك الذين دعي اسمي عليهم، قال القدوس، وصلوا وطلبوا وجهي، ورجعوا عن طرقهم الردية، فعندها فقط يتم لهم القول: فإني أسمع من السماء وأغفر خطيتهم وأبرئ أرضهم، فما تحتاجه الكنيسة اليوم عملية إبراء للأرض، أرض الكنيسة التى تقف وتعيش عليها، ولن يتسنى للكنيسة هذا الإبراء إلا إذا تواضعت وصلت وطلبت وجه الرب ورجعت عن طرقها الردية وإذا ما درست أمر “ الكنيسة بين الماضي والحاضر والمستقبل”، فسترى المثال الحي العملى الذي كانت عليه كنيسة الماضى وكيف أنها كانت مغيرة لكل ما كان ومن كان حولها، وكيف كانت تدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة وكيف أنها كانت وسيلة لقيام وسقوط كثيرين من الحكام والملوك والأباطرة وفي هدم وقيام دول وممالك وإمبراطوريات وتغيير وشفاء مرضى وإخراج شياطين وإطلاق المأسورين في الحرية وقبول أعتى المجرمين للخلاص المجاني في المسيح.

    أما “الكنيسة بين الماضي والحاضر والمستقبل” هذا العنوان الذي اخترته لهذا المقال، كان هو نفس عنوان المؤتمر الذي اقترحته على المنتقل إلى جوار ربه الدكتور القس صموئيل حبيب رئيس الطائفة الإنجيلية الأسبق في منتصف ثمانينات القرن الماضي، ففي إحدى لقاءاتنا، ونظرًا للظروف التى كانت تمر بمصر في تلك الأيام، من حصاد لما فعله الرئيس السادات، قبل أن يلقى حتفه على يد الجماعات الإسلامية التى كان قد أطلق يدها لقتل واضطهاد المسيحيين، الأمر الذي عمق الفجوة بين المسيحيين والمسلمين، بالإضافة إلى إطلاق يد الإخوان وغيرهم للإساءة للكنيسة، ومن تحديد لإقامة البابا شنوده الثالث في الدير وزجه بالمئات من الكهنة والقادة المسيحيين في غياهب السجون، وظهور بعض الحركات المسيحية محدودة التأثير على الشارع المصرى والكنيسة كمؤسسة وظهور كتاب الدكتور رفيق صموئيل حبيب الذي كان سببًا في أحداث مشاكل عدة للكنيسة وحتى لوالده شخصيًا، والذي كان من نتائجه ترحيل الحكومة المصرية للعديد من خدام المسيح الأجانب المقيمين في مصر يومئذ، باختصار كانت الكنيسة تمر وتواجه الكثير من المتطلبات والمشاكل والتحديات الجسام من الخارج والداخل، في ذلك الوقت اجتمعت بالقس صمؤيل حبيب وطلبت منه أن تقوم الكنيسة الإنجيلية بعقد مؤتمر تحت عنوان “ الكنيسة بين الماضي والحاضر والمستقبل” أو “ الكنيسة سنة ألفين”، يشترك فيه ليس الإنجيليين فحسب بل كل الطوائف والهيئات المسيحية، قلت له: جناب القسيس العالم كله يتكلم عن التغيير الذي سيحل به بحلول سنة ألفين، لماذا لا ندعو بعض المفكرين المسيحيين سواء المحليين أو من هم من خارج مصر ونقارن بين الكنيسة فيما كانت عليه وما هي عليه اليوم وما نتوقع أن تكون عليه في سنة ألفين؟، لماذا يسرقنا الوقت وندخل إلى الألفية الثالثة دون أن نستعد لها؟، كان القس صموئيل حبيب مفكرًا حقيقيًا مشهودًا له في هذا المجال أكثر من كل مجالات حياته، قال لي: ناجي هذه فكرة جميلة ومفيدة، لكنها معقدة التنفيذ، فمن هم المفكرون الذين تعرفهم وخاصة في الكنيسة المصرية القادرون على رسم خطط لمستقبل الكنيسة في مصر؟ الحقيقة لم يكن في ذهنى يومها إلا الشيخ نعيم عاطف الكاتب والشاعر والدارس لتاريخ الكنيسة والعامل بإصدار مجلة هو وهي يومها، ثم أضاف القس صموئيل حبيب، الحقيقة التى ينبغي مواجهتنا أننا لا نمتلك مجموعة من المفكرين المسيحيين القادرين على الاشتراك بأوراق لها قيمتها في مثل هذا المؤتمر، ثم التكهن بما يمكن أن يحدث في سنة ألفين أي بعد 15  سنة تقريبًا شئ مستحيل، فالظروف والأحوال والأحداث تتغير بأسرع مما نتخيل في اليوم الواحد ليس في الشهر أو السنة الواحدة، باختصار لم يوافق الدكتور القس صموئيل حبيب على فكرة عقد هذا المؤتمر، وفي زيارته الأخيرة لأمريكا والتى فارق فيها الحياة