العقل العربي وبؤسه

21

د. مراد وهبة

ومع ذلك فثمة سؤال لا بد أن يُثار: هل ثمة عقل عربي لكي نسرد بؤسه؟ وفي صياغة أعم: هل ثمة جماعة بشرية تفكر بنمط معين بحيث يقال على هذا النمط إنه يخص جماعة دون أخرى؟ أي هل من المشروع الحديث عن عقل جمعي على نحو ما كان يرى مؤسس علم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم عندما قرر أن ثمة عقلاً جمعيًا متمايزًا عن العقول الفردية وأعلى منها، وهو وإن كان جملة هذه العقول إلا أنه يؤلف كلًا مغايرًا لها، كما يؤلف التركيب الكيميائي شيئًا مغايرًا لعناصره. والرأي عندي أن العقل الجمعي هو تعميم للعقول الفردية، والتعميم هنا يعني مجاوزة هذه العقول. ومن ثَمَّ فإن العقل الجمعي من حيث هو كذلك مصطلح مشروع، ثم هو مشروع بحكم المؤلفات التي يأتي ذكر العقل في عناوينها مصحوبًا باسم جماعة معينة. مثال ذلك: هانس كُون له ثلاثة مؤلفات عناوينها على النحو الآتي: العقل الألماني – العقل الروسي – العقل الفرنسي. ودبليو. إي. أبراهام: عقل إفريقيا. وفرانز بوآس: عقل الإنسان البدائي وكلود ليفي شتراوس: العقل المتوحش. وعلي الحاج بكرى: العقل العربي بين حربين. ورافائيل باتاي: العقل العربي – العقل اليهودي. وتشارلز مور: العقل الياباني. وليفي بريل: العقلية البدائية.

من ضمن المشروع إذًا الحديث عن عقل عربي، وبعد ذلك يثار السؤال الآتي: كيف نحدد خصائص هذا العقل العربي؟ نحدده بكيفية مواجهته للتحديات. والتحديات في العصر الحديث يمكن اختزالها في تحديين: أحدهما خاص وهو مواجهة العقل العربي للغرب، والآخر عام وهو مواجهته للحضارة الإنسانية في صورتها العصرية البازغة مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين وهي الكوكبية. وكانت حضارة الغرب وبدايتها الفلسفة اليونانية هي التحدي الأكبر. وقد تولى وأدها في القرن العاشر إثر ترجمة مؤلفاتها إلى العربية أبو حامد الغزالي في كتابه المشهور: “تهافت الفلاسفة”، وفيه كفَّر الفلاسفة المسلمين الذين تأثروا بالفلسفة اليونانية الوثنية من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو. وفي 3 يوليو من عام 1798، وهو يوم غزو نابليون لمصر، انتبه محمد علي إلى ثقافة الغرب فأرسل البعثات إلى فرنسا وكان التنوير هو السمة الأساسية للثقافة الفرنسية بمعنى أنها ثقافة متحررة من كل سلطان ما عدا سلطان العقل. وقد عبَّر رفاعة الطهطاوي عن هذا المغزى في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز”.

وفي القرن العشرين، تولى وأد الحضارة الغربية اثنان من كبار أساتذة الفلسفة: علي سامي النشار وعبد الهادي أبو ريدة. وأنا أضعهما في الصدارة لأنهما بمثابة الجوالة التي تجوب الجامعات العربية بلا استثناء لتبشر بوأد الفلسفة الغربية في تراثها اليوناني. وقد اخترتُ لفظ الوأد لأنه لغة يعني الدفن حيًا، والدفن حيًا يعني الخنق، والخنق لغةً هو عصر الحلق حتى الموت. وإذا كان الحلق هو الذي منه تخرج حروف الهجاء عند النطق فمعنى ذلك أن الخنق هو خنق النطق. وإذا كان لفظ النطق هو الذي اشتققنا منه لفظ المنطق فالخنق إذًا يعني إبطال المنطق. وكان إبطال المنطق هو السائد منذ القرن السابع الهجري عندما أفتى ابن الصلاح الشهرزوري بأن المنطق هو مدخل الفلسفة والفلسفة أُس السفه والانحلال. وفي هذا السياق تكون استباحة الاشتغال بالمنطق من المنكرات المستبشعة. وإذا كان علم المنطق واردًا من الفلسفة اليونانية القديمة وفي الصدارة منطق أرسطو فيلزم وأد أرسطو. والسؤال بعد ذلك: ماذا قال هذان الاثنان؟ جوابي منقول من الجزء الأول من كتاب علي سامي النشار وعنوانه: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، حيث قال إن المسلمين قدموا فلسفة لم يعرفها اليونان ولا غير اليونان وما زالت كما هي منذ نشأتها حتى الأيام التي نحياها نحن الآن. فما زالت فلسفتنا وفكرنا على ما تفلسفه أسلافنا الأقدمون وما تفكروه. ولم يظهر بيننا حتى الآن فيلسوف على طريقة أوروبا، كما لم يظهر من قبل بين أسلافنا فيلسوف على طريقة اليونان. وعندما تحدث عن عبد الهادي أبو ريدة قال إنه كان يريد تخليص مذهبه من أضرار فلسفة اليونان التي يختلف فيها عن فلسفة الإسلام. وقد ظهر دفاع أبو ريدة عن أصالة الفلسفة الإسلامية واستقلالها في تعليقاته الزاخرة على كتاب تاريخ الفلسفة في الإسلام للأستاذ دي بور والذي قام أبو ريدة نفسه يترجمنه من الألمانية إلى العربية. وفي نهاية المطاف يشير علي سامي النشار إلى أن الأشعرية هي آخر ما وصل إليه العقل الإسلامي الناطق باسم القرآن والسَنة المعبر عنها في أصالة وقوة. وبعد ذلك راح يعدد الذين ساروا في ذلك المسار من أساتذة الفلسفة الإسلامية.

والمفارقة بعد ذلك كله تكمن في العبارة التي قالها طه حسين في حواره مع المفكر المعاصر غالي شكري: يخيل إلي أن ما كافحنا من أجله ما زال يحتاج إلى كفاحكم وكفاح الأجيال المقبلة بعدكم. إنني في آخر أيامي ألملم أوراقي وسأمضي قريبًا. أودعكم بكثير من الألم وقليل من الأمل. وفي سياق هذه العبارة أتساءل: أليس في الإمكان القول إن كفاح طه حسين كان من أجل تأسيس التنوير، وإن مقاومته أفضت إلى الإسهام في بزوغ الإسلام السياسي المؤسس للإرهاب في هذا القرن من أجل استدعاء الخلافة الإسلامية التي لا تختلف في مضمونها عما كان يتباهى به سامي النشار ويزهو من وأد الفلسفة الغربية.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا