جاءتني تبكي بشدة، وذلك بسبب عدم قدرتها على التواصل مع شريك حياتها الذي ارتبطت به بعد قصة حب استمرت لسنوات طويلة، منحته خلالها كل ما تملك من طاقة سواء على المستوى النفسي من مشاعر وعواطف، أو على المستوى المادي بكل صوره. ولكن مع مرور الوقت، أصبح هذا العطاء التزامًا إجباريًا وحقًا مكتسبًا للطرف الآخر، حتى وصل الأمر إلى مزيد من المطالبات، بالإضافة إلى اتهامه الدائم لها بالتقصير إذا ما تقاعست عن جزء من هذا العطاء، كما أصبح مردود هذا العطاء هو عدم التقدير والاحترام، وفي أحيان أخرى التقليل من شأنها والسخرية من تصرفاتها، وفي النهاية وصل الأمر إلى الاستغلال والابتزاز العاطفي.
وفي الواقع، فإن الشعور بالاستغلال والابتزاز العاطفي من أصعب المشاعر السلبية التي يمكن أن يواجهها الشخص، حيث يجد نفسه ضحية هذا الابتزاز مما يُفقِده الثقة بنفسه وتقديره لذاته، وقد يصل إلى حد أن يفقد الشخص هويته وإحساسه بإنسانيته، إذ يرى نفسه مساويًا للأشياء.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: تُرى مَنْ المسئول عن هذا الوضع المذري في العلاقة بين الطرفين؟! هل الطرف الذي يقوم بالابتزاز والاستغلال أم الطرف الآخر الواقع تحت تهديد الابتزاز العاطفي؟!
ولكي نجيب عن هذا التساؤل، لا بد أن نقوم بعملية تشريح لسيكولوجية كل من الطرفين.
فالطرف الأول، أي الشخص الذي يقوم بالابتزاز والاستغلال، له مواصفات متعددة من أهمها:
– أن لديه القدرة على أن يُحَمِّل الطرف الآخر مسئولية أخطائه، حيث لا يعترف بخطئه، فهو دائمًا ما يلقي اللوم على الآخرين ويشعرهم بالذنب ويتحلل من مسئولياته تجاه ما ارتكبه من أخطاء. وقد أوضح لنا الكتاب المقدس هذا الأمر حينما ألقى آدم اللوم على حواء بل على الله نفسه إذ أوجدها له وكانت السبب في ارتكابه الخطية. وهو دائمًا ما يشكك في تصرفات الآخرين مستخدمًا الاتهامات الباطلة والتعليقات الساخرة والتحقير من أدائهم والاستهزاء بآرائهم، وذلك بهدف السيطرة على عقولهم ومشاعرهم. وكثيرًا ما يلجأ إلى الخصام أو الصمت العقابي كي يشعر الطرف الآخر بالندم وهو ما يُعرف بالعدوان السلبي.
كما يتميز هؤلاء الأشخاص بأنهم لا يمارسون العنف البدني بل يمارسون عنفًا من نوع آخر وهو التلاعب بالمشاعر، فهو لاعب شطرنج ماهر يتلاعب في الحوار معك، فمرة يُشعِرك بالأهمية ومرة أخرى يسفِّه من تصرفاتك حتى تصاب بالتشتيت الذهني فتيأس من إقناعه أو تعديل سلوكه، وبالتالي يستطيع أن يصل إلى مآربه فيأخذ كل ما يريده منك سواء عن استحقاق أو عدم استحقاق. وفي أحيان كثيرة، يقوم بدور الضحية، وذلك مثل الأم التي تحاول ابتزاز عواطف أولادها وذلك بترديد ما تفعله لهم من تضحيات لأجلهم. وهو يجتهد كثيرًا في أن يعزلك عن أصدقائك وعائلتك حتى ينفرد بك ويمكنه السيطرة على كيانك بالكامل، ودائمًا ما يصدر لك طاقة سلبية وذلك بالعتاب المستمر والتذمر وعدم الرضا والغضب خاصةً إذا ما أصابته الغيرة حتى من نجاح زوجته في عملها، كما يمكنه استغلال تنازلاتك وضعفك ويبدأ في كشف عيوبك أمام الآخرين، سواء من عائلتك أو أصدقائك. وفي النهاية، إذا ما استمر هذا الوضع ولم يتوقف قد يصل به الأمر إلى الاضطراب النرجسي، أي المحبة المُرضية لذاته.
أما الطرف الثاني، وهو الشخص الواقع ضحية هذا الابتزاز والاستغلال، فإن ما يدفعه إلى ذلك عدة أمور من أهمها:
– الدافع الديني: إذ قد يكون وراء هذا العطاء المستمر بلا حدود إتباع وصية الله في الكتاب المقدس، وهو أمر جيد وخاصةً إذا كانت مركزية هذا الدافع هي الله، حيث يقوم الشخص بشحن طاقة العطاء من القدير ثم يمنحها للآخرين، وهو ما يعطيه الإحساس بالاستمتاع في العطاء. أما إذا كان وراء هذا العطاء الإحساس باستنفاذ للطاقة لدرجة الاحتراق والألم النفسي، فهذا أمر مختلف تمامًا.
– أو قد يكون الدافع هو الخوف من ترك الطرف الآخر له، فهو لا يشعر بالأمان إلا معه، إذ يستمد منه الأمن والطمأنينة وهو ما يُعرف بمنطقة الأمان comfort zone.
– وقد يرجع ذلك إلى سعادة الشخص بأن يقوم بدور الضحية كي يحصل على مديح من الآخرين، وبالتالي يستمد قيمته منهم إذ يرى صورته من خلال انطباعات الآخرين له.
– وفي أحيان كثيرة، يرجع الدافع وراء عطاؤه إلى أنه تعلَّم الحب المشروط، أي أنه لا يحصل على رضا وحب الآخرين إلا إذا قدّم مقابل لهذا الحب، وهو ما يعكس إحساسًا عميقًا بالشعور بالرفض وعدم القبول.
– أو يرجع العطاء إلى أسباب خفية مثل الكبرياء ويظهر في صورة الاستغناء عن عطاء الآخرين، فهو ليس في حاجة إلى الأخذ حتى لا يكون لأحد فضل عليه.
– وقد يرجع أيضًا لتعرُّض الشخص للابتزاز بسبب محاولة إظهار صورة جيدة عن نفسه حتى يخفي أمورًا مخزية لا يريد تعريتها أمام الآخرين، وهذا نوع من الحيل الدفاعية، ولكنه يدل على وجود ثقب في جهاز القيم الأخلاقية.
وأيًا كان الدافع وراء وقوع الشخص تحت طائلة الاستغلال والابتزاز العاطفي، فهو في حاجة إلى بصيرة نافذة روحية حتى يمكنه التوازن النفسي بين العطاء والابتزاز.
خطوات نحو التوازن النفسي بين العطاء والابتزاز:
– في البداية، لا بد أن ندرك أن الصحة النفسية ليست هي القدرة على الاستمرار في الأوضاع الخاطئة أو التكيف المرضي أو القدرة على تحمل الضغوط النفسية والعصبية لدرجة استنفاذ الطاقة والاحتراق النفسي والصحي، وإنما هي القدرة على التعامل مع مهارات الحياة بنجاح. ومن أهم مهارات الحياة ممارسة حقنا في علاقاتنا بالآخرين، وذلك بالتعبير عن مشاعرنا وأفكارنا بصراحة، فيمكننا قول (لا) حينما نشعر بخطر ما يهددنا، وذلك لدفع الأذى النفسي الذي يحملنا طاقة تفوق إمكانياتنا النفسية والصحية. كما أننا لا بد أن ندرك أن العلاقات الإنسانية مبنية على الأخذ والعطاء، أما إذا توقفت على جانب واحد فقط فهي تنم عن علاقة غير صحية.
– أيضًا لا بد من فحص الدوافع الخفية وراء هذا العطاء، هل هي مشاعر سلبية مثل الإحساس بعدم القبول والرفض، أم لتحسين صورتنا أمام الآخرين، أم الخوف من ترك الآخرين لنا والشعور بالوحدة، أم البرمجة غير الصحية مثل قبول أشخاص يفقدونا هويتنا أو يقبلونا بشروط؟
– أما إذا كان الدافع هو إتباع وصية الرب في العطاء فلا بد من الفهم الصحيح لهذه الوصية، فالعطاء الصحي هو النابع من مركز العطاء، أما إذا كان العطاء نابع من مركزية الذات فهو يشكل خطورة، حيث إن الذات الإنسانية ليست نبع الشبع فهي لها طاقة محدودة. كما أن الوصية تعلِّمنا (حب قريبك كنفسك)، أي أن البداية هي محبة وقبول الذات ومنحها مكانة خاصة من الراحة والهدوء النفسي حتى يمكنها مواصلة العطاء، بالإضافة إلى أن مشيئة الله هي ألا نكون تحت نير العبودية أو المهانة لأن إرادته هي إكرام الإنسان الذي خلقه على صورته.
إن العطاء المفرط بدون حكمة إلهية بمثابة دفع الطرف الآخر في التمادي في الأنانية، والتي قد تصيبه بالنرجسية وهي علامة من علامات الاضطراب النفسي.
– وأخيرًا علينا الاستمرار في الجلوس في محضر الرب والامتلاء من الروح القدس الذي يمنحنا القدرة على التمييز بين البذل والعطاء بحسب مشيئته وبين الوقوع تحت نير الابتزاز العاطفي. كما أن الروح القدس يقود أفكارنا ويمنحنا راحة لمشاعرنا، فإذا كان عطاؤنا يسبب لنا الشبع والارتياح، فهو عطاء بحسب مشيئته. أما إذا كان العطاء يصل إلى درجة الاحتراق واستنفاذ الطاقة وإحساسًا بالضغط النفسي والتذمر وعدم الرضا، فهو ليس بحسب مشيئة الله وإنما هو نوع من الاستغلال والابتزاز العاطفي.