الدنيا، والتى كانت في الجزء الثاني من التسعينيات، قابلته في مدينة باسادينا في كاليفورنيا وراودتني فكرة المؤتمر مرة أخرى، فقد صرنا على مقربة من سنة ألفين أكثر مما كنا في الثمانينات، لكن المنية وافته قبل أن يقرر إذا ما كان سيتبنى مثل هذا المؤتمر أم ما زال عند رأيه السابق، وبالطبع إن كان المفكر صموئيل حبيب يرى أنه لا يوجد أحد في مصر يومئذ يمكنه الاشتراك في مثل هذا المؤتمر بدراسة علمية روحية مفيدة ومغيرة للكنيسة، فكم بالحرى كانت أيام خلفه التى تدهورت فيها أحوال الكنيسة العامة بسرعة لم يسبق لها مثيل من قبل،والعجيب أنه بعد أكثر من عشرين سنة على طلبي من القس صمؤيل حبيب أن يتبنى مؤتمر “الكنيسة بين الماضي والحاضر والمستقبل” ورفضه تنفيذها، كنت في زيارة مصر والتقيت بالقس صفوت البياضي رئيس الطائفة السابق وحضر لقاءنا أحد الأصدقاء النشطاء في رابطة الإنجيليين والعمل الإنجيلى في مصر، وقال لنا القس صفوت أن جمال مبارك طلب منه أن يقدم له اسماء عشرة أشخاص إنجيليين يكونون قادرين على الظهور في التليفزيون المصرى ولهم رؤية في مستقبل مصر، لأنه على حد قول جمال مبارك يومها أنهم، أي الحكومة والشعب المصرى، لا يفهمون كيف يفكر المسيحيون الإنجيليون المصريون ولا يعرفون بينهم إلا أفراد قلائل بصفة شخصية وهم لا يمثلون الإنجيليين بكل معنى الكلمة، والعجيب أن إجابة الدكتور القس صفوت البياضى على نفس السؤال هو أنه ليس لدينا عشرة أشخاص في الطائفة الإنجيلية يمكن اعتبارهم مفكرين ويمكن الاعتماد عليهم للظهور في وسائل الإعلام كشخصيات إنجيلية مؤثرة، وصرفنا ثلاثتنا ما يقرب من  15دقيقة في محاولة لكتابة اسماء عشرة فقط ليقدمها القس صفوت لجمال مبارك فلم يكتمل العدد، وأخشى أنه بعد  15 سنة أخرى يسأل من سيكون يومئذ رئيساً للطائفة الإنجيلية نفس هذا السؤال ويطلب منه نفس هذا الطلب فيجيب نفس هذه الإجابة، هذه مشكلة حقيقة ينبغى أن تخجلنا من أنفسنا كإنجيليين وكمسيحيين عمومًا لأنها هي نفس الحال مع الكنيسة العامة على اختلاف طوائفها، لكن لا ينبغي أن نقف عند الخجل من أنفسنا بل نعد جيلاً من المفكرين المؤمنين الروحيين المثقفين الدارسين الشجعان الذين يستطيعون أن يدرسوا “الكنيسة بين الماضي والحاضر والمستقبل” وأن يظهروا في وسائل الإعلام ويعلنوا عن رأينا كمسيحيين وكأصاحب الأرض الأصليين وعن وجهات نظرنا وحلولنا لكل مشاكل مصر الدينية والاجتماعية والسياسية، ومرت السنين مسرعة راكضة إلى اليوم، وكلما رأيت حالة الانحدار العام الذي تسرع إليه الكنيسة في كل طرقاتها، وكلما رأيت كمية التغيب والإنكار ودفن الرأس في التراب والرمال والتقهقر في تقدم الكنيسة الروحي والمجتمعى والخدمي، الأمر الذي يبدو أن قادتها لا يشعرون به، أو أنهم لا يريدون أن يحركوا الماء الساكن لئلا يطرطش عليهم عكارها ويكشف المستور، أو ربما أن حواسهم صارت مخدرة إلى درجة لم يعودوا معها بقادرين على رفع أصواتهم، كلما رأيت ذلك، ازدت اهتمامًا ومناداة بأهمية أن نبدأ حوارًا مخلصًا جادًا هادفًا حول “ الكنيسة بين الماضى والحاضر والمستقبل”، استعدادًا لمواجهة التحديات الروحية والزمنية والسياسية والإجتماعية التى تواجه الكنيسة اليوم، مهما بدت المفشلات والمحبطات واستحالة الوصول إلى تغيير في الأحوال والقامات. ففي رأيي الخاص إن الكنيسة هي الجسد الروحي الوحيد، وأكرر إن الكنيسة هي الجسد الروحي الوحيد على الأرض القادر على إصلاح مصر وفقًا لخطة سماوية إلهية معروفة سابقًا عنده ، سبحانه، قبل تأسيس العالم، والقضايا التي لا تشترك الكنيسة في وضع أسس روحية لحلها، لن تحل بالمرة مهما كانت إمكانيات ومحاولات وقدرة وخبرة وإخلاص غير الكنيسة في حل هذه المشاكل وتسديد الاحتياجات.

    والدلائل على ما أقول كثيرة على أي حال، فلقد واجهت الكنيسة الأولى في بداية تكوينها كل ما تواجهه كنيسة اليوم بل وأكثر منه بمراحل، من اضطهاد واحتياج وإخوة كذبة وذئاب خاطفة ممن تقمصوا شخصيات الآباء والقساوسة والمتقدمين في الخدمة، والمادية والهرطقات التعليمية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، واجهت الكنيسة في الماضي الاضطهاد على أشد ما تكون صوره، فقد اعتقل كهنة العهد القديم والكتبة والفريسيون والولاة الرومان التلاميذ أكثر من مرة لا  لسبب سوى أنهم كانوا مسيحيين ينادون بيسوع المقام من الأموات ربًا ومسيحًا، وضربوهم وهددوهم وأمروهم أن لا ينادوا باسم يسوع من بعد أبدًا، وقادوهم في سلاسل وقيود موثقين أمام الولاة والحكام، وطردوهم من ديارهم ونفوهم خارج مدنهم وبلادهم، وإذا أفرط حنق معذبهم، كان يضطرهم أن يجدفوا على الاسم الحسن، ومدوا الرسول بولس للسياط ثلاث مرات وألقوا به في السجن الداخلى ووضعوا رجليه هو وسيلا في المقطرة وهم مجروحين، وأغلقوا الكنائس والاجتماعات، وجردوا المؤمنين بالمسيح من عائلاتهم وأملاكهم، وكما سطر لنا الوحي المقدس عن المؤمنين أنهم تجربوا في هزء وجلد، ثم في قيود أيضًا وحبس رجموا، نشروا، جربوا، ماتو قتلاً بالسيف، طافوا في جلود غنم، وجلود معزى، معتازين، مكروبين، مذلين، وهم لم يكن العالم مستحقًا لهم. تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض. ومع كل ذاك الذي وقع على كنيسة الماضي، وهو ما لا يمكن أن يتصوره عقل أنه يمكن أن يحدث مع إنسان ما، حتى من آكلي لحوم البشر، ليس مع المسيحيين المؤمنين المسالمين الذين يحبون أعداءهم ويباركون لاعنيهم، لم نسمعهم يتذمرون أو يشتكون أو يكتئبون، بل كان أكثرهم احتمالاً للتعذيب والألم يصرخ وهو مجرباً قائلاً: “ إن خفة ضيقتنا الوقتية تنشأ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدي” ويرفع آخر صوته بكلمات التعزية لنفسه ولإخوانه قائلاً: “احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة”، أما كنيسة الحاضر، فلم يختبر إلا عدد قليل جدًا جدًا منهم، عدد لا يذكر بسبب ضآلته وصغره، من المؤمنين مثل هذه الاضطهادات والضيقات ومع ذلك فلا يستطيع معظمهم الجلوس على مقاعدهم لأكثر من ساعة أو ساعة ونصف على الأكثر في اجتماع عبادة بالكنيسة حتى لو كانت قاعة الاجتماعات مكيفة ومجهزة بأحدث أنواع المريح من الكراسي وأجهزة السمعيات والبصريات والموسيقى والمؤثرات السمعية والبصرية، ويبدو أن كنيسة المستقبل لن تعقد في مبانٍ وقاعات واجتماعات بل ستكون على شاشات التليفزيون والتليفونات المحمولة، الأمر الذي بدأت بعض الكنائس بالفعل في استخدامه، فامتنع أكثر وأخلص أعضاؤها عن حضور الكنيسة والشركة مع المؤمنين. واشتكى بعض الحضور من نوع الكراسي حتى المريحة التى لم يتعودوا الجلوس عليها في بيوتهم، وبالتالي اعتبرت الكنيسة نفسها مجربة معذبة محاربة من إبليس الذي يتهمونه أنه السبب وراء كل فشلهم وإخفاقاتهم.

    مثال آخر فقد واجهت الكنيسة في الماضي مشكلة نقص الإمكانيات المادية تمامًا كما واجهت سيدهم المسيح في حياته على الأرض وهو الذي لم يكن معه إستارًا ليدفع عن نفسه وعن تلميذه بطرس الضرائب،  وهو الذي يمتلك الأرض والسماء وخالق كل الأشياء بكلمة قدرته، وهكذا كان الحال مع بولس الرسول تلميذه- تبارك اسمه- لم تكن له في أوقات كثيرة الإمكانيات المادية التى تسد جوعه أو تروي عطشه، فكتب قائلاً: “ إلى هذه الساعة نجوع ونعطش ونعرى، حتى قال تدربت أن أشبع وأن أجوع وأن أستفضل” وهكذ عرفت كنيسة الماضي وتعلمت أن تدرب نفسها على أن تجوع وأن تستفضل، وعلمت نفسها كيف يشارك أحدهم الآخر، فيما عنده فلا يكون بينهم محتاج، والحقول والمقتنيات كانوا يبيعونها ويأتون بأثمانها عند أرجل الرسل لتوزيعها على المحتاجين والفقراء، أما كنيسة الحاضر يبدو أنها لم تتعلم هذا الدرس على الإطلاق، فالأموال التى تصرف على مباني الكنائس وديكوراتها وأنشطتها وخلافه، يمكن أن لا يبقي مسيحي واحد في احتياج، فما لدى الكنيسة المصرية على اختلاف طوائفها من أموال ومصادر للتمويل أكبر من ميزانيات بعض الدول العربية المحيطة بنا، وقد تعلمت وتعودت الكنيسة وهيئاتها على كتابة التقارير للهيئات الأجنبية وجمع صور الأطفال الذي يملأ الذباب أفواههم وأنوفهم والدموع تسيل من عيونهم ويقطر الهم والحزن والاحباط من وجوههم وإرسالها للخارج، فهذه كلها أصبحت الوسيلة الوحيدة ليتحنن قلب الأجانب المسيحيين وخاصة الأمريكان على إخوتهم في عائلة المسيحيين المصريين ليدفعون القروش التي يطلبون مقابلها مثل هذه الصور المدمرة والجارحة لعقل وضمير ونفس هؤلاء الأطفال، وقد تخصصت كنائس شهيرة وأفراد معروفون للجميع في مصر وتفننوا في تلبية طلبات الأمريكان والأوروبيين في هذا الشأن مهما كلفهم الأمر، أما كنيسة المستقبل، إن استمر الحال على ما هو عليه، فقد تطلب الهيئات الأمريكية من وسطاء الكنائس العاملين معهم أن يضعوا كاميرات دائمة في بيوت هؤلاء الفقراء حتى يتسنى للمسؤلين عن الهيئات الأمريكية أن يروا العائلات التى يمولونها في غرف نومهم في بث مباشر على الإنترنت، فيقوموا بعرضها بدورهم على مموليهم تمامًا، كما تعرض السلع والمشتريات على الزبائن لتجمع المساعدات ولا يرسل منها إلى الأطفال المصريين المحتاجين إلى القوت الضروري أكثر من أربعة دولارات من كل مائة دولار حسب تقرير أمريكى مسيحي صدر عن إحدى الهيئات الأمريكية مؤخرًا، والحمد لله من قبل ومن بعد. وأصبح هناك مكاتب متخصصة يعمل بها متعهدون لجمع الأموال لهذه الهيئات المسيحية ويتقاضى بعضهم عمولتهم التى تصل إلى 40 ٪ مما يجمعه للغلابة المسيحيين في مصر، هذه هي كنيسة اليوم، إن ما أقوله حقائق مؤكدة موثقة، وتحضرني قصة سخيفة حدثت معي أنا شخصيًا في هذا الشأن، فقد كان في زيارتي أحد أحبائي وكان هو المسؤل الأول في مصر عن قناة فضائية لها فروع في كثير من البلدان العربية، وفي سياق حديثه معى، كان مستاءً كثيرًا من أحد مكاتب الخدمات الأمريكية الذي يجمع لهم التبرعات وقال لي في حديثه: تصدق يا ناجي أن الرجل الأمريكي اللي بيجمع لنا الدعم من الكنائس الأمريكية بيأخذ مننا 38 ٪ مما يجمعه لحسابه الشخصي الخاص، سألت صديقى وما الذي يجبركم على قبول والتعامل مع مثل هذا الرجل، قال لي صديقي العزيز: “ كل الهيئات المسيحية اللي بتحاول تساعدنا بتطلب نفس الطلب ونفس النسبة وفي بعض الأحيان أكثر من ذلك، والأمر الآخر أننا بنقول إننا نستفيد بال 60 ٪ أحسن من مفيش” وبعدها بأسبوعين اتصل بي هذا الشخص الأمريكى وقال لي، أنا فلان صاحب المكتب الذي يقوم بجمع المساعدات للقناة الفلانية، وأنا علمت من الأخ مدير القناة في مصر أن حضرتك بتبعت تبرعات مادية وعينية إلى القناة، وحسب الاتفاق مع هذه القناة أنت لا يجوز لك أن تتبرع لهم مباشرة لأنك في أمريكا ولا بد أن تبعث تبرعاتك إلى مكتبنا ونحن نقوم بتحويلها إلى القناة الفضائية في مصر، كان ردي عليه عنيفًا معنفًا، قلت له، سيادتك عايزني أنا المصرى أبعث لحضرتك تبرعاتي التى أحصل عليها بعرق جبيني والتى أحصل عليها نتيجة لعملي المتواصل في عيادتي 8  ساعات يوميًا، تحت ضغط عصبي ونفسي لم تجربه أنت ولا تستطيع أن تحتمله أو حتى تتخيله، عايزني أبعث لك تبرعاتي لمصر علشان تاخد منها 38 ٪ لسيادتك في أمريكا. هذا ليس غريبًا الآن لأن الكنيسة أصبحت مؤسسة مادية.

    أمر آخر هو أنه في كنيسة الماضي كان الروح القدس هو وحده المرشد والمعلم والمنبه ومتخذ القرارات في الكنيسة وكانت الصلوات هي الوسيلة الوحيدة لتعلم طلباتنا لدى الله وسلام الله الذي يفوق كل عقل كان يحفظ قلوبهم وأفكارهم في المسيح يسوع. وكانت القرارات في الكنيسة تؤخذ على أساس مبدأ واحد هو “ رأى الروح القدس ونحن” وبناء عليه كانت القرارات التى تؤخذ في الكنيسة من الرسل والآباء ذات تأثير دائم ممتد ولها طابع الإلزام للقريب والبعيد ومازلنا نحصد نتائجها العظيمة المجيدة حتى اليوم، أما كنيسة اليوم فمعظم الإرشاد فيها يأتي من الرياسات والرعاة ومجالس إدارة الكنائس والهيئات والمجالس الملية ورئاسات الطوائف، التى عادة ما تتكون من الأطباء والمهندسين والمحامين وغيرهم من أصحاب الشهادات العليا والدكتورهات أو أصحاب الأموال والتجار وما شابه ذلك، وتجري انتخابات واختيار أعضاء معظمها ليس وفقًا لمبدأ رأى الروح القدس ونحن، أو مبدأ “قال الروح القدس افرزوا لي فلان وفلان للعمل الذي دعوتهما إليه” بل رأى المجلس الملي أو مجلس إدارة الهيئة أو المؤسسة أو مجلس الكنيسة، أو رأى القس فلان أو علان وكأن لا وجود أو لزوم أو حاجة للروح القدس في كل هذا. ولذا، فالنتيجة الحتمية هى أن تتضارب الآراء وتتعارض مع الخطط والميول الشخصية والنفسية لبعض قادة هذه المجالس والهيئات وتتغير معظم القرارات بتغيير القس أو المجلس أو الرئيس ببساطة لأنها ليست نابعة وصادرة ومؤسسة ومرسخة ومعتمدة من الروح القدس. ليس ذلك فقط بل اختزل عمل الروح القدس، حتى في معظم الكنائس التى ترى في أنفسها أنها كنائس الروح القدس والتى مازالت تؤمن بمعمودية الروح القدس ومواهب الروح القدس، يختزل عمل الروح القدس ويقتصر على رؤى وإعلانات ونبوات وحركات وهزات جسدية وتكلم بألسنة وما شابه، ولم يعد الروح القدس يعرف بأنه شخص القدير نفسه وأنه يرنو إلى الحضور شخصيًا في كل اجتماع وكنيسة مهما اختلفت تسمية طائفتها عن الأخرى، أما كنيسة المستقبل، إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، فسيختفي كبار السن بالموت وسيترك أعضاء الكنائس التى تركز على عمل الروح القدس من صغار السن كنائسهم بسبب صراعاتهم النفسية والروحية التى تعلموها عن الروح القدس والتى لم يروا ثمرها أو تأثيرها في مسؤلي كنائسهم، وسينسى عمل الروح القدس وقوته ومواهبه وثمره في الكنيسة العامة ولعل متى جاء ابن الإنسان يجد الإيمان على الأرض.

    إذا أردنا كنيسة قوية مرهبة كجيش بألوية في الحاضر والمستقبل، فلا بد من دراسة جادة مخلصة أمينة للكنيسة بين الماضى والحاضر والمستقبل، ونترك للروح القدس المجال أن يذكرنا من أين سقطنا ونتوب ونتواضع ونصلى ونطلب وجه إلهنا ونرجع عن طرقنا الردية حتى يسمع لنا إلهنا من السماء ويغفر خطيتنا ويبرئ أرضنا. ولكي يتم كل هذا، لا بد من تواجد عناصر عدة اختزلهم في اثنين، أولهما هو أننا نحتاج في الكنيسة إلى كبير، أب، مرشد، لا يهم الاسم، لكن الحقيقة، أننا نحتاج إلى كيان يأخذ مكان الكبير أو الأب أو المرشد، كيان روحي ممتلئ من الروح القدس يستطيع أن يقول رأى الروح القدس ونحن، كيان يحترم من الكنيسة العامة ويخضع له كما للرب، كيان مشهود له كما كانت الكنيسة تشهد عن إسطفانوس وبطرس وبولس ويعقوب ويوحنا في كنيسة الماضي. الأمر الثاني نحتاج أن يعرف الجميع أن هناك بقية تقية أبقاها الآب في سلطانه وهي لم تحن ركبة لبعل تعلم أنها بالنعمة خلصت لا بالأعمال، وبالنعمة امتلأت بالروح القدس وبالنعمة والإيمان تسير في هذه الحياة الدنيا إلى أن يأتى سيدنا المسيح على سحاب المجد ليخطفنا وحتى حيث يكون هو نكون نحن أيضًا. إن الوقت منذ الآن مقصر، والكنيسة تقوم أو لا تقوم من سباتها سيأتي سيدنا سريعًا وعندها سيعطي كل منا حساب وعمل كل واحد سيمتحن بالنار إن بقى عمل أحد، فسيأخذ أجرة وإن احترق عمل أحد، فسيخلص، لكن كما بنار. وإنني أطالب قادة الكنيسة المصرية بعقد مؤتمر خاص للبحث في “الكنيسة بين الماضي والحاضر والمستقبل” ولندرس معًا أسباب انحدار الكنيسة وكيف نعطى الروح القدس فرصة لتصحيح مسارها، وأيضًا لندرس هل هناك تصور للكنيسة في الكتاب وهل يتناسب هذا التصور مع ما وصل إليه القرن الواحد العشرون من تقدم أو تقهقر في شتى نواحيه؟، درجة انحراف الكنيسة عن الحق والمثال المذكور عنها في الكتاب المقدس، ماذا قدم الكتاب للكنيسة من ضمانات لاستمرار الكنيسة قوية راسخة ذات رؤية وتأثير على المجتمع المحيطة به؟

    ربي يسوع، نشكرك لأجل كنيسة الأمس وما تركه لنا الروح القدس من خلالها، ونشكرك من أجل كنيسة اليوم ونصلى أن تفتقدها برحمتك، ونصلى إلى كنيسة المستقبل أن تعطيها أن يكون مجدها الأخير أعظم من مجد الماضي.. آمين.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا