العدد 86 الصادر في نوفمبر 2012 التيتانك والحكاية المصرية
ما أصعب رسالة الكُتَّاب والصحافيين إن هم أرادوا أن يصوروا الحقيقة المجردة للناس دون تزيين أو تزييف، تأويل أو تهويل، فهي تماماً كرسائل الأنبياء في وقت يكون فيه الناس مغيبين رافضين لاستقبال الحقائق والمعلومات والمتطلبات الإلهية، وحساب العواقب والتبعات الأرضية، فمع أن رسالة الأنبياء هي رسالة ربانية سماوية، لا دخل للنبي في مضمونها أو في وقت إعلانها للناس، إلا أنه قد قيل عن أورشليم، المدينة العظيمة القديمة “يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها”، والسبب أن رسائل هؤلاء الأنبياء والمرسلين إليها كانت، في معظم الأحيان، مخيفة، محذرة، موبِخة، سلبية وليست إيجابية (من وجهة نظر المستقبلين)، ولم تكن على هوى الناس ولا تتمشى مع ميولهم وتطلعاتهم، هكذا أيضاً تكون، مع الفارق في التشبيه، رسائل الشعراء والكُتَّاب والصحافيين الذين يعلنون الحق ولا شئ سوى الحق. ولما كان الناس جميعاً، وخاصة في مصر اليوم، كلٌ يعاني من نوع ودرجة ما من الحيرة والإحباط والاكتئاب، لسبب أو لآخر، لذا، فهم دائمي البحث عن الرسائل الإيجابية المشجعة المطمئنة المفرحة، سواء أكانت مخلصة من شخص أمين، صادق، محب، واعٍ يعرف ما يقول أو على الأقل شخصاً مخلصاً، لكنه حالم مخدوع، يقول ما يتمنى أن يحدث وليس ما هو عتيد أن يكون. وقد يقبل الناس حتى الرسائل الخادعة المضَلِّلَة، وهم يعلمون ذلك جيداً، المهم أن تكون رسائل مطمئنة ومفرحة كما قلت سابقاً، ولكل هذه الأسباب ترددت كثيراً في كتابتي لهذه الأفكار الواردة في هذا المقال. فأنا بطبيعتي شخص متفائل أؤمن أن إلهي ووليي حي، متسلط في مملكة الناس فماذا يفعل بي إنسان، فإن كان الله معي فمن عليّ، لكنني أرى أن مصر الآن، هي تيتانك القرن الواحد والعشرين. فما أوضح أوجه الشبه والاتفاق بين مصر الحالية والسفينة التيتانك التي غاصت كالرصاص في أعماق المحيط الأطلسي، وعلى متنها أكثر من 1500 شخص، أولئك الذين غاصوا معها، وهم يمثلون ما يقرب من ثلثي عدد ركابها الذين كانوا جميعاً على ظهرها وهم يحلمون برحلة جميلة ذات نهاية سعيدة على شواطئ نيويورك. ولأولئك الذين لم يسمعوا عن التيتانك من قبل أقول، التيتانك هي سفينة عملاقة عابرة للمحيطات، من إنتاج الشركة الإنجليزية المعروفة الآن بشركة ملاحة النجمة البيضاء، وهي الشركة الأشهر في ذلك الوقت لإنتاج السفن، بُنيت التيتانك في مدة 3 سنوات، وتكلف إنتاجها 7.5 مليون دولارا، وهو ما يعادل 400 مليون دولارا بسعر الوقت الحالي، ومات اثنان من العمال في بنائها، وغرقت في أولى رحلاتها في شمال المحيط الأطلسي في 15 أبريل 1912، ولقد كُتِب المئات من الكتب والمقالات، وسُجل كثير من الأفلام السينيمائية والتليفزيونية عنها، أشهرها على الإطلاق هو فيلم “التيتانك” الذي حقق ربحاً يساوي 1.84 بليون دولارا، والذي شاهدته لأول مرة في الطائرة وأنا في طريقي من لوس أنجيلوس إلى باريس بفرنسا، ومنذ ذلك الوقت وأنا