البيان الختامي لقمة موت النص

2

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

هرع اللغويون العرب صوب دراسة النص الديني المقدس والنصوص النبوية وما خلّفتها من نصوص دينية، مُتلثّمين بنظريات اللسانيات المعاصرة التي طفقت تفكك النصوص الدينية المسيحية في الغرب، وهم في ملحمة ظنية بأنهم يخدمون الدراسات الدينية الإسلامية. لكن الحقيقة التي تكمن وراء هذه الاجتهادات لا يمكن توصيفها تحت باب التجديد أو حتى الاجتهاد؛ ذلك أنهم كانوا يسعون إلى نقد النص الديني بإطلاقهم عليه لفظة “خطاب”، الأمر الذي دفعهم -حسب مظانهم التي تبدو لنا مريضة بعض الشيء وعلى استحياء الاتهام بالكل- إلى إبراز أخطاء ومثالب تكمن بتلك النصوص.

ومن باب العجب أن مجمل أعمال الحداثيين العرب، رغم اختلاف توجهاتهم وتكوينهم الأيديولوجي الضارب في تشويه الماضي برمته، هو أنهم كانوا ولا يزالون يطالبون بإعادة النظر في النص القرآني المقدس وضرورة تأويله وفق مزاعم نظريات علم اللغة واللسانيات الحديثة التي تعضد تفكيك النصوص اللغوية وإعادة بنائها وتركيبها من جديد، أو خوض مغامرة إخضاع النص الديني لقراءات متعددة؛ تاريخية وألسنية وأنثروبولوجية وسيميائية، وأخيرًا قراءة لاهوتية. الأمر الذي يُخرج النص من قداسته إلى رهانات تأويلية مبتذلة محكوم عليها بفقد رصانة التفسير والتحليل.

وينبغي على القارئ العربي أن يفطن إلى ثمة مؤامرات ثقافية استعمارية مفادها أن الغرب لم يعد يحارب بأسلحته التقليدية التي بات العرب يمتلكونها بل يستخدمونها بشراسة أيضًا. لذا، فكانت الحرب الراهنة هي حرب تشكيكية زاعمة بأن القوة الآن هي قوة الفكر الحداثي الذي يعطي العقل المكانة الأعلى فقط في نقد النصوص الدينية أو التاريخية أو النصوص التي تتعلق بالموضوعات الدينية الراسخة لدى عموم المسلمين.

الكارثة أن حفنة وجملة من المفكرين العرب الذين درسوا المناهج اللغوية الغربية ودرسوا على أيدي كثيرين ممن يطعنون في دياناتهم الأصلية تأثروا جد التأثر بتلك النظريات والمناهج التي يمكن استخدامها وتوظيفها في خطابات شعرية لأدونيس ومحمود درويش وأنسي الحاج وغيرهم، أو كتابات روائية معاصرة. فهي نماذج نقدية بشرية تصلح لمعالجة نماذج لغوية بشرية أخرى تماثلها في الكفاءة والطرح والتلقي، لكن لا يمكن استغلالها في تأويل النص الديني الراسخ والثابت والمحفوظ بعهد من الله عز وجل.

ومجمل زعم هؤلاء رفض تقليد الأوائل من جهة، وبث روح التمرد والرفض بل ومقاومة التراث العربي الإسلامي من جهة أخرى، تمامًا كما وجدنا ذلك في نص الدراسات اللاهوتية التي تناولت الكتاب المقدس منذ مطلع القرن الثامن عشر في أوروبا.

بل إن موجات الهوس لدى بعض الحداثيين العرب وصلت إلى شواطئ بعيدة ترى ضرورة تقييد النص الديني بزمانه وبيئته وجغرافية إنتاجه، وكثيرًا في حدود ثقافة وجوده أيضًا.

وبعد دراسة مفهوم الحداثة المزعومة لدى الكتاب العرب الذين هرعوا إلى نقد النص الديني تارة، ونقد ودحض الخطاب الفكري العربي تارة أخرى، من أمثال: عابد الجابري، ومحمد أركون، وغالبًا نصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، وعبد المجيد الشرفي، وأدونيس، وقاسم شعيب، وغيرهم ممن أصابه قلق الحداثة وتوتر الفكر اللساني المضطرب هوية وجهة وتكوينًا، يمكن تحديد دلالات الفكر الحداثي العام لدى مؤسسي هذا التيار والتي يمكن استنطاقها من خلال كتاباتهم الضاربة في الانتشار مثل: الإيمان المطلق بالإنسان وخبرته وتجربته الفردية الذاتية، بل إبراز قدرة هذا الإنسان -المكلوم- على الخلق والإبداع وتطوير العقل. وهم بالضرورة يقصدون الخلق اللغوي المتمثل في القصيدة والرواية والقصة والمسرحية والطرح النقدي للأجناس الأدبية المختلفة، لكن هوس القلق المستدام جعلهم ينادون بالإيمان المطلق لاستقلالية المرء، وسلطة العقل التي لا تفوقها أية سلطة أخرى، وأن سلطان العقل لن يعتلي سدة الحكم والقوة والسيادة إلا بالقضاء على مرجعيات الماضي والتراث بوصفهما منغصات التجديد والتنوير.

وكان أول مشروع يدشّنه أي مفكر تبنّى فكر الحداثة الغربية الذي فشل بالغرب قبل إعادة إنتاجه بالبيئة العربية هو الثورة المطلقة والمستدامة بغير انقطاع على المرجعية الدينية، وأن إخضاع الدين وقضاياه لمنهجيات العلم التجريبي والأهواء الفردانية وتجارب الشخص الذاتية أمر حتمي لا يمكن الفكاك من أسره إذا أردنا -من وجهة نظر هؤلاء- التطوير والتحديث لمجتمعاتنا العربية.

هذا ما دفع الكاتب المغربي قاسم شعيب في كتابه (فتنة الحداثة) المنشور عام 2013، وهو من الكتابات المعاصرة في هذا الميدان، إلى إبراز الرؤية الحداثية التي تتمثل في سيادة العقل أو ما أسماه بالعقلانية المادية، وأن الحقيقة تستمد قيمتها من كونها نتاجًا للعقل الإنساني لتصبح الذات مركز العالم. وبالرجوع إلى المكونات الرئيسة للفكر الحداثي الذي ضرب المجتمعات العربية بالحيرة والجنون في انتفاء التطبيق السوي للسانيات الغربية نجد على سبيل المثال التفكيكية التي يشير إليها دين محمد ميراصاحب في كتابه (الحداثية وتحدياتها للتفسير القرآني) بأنها تمثل مظهرًا صادقًا لليأس والحيرة الذين أُصيب بهما الإنسان في الغرب، والتي نتجت عنها الاستهلاكية المتطرفة.

وهذه النظريات اللسانية النقدية وغيرها مما تم استيراده من الغرب الأوروبي نجمت عن العطب الذي أصاب الحضارة في تلك المجتمعات وأدت إلى سقوط المرجعيات التي تم توصيفها بالتقليدية البائدة بل والرجعية أيضًا. وتمثلت مظاهر الحداثة الفكرية في تلك المجتمعات في نقد الدين ورموزه وموضوعاته، ونقد ودحض الفكر الموروث، ثم إعلان بيان تأسيسي جماعي للقطيعة مع الماضي برمته.

هذا الرفض المطلق للأسف أودى بأصحاب تلك النظريات اللسانية والنقدية، وبتناولهم للنصوص الدينية المقدسة في الغرب الأوروبي، إلى رفض الدين المعادل الموضوعي للإلحاد؛ ومن ثم إنكار التشريعات الإلهية ورفض سلطة الوحي. والكارثة هي نقل التجربة النقدية الغربية الصالحة لمجتمعات بعينها إلى بيئاتنا العربية ذات الفكر الأصيل والتكوين اللغوي والديني المتعمق في جذور الإنسان العربي.

والمستقرئ لفكر الحداثة أو التيار الحداثي يدرك على الفور للوهلة الأولى أنها مرادفة للعلمانية المتطرفة التي أسهمت عن جهل وزيف وخداع في رفع القدسية عن مدال الأخلاق والقيم. وكما يذكر دين محمد ميراصاحب (2013) في كتابه المذكور سلفًا فإن العلمانية في أصلها ظاهرة غربية خالصة، سبب ظهورها عوامل تاريخية عاشتها الأمم الغربية على مدى قرون متتالية في ظل ثقافات تلقي بجذورها إلى وثنيات قديمة، على الرغم من المسيحية التي لعبت دورًا كبيرًا في تشكيل الثقافة الغربية في العصور الوسطى وبعدها.

والمشهد الذي لا يمكن تغافله هو أن العلمانية التي تأصلت في اللسانيات اللغوية المعاصرة والنظريات النقدية أجبرت المسيحية في أوروبا على التقهقر والابتعاد عن المجال العام، وصولًا إلى تيار الليبرالية الذي بات أحد أصنام فكر الحداثة والذي يعني عند بعض مفكري العرب الحداثيين التحرر من كل قيد معروف أو مأثور.