أتذكر ذلك اللحن الحزين الشهير الذي ظل العازفون على ظهر التيتانك يعزفونه لمدة ساعتين وخمسة دقائق إلى أن انشطرت الباخرة إلى نصفين وغاصت بهم وبآلاتهم الموسيقية في أعماق اليم، ذلك اللحن الذي أسميته “لحن النهاية”. ولا أدرى لماذا طفحت ذكريات ذلك الفيلم الحزين القديم في عقلي مجدداً، وأنا أفكر في مصر وما يحدث لها وفيها في هذه الأيام، ووجدتني أقارن بين التيتانك، والسنين التي بنيت فيها وعدد العمال الذين ماتوا في بنائها وتكلفة بنائها، وافتخار صاحبها وقبطانها ومهندسيها بها وبعظمتها، ثم مآساتها ونهايتها، وبين مصر، وآلاف السنين التي بنيت فيها، وكنوزها التي لا تقدر بمال، وملايين الشهداء الذين ماتوا على أرضها دافعين دماءهم للدفاع عنها وبناءها، وبعظمتها وافتخارنا جميعاً بها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها ثم مآساتها التي نعيشها اليوم، وأصلي أن لا تكون نهايتها قريبة مع أنها قد باتت قاب قوسين أو أدنى. ولن أكون متجنياً أو متشائماً أو مفترياً على مصرنا الحبيبة العظيمة، وعلى أهلها ومن فيها، إذا قلت إنني أسمع نفس هذا اللحن الحزين الكئيب “لحن النهاية” يعلو من جنباتها، وقد بدأ عازفوه بعزفه بلا توقف خلال عام وأكثر، بعد أن كنا نسمعه على فترات صغيرة متقاربة أو متباعده، وأخشى أن يظل عزفه إلى أن تغوص مصر في قلب محيط من الانهيار الاقتصادي، والتجريف البشري، ودمار البنية التحتية، والحرب الأهلية الدينية، والبلطجية والعسكر والحرامية، وضياع القيم والأخلاق الإنسانية، وأرواح التدين، والغي، والزنى والفشل وضد المسيح، هذا وفي رأيي أن يوم اعتماد الدستور الجديد سيحدد لحظة انشطار السفينة وغوصها في محيط المجهول. وتتسارع الأسئلة في ذهني الآن، لماذا غرقت التيتانك، ماذا كانت نوعية ركابها، من هو المسئول عن غرقها، ماذا كان ممكناً أن يُعْمَل حتى تنجو التيتانك من الغرق. وما هذه الأسئلة لمجرد اهتمامي بالتيتانك الغارقة، فهي لا تهمني من قريب أو بعيد، لكن جل اهتمامي بالتيتانك الخاصة بي وبأهلي وناسي، مصر في هذه الأيام والأحوال.
أما نوعية الركاب الذين كانوا على ظهر التيتانك، حين غرقها كما يذكر التاريخ وشهود العيان، أنهم كانوا من كل فئات المجتمع كبيرها وصغيرها، أغنيائها وفقرائها، من كانت لهم أسماء وعائلات ومراكز معروفة محلياً وعالمياً، ومن لم يكن يعرفهم إلا المولى سبحانه وتنازل إلينا، لكنهم جميعاً كان يجمعهم مكان واحد وهو التيتانك في وسط المياه الكثيرة، فالمصير واحد، والقِبلة واحدة، ولا مفر من العيش معاً على ظهر نفس البقعة مهما اختلفت أديانهم، وخلفياتهم، وانتماءاتهم العرقية والسياسية، منهم ثلاثة عشرة أزواج من عريس وعروس، كانوا قد سافروا على التيتانك لقضاء شهر العسل، ومنهم من جاء إلى نيويورك بحثاً عن حياة كريمة، الكل يشرب ويأكل ويرقص، يحلم بغد مشرق، أو يبكي على حبيب قد فارقه في نقطة البداية، ومنهم من كان يستعجل الزمن ليلقي بنفسه في أحضان صديق أو زوج أو زوجة في لحظة تحرره من سجن التيتانك ووصوله إلى اليابسة بسلام، منهم من كان لزاماً عليه أن يبحر مع التيتانك بحثاً عن لقمة العيش، ومنهم من سئم الأكل لكثرته، منهم المدركون لما حولهم ومنهم من المغيبين الذين يسبحون مع التيار الذي كان يدفع السفينة إلى نهايتها المأساوية، دون أن يفطنوا أن نهايتهم قريبة جداً، منهم المظاليم الذين وضع حرس التيتانك أحدهم (كما جاء بالفيلم) في سجن السفينة بعد أن اتهموه زوراً بسرقة جوهرة أحد الأغنياء، إرضاءً لذلك الغني، ولإبعاد الشاب الفقير الذي كان يبادل امرأة الغني الحب الصادق، برغم من أن الغني وامرأته كانا من المفروض أنهما يقضيان شهر العسل على ظهر التيتانك، لكن الفتاة كانت قد أجبرت على الزواج من الغني لأنه غني، لكنها لم تبادله أي حب أو عاطفة على الإطلاق، منهم رجال أغنياء يظنون أنهم قادرون على شراء كل شئ بنقودهم، حتى حب وقلوب النساء، ليس فقط أجسادهن، تماماً وكأننا نرى كل شرائح الشعب المصري ممثلة بكاملها فيمن كانوا على متن التيتانك، حتى رجال المباحث الذين طالما ومازالوا يزجون بالأبرياء في السجون لاختلافهم معهم في أمور عائلية أو دينية أو حتى للتسلية والإذلال، ويشوهون سمعة كل من يقف في وجههم، لكن القدر لا يرحم كبير أو صغير، غني أو فقير، أمير أو غفير، ويبقى السؤال لماذا غرقت التيتانك؟ أولا: لكبرياء وثقة قبطانها ومهندسيها وقادتها في أنفسهم ثقة مَرَضية، وعدم الالتفات إلى المولى القدير ضابط الكل، ما يرى وما لا يرى، المعطي الحكمة والفهم والعلم والقدرة على اصطناع الثروة. كانت التيتانك كما وصفها الفنيون هي أكبر مدينة عائمة عرفها التاريخ إلى ذلك الوقت، وكانت مدعاة للافتخار والثقة الزائدة عن الحد في كونها السفينة التي لا يمكن أن تغرق، حتى قيل أن صاحبها السيد ج بروس أزماي، قد صرح قبل إقلاعها قائلاً “لو أراد الله أن يغرق السفينة التيتانك فلن يستطيع”، وبالرغم من أننا في مصر معروف عنا التدين والمحافظة على الصلاة والصوم والزكاة وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، إلا أننا كثيراً ما نسينا أن معركتنا الأولى هي معركة روحية، وكثيراً ما نسينا حامل كل الأشياء بكلمة قدرته، فأخذنا الغرور والكبرياء وتغنينا بالقاهرة التي تحدت الزمن وبحضارتنا وآثارنا وأهراماتنا وأم كلثومنا وأفلامنا وقناة سويسنا، وجيشنا الباسل، افتخرنا بكل شئ وكل شخص، وظن كل قبطان قاد سفينة مصر منذ قيام حدث الانقلاب العسكري عام 52 أن مصر لا يمكن أن تغرق، وأنه الحاكم الذي لا يمكن أن يسقط، وأنه دائم إلى الأبد، وغزى فيهم جميعاً هذا الشعور، اللفيف المحيط بهم، من كان يأتمر بأوامرهم ويصفق لهم إن أحسنوا أو أخطأوا، ويرفعونهم إلى مصاف الآلهة، ولم يتعظ أحدهم من طريقة نهاية وسقوط من سبقه على العرش حتى يومنا هذا، فلقد مات عبد الناصر غريقاً في همومه وطموحاته الزائفة ببناء قومية عربية يكون هو زعيمها، وغروره بأنه سيلقي إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل في البحر، غرق في بحر الدماء الذي سفكه شبابنا، تنفيذاً لقراراته الخرقاء، وسياساته الحمقاء، في حروب لم يكن لنا فيها ناقة ولا جمل، من حرب اليمن إلى حرب 67 ثم حرب الاستنزاف وغيرها، ومات السادات غريقاً برصاصات جيشه وجنوده الذين حاول إقناعهم بأنه رئيس مسلم لدولة مسلمة، وأطلق أيديهم لتنال من أصحاب الوطن الأصليين المسيحيين، وقد حدد مدة زمنية للقضاء على المسيحيين المصريين، وسيموت مبارك غريقاً في ذكرياته الأليمة، وصرخات المصريين “الشعب يريد تغيير النظام”، بعد أن انتهى به الأمر في السجن هو وأولاده وكبار رجالات حكمه، والله الذي لا إله إلا هو، يبدو وكأنه لا يد له فيما يحدث في مصر ولها، فليس من طالب الله، فإله المسلمين يرضى بالصوم والصلاة والزكاة والجهاد والحج، ويعيش في عالم غير العالم الذي نعيش فيه، فهذه نقرة وهذه نقرة، أما إله المسيحيين فيبدو وكأنه مغلوب على أمره، تحرق بيوته في الأرض أي الكنائس، ويشرد أبناؤه، وتخطف بناته، ويجبر أتباعه على إخلاء مساكنهم وترك قراهم ومدنهم وشوارعهم، ويقبل من ولدوا على دينه أن يخرجوا منه إلى دين ما آمنوا به يوماً، وما عرفوا عنه إلا اسمه، وإلا فالويل لهم إن أرادوا عيشاً كريماً وهم على دينهم، وفي أرضهم ومساكنهم، ويتصارع أولاده على المناصب والرياسات، ويزج بمحبيه وعابديه في السجون لأتفه الأسباب، وكأنه التابوت الخشبي أمام تمثال داجون الإله الوثني قبل أن يعلن عن ذاته، وتغط كنيسته في نوم عميق لا تريد أن تفيق منه. ومع أن السيد بروس أيزماي قد نجى من الغرق مع سفينته التيتانك عن طريق قفزه في قارب من قوارب النجاة، إلا أنه عاش بقية حياته في عزلة واكتئاب في أيرلندا يجتر نتيجة كبريائه وتجديفه على الله، الذي أثق أنه أبقاه على ظهر الحياة لكي يذكره كل يوم أنه لو أراد سبحانه أن يغرق التيتانك بكل عظمتها لأغرقها على أتفه الأسباب، فمن يرد قضائه وهو فعال لما يريد، فقد يضطر المولى إلى إغراق سفينة أو مدينة أو قطر كامل حتى يعرف من فيه أنه المتسلط في مملكة الناس، وهي ملكه، فمن يستطيع الوقوف في وجهه.
ثانياً: لقد غرقت التيتانك بسبب أخطاء وقرارات قبطانها، وهو مهندس بحار. ويبدو أنه ليس من الكاف أن تكون مهندساً أو حتى أستاذاً في الهندسة لكي تعرف كيف تقود سفينة وترسيها على بر الأمان، فكم وكم لو كنت تقود دولة بكاملها، لم تكن مشكلة قبطان السفينة أنه قليل الخبرة في قيادة البواخر العملاقة والإبحار، فلقد كان لديه 43 سنة خبرة في الملاحة البحرية، وكان لديه مدة خدمة مع شركة ملاحة النجم الأبيض تزيد على 32 عام، وخبرته كانت 26 سنة في قيادة السفن عبر المحيط الأطلسي، ويبدو أن كل هذا لم يحفظه من الخطأ وتدمير السفينة، فكم وكم إذا كان المهندس القائد ليس لديه سوى أقل من خمسة شهور في قيادة سفينة مصر التي لا تقارن التيتانك بها في أهميتها وعظمتها ومساحتها وعدد سكانها وروادها. لقد ارتكب ربان التيتانك أكبر ثلاثة أخطاء مميتة يمكن أن يرتكبها أي قائد، فكانت هي الأسباب الرئيسية في تدميرها وإزهاق أرواح ثلثي ركابها.
أول هذه الأخطاء المميتة هي كسره للقوانين واللوائح والأعراف، فقد كان يقود السفينة بسرعة فائقة عن المقرر لها في مثل هذه الليلة المظلمة الشديدة البرودة، حيث كانت درجة حرارة المياه هي -2 درجة مئوية، وفي مثل هذه الدرجة الحرارية المتدنية تكثر جبال الجليد التي تتحرك ناحية خط الملاحة في المحيط الأطلسي، والسبب في كسر هذه القوانين هو أن القبطان كان يريد أن يحطم الرقم القياسي في الساعات التي يقطع فيها المسافة لعبور الأطلسي، والتي كانت من المقرر أن تكون 137 ساعة، لكن القبطان كان قد قرر أن يقطع المسافة في 116 فقط. لقد ذكرني هذا بفترة الـ 100 يوم التي حددها رئيس مصر الحالي لإصلاح شأنها وحل كثير من مشاكلها، ولو كان قد استطاع أن يحقق 20% مما كان يتصور أن بإمكانه إصلاحه لكان بالحقيقة قد ضرب رقماً قياسياً عالمياً يفوق الخيال والتصور، فبلد تعاني من مشاكل مزمنة لأكثر من 60 عاماً، منذ قيام انقلاب العسكر المبارك في 52 لا يمكن أن يتصور أحد أنها تصلح في 100 شهر وليس في 100 يوم. ولست أدري لماذا وضع رئيس الجمهورية الحالي نفسه في هذا المأزق الذي يحاسبه عليه اليوم مؤيدوه ومعارضوه، هل كان يعتقد حقاً أنه بقادر على تتميم هذا الذي وعد به، مهما أوتي من حكمة ومن رجال تسهر الـ 100 يوم دون نوم خدمة له ولمصر حتى تحقق أحلامه، أم أن ما قاله ليس إلا دعاية انتخابية لكسب أكبر عدد من أصوات الناخبين، فإن كان السبب هو الأول لدل ذلك على عدم خبرته وعلى ثقته الذائدة عن التصور في نفسه ومن حوله والتى لا أساس لها من الواقع فهى، في رأيي، غير متوفرة في عالم البشر، فأنا أعرف أن الحكمة والتفكير السليم يقول إنني إذا كنت بقادر فعلا على إتمام أمر ما في مائة يوم، لابد أن أعطي لنفسي فرصة أطول من الـ 100 في تصريحاتي وتعهداتي، فليس من يضمن الظروف وردود الأفعال، أما إذا كانت دعاية انتخابية فحسب، فلقد نجح في خطته في جعل كثير ممن لا خبرة لهم في انتخابه، لكن لحن النهاية قد بدى عزفه اليوم بلا توقف، وربنا يستر.
أما ثاني الأخطاء المميتة التي ارتكبها قبطان السفينة أنه أهمل كل التحذيرات التي جاءته من السفن المحيطة به، ولم يعبأ بها، فلقد أرسلت السفن القريبة منه، وكانت أقربها له سفينة تدعى الكاليفورنيان، ومعناها (شخص من كاليفورنيا) نسبة إلى ولاية كاليفورنيا الأمريكية، 6 تحذيرات تخبره فيها بزحف جبال الثلوج في طريقه، ليهدئ من سرعته، وليتوقف عن السير حتى الصباح حيث يمكن لفريق الاستطلاع الخاص بالباخرة أن يرى قمم الثلوج التي يتعسر عليهم رؤيتها في تلك الليلة الليلاء التي غاب فيها القمر وسكنت بها الرياح. تذكرت كم من التحذيرات أطلقها الكتّاب والصحافيون وشخص من كاليفورنيا محذرين فيها حكومة المخلوع ورجاله السابقين من خطورة السير الأرعن واتخاذ قرارات ذاتية المصلحة لتحقيق أرقام قياسية في جمع الأموال وسرقة العقارات وظلم الناس ولم يسمع أحد، ولم يعبأ أحد بهذا الكم الهائل من التحذيرات والإنذارات، ومازال الحال على ما هو عليه بل وأسوأ، وليس من يسمع أو ينتبه لصرخات المحتاجين والمحبوسين والمستعبدين في مصر حتى بدأ عزف اللحن الأخير بلا انقطاع وربنا يستر.
أما الخطأ المميت الثالث فهو وضع واستخدام قائد السفينة لرجال في أماكن حساسة في إدارة سفينته وهم ليسوا بكفء لها، فواحد من أهم المواقع الحساسة على التيتانك كان هو موضع ضابط الإشارة المنوط به تلقي وإرسال الرسائل والمكالمات الخارجية، فهو حلقة الوصل بين العالم الخارجي وعالم التيتانك، وهذا الموقع الحساس، الذي يمكننا تشبيهه برجال البوليس على اختلاف فئاتهم، فهم الذين يتلقون الإشارات الأولى عن الأخطار التي تداهم المجتمع، وهم الذين من واجبهم أن ينقلوا ما يتلقونه بكل أمانة وإخلاص لربان السفينة، وينفذون أوامره لإنقاذها كما يراها دون تدخل أو إملاء لإرادتهم ومصالحهم الشخصية أو المهنية عليه، لقد تلقى ضابط الإشارة بالتيتانك التحذير الأخير من السفينة كاليفورنيان، والتي لم تكن تبعد عن التيتانك بأكثر من 20 ميلاً، أي سفر ساعة واحدة، والتي قال فيها ربانها: “لقد توقفنا عن الإبحار لخطورة التقدم أكثر من هذا نظراً لتحرك جبال الثلج في طريقنا، ونحذركم من الاستمرار في الإبحار”، فرد ضابط إشارة التيتانك، السيد فيليبس، بإشارة لنظيره على السفينة كاليفورنيان يقول فيها “اخرس، أنا مشغول، أنا أعمل في سباق مع الزمن” ولم يُطْلِع فيليبس قبطان التيتانك على هذه الرسالة. وكانت نتيجة إجابة السيد فيليبس على قبطان كاليفورنيان أنها جعلته يغلق خط الاتصال مع التيتانك، وبعدها بدقائق اصطدمت التيتانك بجبل الثلج الذي جعل الماء يتسرب بداخلها وتغوص في أعماق المحيط، لقد استغرقت التيتانك ساعتان وأربع دقائق بعد التصادم حتى غاصت وانشطرت إلى نصفين واختفت في قاع المحيط، وكانت كاليفورنيان على بعد ساعة واحدة منها، فلولا حماقة ضابط الإشارة ورده المتعجرف على زميله لكان خط الاتصال المباشر بين السفينتين استمر مفتوحاً ولكانت كاليفورنيان سبب إنقاذ لكل ركاب التيتانك، بغض النظر عن حماقة قرارات قبطانها. وما أشبه اليوم بالبارحة، فكم من مرة تلقينا، ومازلنا، ردود متعجرفة غبية مستفزة على رسائلنا وتحذيراتنا ومطالبنا كأقباط في مصر. ولسان حال قادتنا “نحن مشغولون، اخرسوا، فنحن على سباق مع الزمن”. كم من مرة كتبنا وصرخنا وتوسلنا وغضبنا واعتصمنا وتظاهرنا، ولم تصل رسائلنا إلى قادة مصرنا وأرضنا التي نحن أصحابها، وإذا وصلت تصل مشوهة مُغرضة، كم من مرة قيل لنا كأفراد وجماعات وكنائس وطوائف اخرس، فأنت ذمي، وكافر، ومشرك، اخرس فكنائسك وأديرتك وكر لاختطاف وتنصير القاصرات، وتخزين الأسلحة والمتفجرات، اخرس فكتابكم محرف ومكدس لا يصلح إلا لسلة المهملات، اخرس فأنت نصراني لا يحق لك تولي المناصب والقيادات. وأخشى ما أخشاه أن يغلق المسيحيون خطوط الاتصال مع قبطان التيتانك المصرية، فتسرع النهاية وتغوص مصر إلى أعماق المجهول وليس من يسرع لنجدتها.
والعجيب أن الكاتب القصصي الأمريكي مورجان روبرتسون قد كتب قصته الشهيرة التي أسماها “الباطل” قبل حادث التيتانك بأربعة عشر عاماً. تلك القصة التي صور فيها الكاتب أن عابرة محيطات إنجليزية اسمها “تايتان” قد اصطدمت بجبل من الثلج في شمال المحيط الأطلسي، وبالذات في شهر أبريل وتدمرت وقضى ركابها وطاقمها نحبهم، وهذا عين ما حدث مع السفينة تيتانك، فقد تحطمت في شمال الأطلسي في 15 أبريل من عام 1912. لقد ذكرتني هذه الرواية بروايتي “ليلة سقوط القاهرة” التي أرى أنها كانت تحذيراً لم يستفد منه ربان السفينة السابق أو الحالي.
وهناك ثلاثة أسباب أدت إلى ارتفاع عدد ضحايا التيتانك. أولها، هو عدم وجود قوارب نجاة كافية لكل من كان على السفينة من ركاب وطاقم للخدمة، فعدد قوارب النجاة التي كان من الممكن أن تحملها التيتانك هو 64 قارباً، أما العدد الذي وضعه المهندس كبير مصممي السفينة في تصميمه هو48 قارب للنجاة، لكن العدد الفعلي الذي كان على ظهر التيتانك هو 20 قارباً ليس إلا، ولم يستخدم منهم فعلياً إلا 16 قارباً فقط. والسبب في هذا أن مهندسى الشركة المصنعة للتيتانك كانوا يهتمون بشكلها أمام الناس، وكانت السفينة ستبدو غير جذابة ومزدحمة بقوارب النجاة إذا ما وضع عليها الـ 48 قارب. وهنا تذكرت أنه كم من مرة أعطينا الشكل دون الجوهر الأهمية الكبرى في إدارة شئون مصر، دون التفكير في السلامة والمتانة والأمان لسكانها، فما يهمنا هو شكلنا أمام العالم، فشكلنا في التعامل مع حماس أهم عندنا من قطعة الأرض التي تدعى سيناء، وحفاظنا على شكلنا كمؤيدين للقضية الفلسطينية والفلسطينيين يدفعنا حتى لإعطائهم مكان أولادنا في التعليم الجامعي في الكليات، وليخسر أولادنا مستقبلهم الجامعي، ما دمنا نحافظ على شكلنا السياسي والقومية العربية، ونحن نوقع المعاهدات والاتفاقات حول مفهوم وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان مع الدول المختلفة، فيبدو شكلنا جميلاً أمام العالم لكن لا نحترم منها شيئا، نكتب مواد رائعة ومشرفة وشكلها قمة في الديمقراطية في دستورنا وقوانيننا، لكن لا نحمل ولا ننفذ منها على ظهر التيتانك المصرية إلا القليل جداً وهو ما لا يكفي لضمان سلامة وأمن بلادنا.
أما ثاني الأسباب الذي أدى إلى ارتفاع عدد ضحايا التيتانك، هو أن ركابها لم يكونوا مصدقين أن سفينتهم يمكن أن تغرق، لذا ظلوا في حالة من السلبية واللامبالاة لمدة طويلة. ولم ينزل أول قارب للنجاة إلى المياه إلا بعد ساعة كاملة من الاصطدام، وبالرغم من أن عدد الركاب الذي كان يمكن لقارب النجاة أن يحتويه هو 65 شخصاً، إلا أن القارب الأول نزل إلى المحيط وعلى متنه 28 راكبا فقط، ومجمل الأماكن التي ذهبت فارغة في قوارب النجاة دون أن يستفيد منها أحد هي 472 مكاناً. فليس من يريد أن يصدق أن التيتانك ستغرق، ليس من يريد أن يأخذ التحذير مأخذ الجد، ويسرع ليلقي بنفسه في قارب النجاة، ليس أحد يريد أن يصدق أن عطب التيتانك غير قابل للإصلاح، فالكل ينتظر مشتهى الأمم، وتدخل معجزي من المولى لسد ثقوبها، لكن كيف تسد الثقوب وركاب التيتانك هم الذين انتخبوا بمحض إرادتهم عمال تصليحها، والذين بدلاً من إصلاحها ما زالوا يوسعون في ثقوبها، ويضيفون على ثقوبها ثقوبا أكثر، فتزداد المياه داخلها بسرعة تفوق إمكانية نزحها والتخلص منها.
أما ثالث الأسباب التي أدت إلى ارتفاع عدد ضحايا التيتانك، فهي المحسوبية والرشوة والفساد الأخلاقي والمجتمعي، حتى في وقت المحن والكوارث وغرق الكل معاً. كانت الرشوة التي كان يدفعها الأغنياء لطاقم السفينة لتعجيل إنزال قوارب النجاة، الذي كان يستغرق إنزال الواحد منها مدة 10 دقائق، وحث أفراد الطاقم على سرعة الإبحار بالقارب بعيداً عن التيتانك حتى لا يتسبب غرقها ونزولها في أعماق اليم في خلخلة المياه ودورانها، مما يتسبب معه سحب قوارب النجاة معها إلى أسفل. والرشوة من الأغنياء لقائدي قوارب النجاة ليبتعدوا سريعاً عن التيتانك حتى لا يقفز عدد كبير من الركاب بها فتصبح هي الأخرى مهددة بالغرق، ببساطة كان الأغنياء يستخدمون ثرواتهم في البعد عن التيتانك الغارقة ومفارقتها والجري فوق رؤوس الفقراء وتركهم لمصيرهم المرعب المحتوم، فأنا وبعدي الطوفان، هذا السر عظيم ولكنني أنا أقول من ناحية مصر وشعبها، وأسباب انهيارها وغوصها إلى محيط الظلمات وحقبة الجاهلية.
لقد غرق طاقم مهندسي السفينة الثمانية جميعاً فيها، وما نفعتهم هندستهم ولا علمهم، وقد غرق قبطانها فيها، وهو الذي كان ينوي إحالة نفسه إلى المعاش بعد إنهائه رحلة التيتانك وتحقيق حلمه في تسجيل رقم قياسي جديد في عبور الأطلسي، ولم ينجُ من التواجد في هذه المأساة قبل حدوثها إلا شاب واحد صغير السن كان يعمل حمالاً على ظهر التيتانك يدعى جون كوفي، بأن ترك السفينة ورفض الإبحار معها، وبقي في مدينة كوينز، وهي النقطة الأخيرة التي توقفت فيها التيتانك قبل إبحارها في المحيط الأطلسي، وقد قال الشاب بعد ذلك إنه سمع لصوت داخلي يحذره من استمرار السفر على ظهر التيتانك.
وفي النهاية أقول ترى ما الذي كان يمكن أن يحدث حتى لا تغرق التيتانك؟
1- كان ينبغي أن تكون سلامة ركابها جميعاً هي الشغل الشاغل لقائدها، وليس تحقيقه لرقم قياسي جديد، فالأرقام القياسية لا مكان لها في المآسي الإنسانية.
2- كان ينبغي على قائدها أن يلتزم بقوانين الملاحة من سرعة وسلامة وعدد قوارب النجاة، وأن يتأكد أن الفريق المساعد له فريق مدرب على حل المشكلات والأزمات، وموصل جيد للرسائل والتحذيرات.
3- كان ينبغي على قائد السفينة أن يستمع ويتحذر مما أرسل إليه من رسائل وتحذيرات، وأن لا يغلق عينيه أو أذنيه في وجه ناصحيه ومرشديه.
4- كان لابد لقائد السفينة أن يعلم أن معظم النار من مستصغر الشرر، وأن جبال الثلج التي كانت قد تكونت منذ سنتين وكانت تتحرك بسرعة 8 ميل في الساعة يمكنها أن تحطم سفينته العملاقة ولا تبقى لها أثر.
5- كان على قائد السفينة أن يدرك أنه حتى لو لم يرى قمم الجبال الثلجية، لكن هذا لا يلغي وجودها، وأن ما خفي كان أعظم.
6- كان عليه أن يتعلم أن يكون طيعاً ليناً، يعرف متى يتقدم ومتى يقف حتى تعبر الجبال، وأن النطح في جبال الثلج لا يأتي إلا بالخسارة المؤكدة للسفينة ولنفوس الراكبين. ولديه الاستعداد للاعتراف بخطئه وتغيير مساره ليعبر الأزمات ويتجنب الصدام مع جبال الثلج.
7- وكما تَكَوَّن فريق يدعى الفريق الدولي لمراقبة جبال الثلوج، لكن للأسف بعد وقوع الكارثة، كان عليه أن يُكَوِّن هذا الفريق في بداية إبحاره في المحيط ولا ينتظر لتقع الكارثة قبل اتخاذ الإجراءات الوقائية ضدها.
8- كان على القائد أن يبدأ الإنقاذ بمجرد حدوث الصدام، ولا ينتظر ساعات وساعات قبل أن يتخذ قراراته بإنقاذ الركاب.
أعود فأقول هذا السر عظيم، لكني أتكلم من ناحية مصر وقوادها، وليعلم الجميع أن جبل الثلج الذي قد تكون في عام 1928 وكان مختفياً حيناً وظاهراً آخر، قد بدأ في التحرك منذ سنين وها هو يقطع خط الملاحة أمام كل من يبغي أن يعبر المحيط الهائج إلى الميناء بسلام، لقد أسرع الخطى بعد أن ظل زاحفاً ببطء عشرات السنين، وبدأ الصدام بكل من يقف في طريقه، وسنرى مصر وهي تهوي كالتيتانك غائصة في بحر الظلمات إن لم ينتبه قائدها إلى هذا الجبل الثلجي، ليوقظ الله مصر وقادتها ويرسل صوت صارخ في البرية من الكنيسة المصرية يحذر السفينة من الغرق، لعل قبطانها يسمع ويرجع فيرحم ويشفي وتُشفى معه مصر التي اتسعت ثقوبها حتى انتزع كل رجاء في نجاتها، وليُسْكِتْ المولى لحن النهاية سريعاً لا بانقسام السفينة وغرقها بل بنجاتها وثباتها، وليعطي رداء تسبيح عوضاً عن النفس اليائسة، وليحول نوحها إلى فرح ومراثيها إلى ترنم فهو القدير من يُغرق ويُنجي، اللهم إني قد أبلغت اللهم فاشهد.