وما إن نجونا مؤقتًا من أصنام العلمانية والليبرالية حتى اصطدمنا -من خلال ما عُرفوا بالمجددين في الفكر العربي المعاصر الراهن- بنظرية نقدية مماثلة للحداثة ألا وهي العقلانية المتطرفة. وهي نظرية مفادها إعلاء الفردانية والإيمان المطلق بالعقل في مواجهة نصوص التراث الدينية، وأن لا سلطة فوق العقل. والمدهش في هذا الملمح من ملامح فكر الحداثة في الوطن العربي ومن خلال الدراسات النقدية للنص الديني ونصوص التراث وغيرها أيضًا من كتابات الأوائل الفقهية والتاريخية أنها -العقلانية المتطرفة- لا تعترف بما لا يفهمه العقل أو لا يقع تحت سيطرة العقل، ولا تفرق بين الذي يتناقض مع العقل وبين ما يعلوه على العقل، بل إن تلك النظرية المهووسة لا تعترف أصلًا بوجود ما يعلو على العقل أساسًا، الأمر الذي جعلها تنظر إلى أساسيات الدين على أنها مجرد مجموعة من الأساطير والخرافات المزعومة.

ونحن بحق بحاجة ماسة إلى توظيف العقل واستخدامه بصورة طبيعية فطرية كما أمرنا الشرع بذلك، الأمر الذي يدفعنا إلى ترتيب بيت النظريات النقدية الحداثية التي باتت تعبث بالتراث العربي الإسلامي، وأنه من البديهي الآن إدراك هوية وكنه الحداثة الوافدة إلينا من الغرب عبر سياقات لسانية ولغوية ونقدية ودراسات تاريخية نتجت عن تطورات اجتماعية وسياسية استهدفت تهميش الدين ودوره بل إقرار عجزه في مواجهة التطورات والتحديات. هذا العبث الذي دفع كثيرين من المفكرين العرب المعاصرين إلى نقد الدين بوصفه خطابًا لغويًا يمكن تناوله بشكل نقدي.

ولعل هذا التناول البشري القاصر والمحدود، بل والجاهل أيضًا في مظان كثيرين وأنا منهم، هو الذي دفع بعض الكتاب العرب في النصف الثاني من القرن العشرين وصولًا إلى أيامنا الراهنة بالتأكيد على مركزية الإنسان وسطوته في مواجهة مركزية الإله. انتهاءً بعبث فكري تحت مظلة حداثة واهية تمثلت في الثورة على التراث الديني وإغفال المصدر الإلهي التشريعي ورفض أية مرجعية.

ولنا وقفة عاجلة تحذيرية تؤكد خطورة العبث الحداثي الذي يردده بعض الكتاب العرب والشعراء المعاصرين وبعض دارسي التاريخ الإسلامي، حيث إنهم تأثروا كثيرًا بمزاعم الغرب في نظرياتهم اللسانية والنقدية التي دحضت الكتاب المقدس ونصوصه في الغرب وتعاليم الكنيسة. فلجأوا تارة إلى تحريف الفكر الديني الإسلامي والتراث العلمي العربي الرصين والمجهودات العلمية لأوائل علماء المسلمين، وتارة أخرى إلى تقليد الغرب من خلال توظيف واستخدام النظريات الأدبية ضيقة الرؤية والنفاذ إلى تأويل القرآن الكريم وتفسيره باستغلال تقنيات وآليات تلك النظريات المسكينة بالفعل كما أصحابها.

ويكفي أن نسرد بعض النظريات النقدية واللسانية التي نجمت عن بيئات مضطربة في فترات سياسية واجتماعية عصيبة لندرك الهوس العربي في توظيفها على كتابات عربية خالصة بدلًا من إنتاج نظريات عربية أصيلة كان لنا السبق في إنتاجها، وخير دليل كتابات قدامة بن جعفر في نقد الشعر والنثر وغيره. فنجد رولان بارت الفرنسي الذي يُرجع له فضل تأسيس البنائية السيميولوجية، وهي علم العلامات، والذي تأثر كثيرًا وطويلًا بالسويسري فرديناند دي سوسير الذي يزعم أنه صاحب علم اللغة الحديث. وهذا لم يحدث إلا حينما تخلّى العرب عن تراثهم ومنتوجهم اللغوي والنقدي، رغم أن أبرز النظريات النقدية أنتجتها بيئة العرب.

ثم نجد الفرنسي كلود ليفي شتراوس مؤسس الأنثروبولوجيا الاجتماعية، والذي طبق نظريته على الكتاب المقدس مثله مثل ميشيل فوكو الفرنسي صاحب أركيولوجيا المعرفة، والذي يتغنى بفكره الحداثيون العرب رغم امتلاكهم لنظريات عربية رصينة وجيدة النفع.

وصولًا إلى أسماء تتبع تيارات الحداثة القلقة والمضطربة أمثال: جاك دريدا مؤسس التفكيكية، وشلايرماخر مؤسس الهيرمينوطيقا، وصولًا إلى بول ريكور أبرز مَن تحدث عن التأويلية التي أفسدت كثيرًا من تناول نصوص التراث العربي باستخدامها؛ لأنها تخرج الناقد والقارئ على السواء من فائدة النص إلى دحضه ورفضه والبحث عن بديل آخر يصلح لزمان يوافق هوى المتلقي وعبث مسعاه.

الخطير في كتابات الحداثيين العرب من مثل: حسن حنفي، ومحمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وسيد القمني، أنهم خرجوا من سياقات نقد الخطاب اللغوي إلى نقد النص الديني وتعرضه لتفصيلات تاريخانية ونظريات ألسنية باهتة ومناهج تحليلية لم تأت بفائدة في بيئات إنتاجها سوى شيوع موجات التطرف والإلحاد والرفض لكل ما هو ديني. بل إن الأخطر هو التفاوت والاختلاف المَرَضيّ (بفتح الميم والراء) في حرصهم على التشكيك بالنص وتفكيكه ومن ثم إعادة بنائه، وإخضاع القرآن الكريم للمنطق التاريخي المادي، وربما لا أريد إطلاق العنان لاتهاماتي بعدم الاعتراف بأصله ومصدره.

ومصيبة التفكيكية التي أشرنا إليها سلفًا أن معيارها الوحيد هو صحة النص؛ ودأب النظرية اللغوية والنقدية بعد ذلك أفضى إلى ضرورة أن يكون النص محرفًا، وهي نتيجة جاهزة منذ البداية كما يذكر ميراصاحب في كتابه (الحداثية).

ولنا أن نقدم فروقًا جلية بين تلقي النص القرآني وتأويل النصوص البشرية التي لا تخرج عن فلك كتابة الشعر ونظمه والقصة والرواية والخاطرة الأدبية. وهنا تجدر الإشارة إلى التمييز بين نوعين من أنواع قراءة النص الأدبي:

القراءة المطابقة: وهي قراءة استنساخية غير متجاوزة تقتصر على شرح النص وتفسيره بصورة مباشرة ملتزمة بحرفية اللغة النصية داخل الخطاب الأدبي، ولا تتجاوزه إلى ما وراء النص أو الأبعاد المكونة له بغير استنباط أو استدلال أو استنطاق لمعان أخرى مستترة.

القراءة الإنتاجية (القراءة الكاشفة): وفيها يبحث القارئ عن المضمر والمخبوء داخل النص الأدبي كاشفًا مضامينه ومعانيه. وتلك أمور لا يمكن توظيفها في نص حكيم إلهي قاطع التشريع.

وقراءة النصوص الأدبية مستويات ومراحل؛ بدءًا من الترديد وتحريك اللسان، مرورًا بالفهم السطحي، وبحل شفرة النص الأدبي ومحاولة فهمه وتحليله، ثم الوصول إلى إعادة تركيبه وسبر أغواره أو إنتاج نص مواز للنص المقروء وهو ما يعرف بالقراءة التأويلية. وهذه القراءة تقتضي من القارئ الدخول مع النص الأدبي في عملية تفاعلية تتناص مع مقروء ومخزون خارج النص. والمنظرون لتأويل النصوص الدينية لم يفرقوا -عن انتفاء بصيرة- بين تفسير وفهم النص القرآني وتأويل النصوص الأدبية البشرية. فنجدهم يتحدثون عن القراءة التأويلية بوصفها مرادفًا ومعادلًا موضوعيًا للحرية، وبالأحرى إعلاء الفردانية. فهم يرون أن القراءة التأويلية طبقًا لمفهوم الحرية اللغوية هي نظام من الممارسات التفسيرية الضمنية أو المضمرة التي تتسم بالاتساع والإنتاج القرائي الإبداعي، وهي قراءة ترتبط باستحضار العلاقة بين النص والمرجع ويعني بصفة خاصة بالمعطيات الخارجية مثل ظروف إنتاج النص وتلقيها، لذا فهي قراءة تركز على السياق الاجتماعي التاريخي. وبذلك فإنها -القراءة التأويلية- لا تتوقف عند حدود التلقي المباشر، بل تسهم في إنتاج وجهة نظر جديدة يحملها النص الأدبي بين طياته.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا