أيها القارئ العربي قد خُدعت طويلًا وأنت تظن أن فولتير هو أهم فلاسفة كوكب الأرض، وتمت دغدغة مشاعرك المنهارة بالفطرة والاكتساب حينما ظننت بحكم قهر التعلم النقلي بأن هذا الفولتير كان مفجرًا للتنوير ونموذجًا خالصًا للتسامح العرقي والديني، والخدعة نكمن في الرهان على مدى وعيك واستجابتك لتلقي الروافد المعرفية لاسيما تلك التي تتصل بالغرب وخصوصًا أن القارئ العربي المكلوم بطبيعته الثقافية لا يعبأ كثيرًا بمطالعة الطروحات الفكرية بلغاتها الأصلية لذا لم يكترث هذا القارئ المسكين بفولتير وما أحدثه من اضطراب في الفكر المجتمعي والذي يمكن توصيف نتاجه الثقافي بأنه محض فوضى ومخرب للعقول ومصدر فتنة وعبث.
كيف ذلك والوعي الجمعي لدى المواطن العربي الذي كان قارئًا بامتياز في ستينيات القرن العشرين حتى قبيل ثورات الحريق العربي التي تفجرت في نهايات العام 2010، وهو مدرك تمام الإدراك أن فولتير المفكر والفيلسوف والتنويري هو أحد رموز الثقافة بل هو بالفعل أبرز الأصنام الثقافية في تاريخ البشرية لاسيما فيما يتعلق بالفلسفة والحراك المجتمعي؟.
وإليكم نشرة أخبار فولتير الذي لم يكن كذلك بالصورة التي رسمناها له منذ أن طفقنا الذهاب إلى فصول المدرسة وحصصها الأكثر بلادة وخيبة. منفردًا ومتفردًا صوت النخبة والطبقات الحاكمة وبالقطعية قيمها الأمر الذي جعله يصف الفيلسوف والاجتماعي جان جاك روسو بأنه سخيف، ولئيم، وحقير، وكاذب. هذا ما جاء ضمن تعليقات فولتير نفسه على هامش كتابات روسو السياسية، ولم يكتف فولتير بهذا فحسب؛ بل طفق يفتش عن خبايا روسو حتى اهتدى إلى الإعلان بأن روسو المحض على تربية الأبناء والفضائل قام بتسليم أبنائه الخمسة إلى إحدى دور الأيتام.
وظلت العلاقة مضطربة طويلًا بين الرجلين المشهد الذي دعا نيتشه يتساءل: كيف ينظر بنو البشر إلى أنفسهم؟.
ورغم ما نعرفه عن فولتير كونه فيلسوفًا كبيرًا ومنظرًا عظيمًا فإنه بدأ بوضوح في التفكير الشخصي الذاتي حينما لم يتردد في مدح بورصة لندن واعتبرها البناء الكامل للكيان العلماني الاجتماعي بقوله “إنها المكان الذي يتعامل فيه اليهودي والمسلم والمسيحي فيما بينهم كأنهم ينتسبون إلى معتقد واحد، فلا تنطبق صفة الكافر إلا على المفلسين”. وهو في ذلك يدحض فكرة روسو القائلة بأن كلمة المالية وُجدت لتصف العبيد.
ثم تحول فولتير سريعًا إلى زاوية أخرى في كتابه “الرجل الاجتماعي” مزاحمًا كتابات روسو التأسيسية لعلم الاجتماع، وبدا بمظهر العارف والطامح أيضًا عن كثب لأن يصبح أرستقراطيًا يرتاد ساحات وأماكن الأثرياء وأصحاب النفوذ والسطوة والسلطة، وهو في سبيل تحقيق ذلك اتجه ليصبح أكبر عدو علني للكنيسة الكاثوليكية والمعتقد الديني عمومًا وبالضرورة كعادة الغرب آنذاك وتدشينا لبزوغ نظرية المؤامرة فإن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) نال قسطًا من الهجوم والتطاول من قبل فولتير الأمر الذي دفع روسو لنقد فكرة فولتير عن النبي محمد. واعتبر روسو فولتير متعصبًا موغلًا في الراديكالية بل إنه وصل إلى أقصى شواطئ التعصب الديني والفكري.
ثم بدأ فولتير رحلة جديدة مفادها أن الملوك والسلاطين والأمراء هم وحدهم الذين يملكون حركة تسريع التاريخ والقفز بأحداثه وإحداثياته كذلك إلى مناطق أبعد ومساحات أوسع من أولئك البسطاء والفقراء والطبقات المتوسطة التي تزعم بأن الثورات سبيلًا للحرية والحضارة وشهودها وتمكينها. بل إنه وصل إلى مساحة أبعد من الغلو حينما صرَّح بأن الملوك هم وحدهم الذين يرفعون مكانة العقل مغاليًا في رأيه حينما اعتبر عامة الشعب من البسطاء غوغائيين وأوغاد.
وفجأة حينما وجد روسو يهاجم كاترين واصفًا إياها بأنها معتدية جبارة ماكرة اكتشف خارطة طريق جديدة لتحقيق أحلامه ومطامحه الشخصية الأكثر مكرًا ودهاءً. وأدرك فولتير على الفور أن التحديث الذي يرغب فيه يبدا دائمًا من القمة إلى القاعدة وربما كافة فلاسفة التنوير آنذاك كانوا يفكرون بنفس النهج والطريقة لذا لم يخالفهم في المطمح الجمعي، وهذا ما صنعه فولتير مع بطرس حينما وصفه بالمانح الحقيقي للحضارة لهؤلاء الرعايا الجهلاء وأنه شيد أعظم إمبراطورية في صحراء موحشة، ليس هذا فحسب بل تجاوز القول بأن بطرس الثالث هو الذي جعل من روسيا فرنسا جديدة بكل مظاهر الرقي والتحضر والثقافة الرفيعة. والأدهش أن فولتير برر شراسة بطرس التوسعية استخدامه لسياسات القمع والتعذيب ووحشية الانتقام بأنها وسيلة وليست غاية واعتبر حروب بطرس ضمن الأعمال المجيدة في الصناعة والتجارة.
كاترين .. حكاية شغف:
عند هذا الحد وقف فولتير في مدحه بل بالأحرى توقف عن كل المغازلة الفكرية لبطرس الثالث حينما وجد ضالته الكبرى وحلمه الأثير في كاترين التي سحرت الناس مرة ببطشها ومرة أخرى بالاستقطاب الذي يستدعي التأويل.
نجحت كاترين حاكمة روسيا المستبدة في الوصول إلى الحكم حينما قامت بتحييد زوجها بطرس الثالث وحرمان ابنها بولس من وراثة العرش، وكما يذكر (بانكاج ميشرا) في كتابه (زمن الغضب.. تأريخ الحاضر) وهو الكتاب الأصلي الذي نسرد منه بعض سطور هذا المقال، أنها قتلت زوجها بطرس الأكبر لكي تصل منفردة إلى سدة الحكم، وكالعادة المتأصلة بشرت لنفسها الحكم بأنها وريثة روحية لبطرس الأكبر، وسرعان ما فتحت قصورها لمفكري التنوير، وهي بحق استطاعت أن تتفوق على كافة حكام عصرها بانفتاحها المهووس على الفلاسفة والمفكرين الغث منهم والثمين (والسمين أيضًا!)، فقامت بشراء المكتبات من أوروبا ونشرت دائرة المعارف التي مُنعت في باريس آنذاك.
لكن ماذا عن فارسنا المضلل فولتير؛ لقد ظهر مجددًا حينما تحول إلى مباركة كاترين بوصفها قديسة طمعًا في أن يكون قديس الأرستقراطية العلمانية في روسيا حتى صار مذهب فولتير هو مذهب ومنهج الإصلاح والتجديد والتحديث والتنوير، وبالبدهي ترجمت كاترين كل أعمال فولتير إلى الروسية ولا توجد مكتبة في روسيا إلا وتضمن كل أعمال هذا المفكر الطامح.
وبلغ من السفه المتجرد من حكمة العقل أن كبار الفلاسفة في عهد كاترين مثل فريدريك ميليشور (كما يذكر بانكاج ميشرا في كتابه 2017) أعاد صيغة الصلاة الربنانية وجعلها تبدأ بهذه العبارات: “أمنا التي في روسيا”، واستبدل صيغة الشهادة بقوله: “أؤمن بكاترين واحدة”، والجائزة بالطبع كانت محفوظة له بأن استحال وزيرًا لها في هامبورج ودافع عنها وعن مخططاتها لتقسيم بولندا، بولندا التي طالما هاجمها أيضًا فولتير طيلة حياته وكأنها الدولة التي تسببت له في عقدة أو متلازمة نفسية جديرة بالتقصي والبحث.
أما عن فولتير، فوجدنا في حماس ديني مستدام صوب كاترين وتحول إلى أكبر مشجع لها على كل توسعاتها الإمبريالية، ونكتة التاريخ أن كاترين ادعت أنها خاضت حروبها ضد بولندا وتركيا بحجة حماية حقوق الأقليات الدينية، نعم الدينية تلك البوابة السحرية العجيبة للتغلغل الاستعماري أو لتقويض الأنظمة والحكومات بيسر وسهولة.
ويأتي الإسلام مرة أخرى بعقل فولتير، فوجد الفرصة سانحة لطرد هؤلاء المسلمين من أوروبا وأنهم برابرة يستحقون العقاب على أيدي قديسته كاترين؛ إن المسلمين من وجهة نظر فولتير المضلل يسخرون من الفنون الجميلة ويحرمونها، ويستعبدون النساء لذلك الإبادة لهم هي الجزاء الأوفى لهؤلاء المسلمين.. هكذا قال وكتب!.
فضلًا عن وصف المسلمين بالتخلف والرجعية والانحطاط الحضاري، وكل رسائل فولتير لقديسته كاترين حينما كان على شاطئ بحيرة جينيف تشير إلى دعمه في طرد المسلمين من أوروبا مصحوبة بهدايا ثمينة فاخرة لحاكمة روسيا المستبدة حامية حقوق الأقليات الدينية، وأن طرد المسلمين لن يكون إلا على يد الروس، واقترح عليها جاهدًا أن تكون القسطنطينية هي عاصمة روسيا، يقول فولتير في إحدى رسائله لكاترين: “إنني أطلب من جلالتك أن تسمحي لي بالحضور عندئذ والانحناء تحت قدميك وأنت تجلسين على عرش مصطفى”.
وكما يقول بانكاج ميشرا في كتابه زمن الغضب إن فولتير وصل به السخف والجنون الفكري والضلالات المذهبية إلى أنه كتب إلى كاترين رسالة بعد أن أخفقت الجيوش الروسية في سحق تركيا: “إنني أنحني عند قدميك باكيًا مبتهلًا في سكرتي: الله، الله، كاترين رسول الله”.
إن هذا يدفعنا إلى ضرورة تحليل العلاقة العجيبة بين الحاكم وحاشيته من الفلاسفة وعلماء الكوكب وأساتذة المجرة الذين يمهدون الطريق ويعبدونها لأصحاب السطوة والجبروت والقوة الغاشمة بغير رحمة، هؤلاء الفلاسفة الذين طالما درسناهم في جامعاتنا العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج لم يتم بعد الكشف عن رؤاهم السياسية بقدر ما اغرورق الأكاديميون العرب المساكين في توصيف وسرد وإماتة الوقت العلمي بالحكي عن أيديولوجياتهم التنظيرية المملة مثل فكرة الجمال والحرية المطلقة والوجود وموت الإله وغير ذلك من قضايا عقيمة أودت بالفكر العربي إلى مناطق سحيقة.
أيضا وقبل الانتقال إلى المشهد العربي المرتبط بسياق الحديث الراهن، ينبغي أن نشير إلى أن معظم فلاسفة التنوير أو الذين نظنهم أنهم تنويريون كانوا أكثر الفئات تعصبًا وميلًا مطلقًا للعصبيات القبلية والنزعات والنعرات القومية وأكثر هوسًا بالأيديولوجيات العرقية الإثنية، رغم مزاعمهم المستفيضة بأنهم في المقام الأولى دعاة حرية وتثوير وإنارة للعقل بغير قوالب أو موجهات سياسية تدفعهم لذلك، بل إنهم كما في حالة فولتير وجد المخالف له مثل روسو عدوًا وخبيثًا ولئيما بل وحقيرًا أيضًا، هذا يؤكد ظننا الذي يشارف اليقين أن فتنة الجامعات العربية التي لا تزال غارقة في سباتها الليلكي هي البقاء عند أفكار سرمدية مجردة لهؤلاء الفلاسفة دون الربط المنطقي واللازم بين فكر المرء وتأسيسه العقائدي وتكوينه السياسي ومطامحه الشخصية.
مسقط رأسي على بلاد العرب :
وقديما كانت العصبيات القبلية هي الملمح الأبرز للحياة الاجتماعية عبر عصور التاريخ الضاربة في القدم، قدم الإنسان نفسه على وجه الأرض التي كانت طيبة أو تلك الأرض التي كتب عنها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش مادحًا إياها ببساطتها وخصوبتها وبكارتها الاستثنائية، ويبدو أن العصبية كانت خيارًا حتميًا لبقاء الإنسان بوصفه أمة تارة، وأقلية تارة أخرى، ففي كلا الصورتين مارس الإنسان ويمارس حتى الآن تفكيرًا عصبانيًا مضطربًا.
وبلغت العصبيات القبلية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وصولًا إلى العصبيات الرياضية المزمنة إلى حد تفكير بعض المفكرين مثل عالم الاجتماع العربي الأصل فريدريك معتوق إلى اقتراح ما يسمى بمبيد للعصبيات المستعصية تزيلها من الوجود، فهو في كتابه الشيق “صدام العصبيات العربية” يشير إلى أن مساحات كبيرة من عصبياتنا القبلية القديمة بوجوهها المختلفة قد أعيد تأهيلها وتصويرها وصوغها في العقود الأخيرة المنصرمة على نحو ديني ومذهبي بغيض.
ولعل سر بقاء العصبيات في حياتنا لاسيما الاجتماعية والدينية افتقارنا الشديد إلى مبادئ التسامح وقبول الآخر والسعي إلى العيش المشترك، وهذا الافتقار مفاده الانتشار السرطاني الخبيث لبعض الفضائيات المهووسة بالتعصب الأعمى وإنكار الحقائق وبث الشائعات.
والذي لا يدرك بعض أسباب تخلف المجتمعات العربية الراهنة ويحصرها فقط في طبيعة المناهج الدراسية، لعله يفطن أن السبب الرئيس لهذا التخلف عن الركب الحضاري المسارع هو هذا الصلب المتمثل في العصبية واحتقار الآخر وافتقار الرحمة من القلوب.
والحقيقة أننا لا نريد تشخيص حالتنا الآنية أو حتى الذهاب إلى طبيب متخصص في علم القلوب والأحوال ليكتب لنا تقريرا طبيًا يفيد بمرضنا العميق القديم وهو العصبية والقبلية المفرطة التي سرعان ما استحالت إلى تطرف وجنوح صوب الغرور والكبر وجرح الآخرين.
وطفق رواد النهضة منذ النصف الثاني من القرن العشرين حتى وقتنا المأزوم إلى الحديث عن العقل العربي، ونقده ورصد التحولات التي عصفت به خلال الحروب والأزمات الدولية، وامتهر هؤلاء بالتنظير المسكين لواقع مسكين بالضرورة، وانتهوا والحمد لله إلى نتائج أكثر خيبة وفشلًا، لكنهم ابتعدوا كثيرًا عن تشخيص الداء أو تجاوز سقف الحقيقة وسبر الأغوار نحو عصبية مقيتة تبدو مقدسة لدى أصحابها.
ومن المضحك في هذا السياق أن مجتمعات بعينها بدأت الانطلاق نحو تطبيقات الذكاء الاصطناعي والأخذ بمكتسبات التكنولوجيا الحميدة التي تسعى إلى الارتقاء بالإنسان ورفاهيته، ونحن هنا في بعض مجتمعاتنا العربية في منطقة شرق أوسطية مشتعلة بالصراعات والتيارات والتدخلات الأجنبية أيضًا نجدد العهد بعصبيات بليدة باهتة لم تسفر قديمًا عن جديد يأتي بالخير.
الغريب في الأمر أيضًا أن بعض البيئات العربية بدت تربة صالحة لنمو العصبيات وانتشارها في ظل غياب الوعي التعليمي بنشر ثقافة قبول الآخر والعيش المشترك، وتقاعس بعض المؤسسات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني في تأصيل قيم المساواة والتسامح الإنساني.
ورجوعًا إلى كتاب عالم الاجتماع اللبناني فريدريك معتوق، فإنه يرى أن المجتمعات العربية تعيش مرضها (العصبيات القبلية) وتتلذذ به، بل هي مجتمعات لا ترغب في تشخيصه خشية المساس بالموروثات التي تتعلق بالماضي المقدس.
واليوم في ظل حضارة الصورة، فإن الفضائيات تلعب أدوارًا جديدة غير التوعية والتنوير وتعزيز قيم الانتماء والوطنية، لاسيما في فضائيات تمول من الخارج والتي يطلق عليها وفق المنظور التأريخي أعداء الوطن، هذه الفضائيات في حربها ضد الأنظمة العربية القائمة وضد حكامها أيضًا تستخدم كافة الأسلحة التي تشيع العصبية وتدعو إلى إحيائها من جديد سواء كانت دينية مذهبية أو سياسية أو اجتماعية أو حتى رياضية وهم بذلك أولى بوصفهم بأهل الفتنة.
الغريب في الأمر أننا وفي إطار وعينا بخطورة انتشار تلك العصبيات القبلية نتأمل في بلادة نحسد عليها تغلغل جذور العصبية بدءًا من نواة الأسرة مرورًا بالمدرسة والشارع والجامعة، انتهاءً إلى استقرار العصبية كعقيدة نؤمن بها ولا نؤمن بتغييرها يوما ما ولو للحظة عابرة .
وأصحاب فضائيات الفتنة التي تبث من خارج المجتمعات العربية تستخدم خطابًا تأسيسيًا يستهدف الاستمالة ودغدغة مشاعر البسطاء والعامة والعمل على تحريضهم ضد مجتمعاتهم وحكامهم تمامًا مثلما فعل سيد قطب في كتابه معالم في الطريق حينما سعى إلى تحريض جماعة الإخوان ضد المجتمع المصري والرئيس عبد الناصر. فضلًا عن أن هذه الفضائيات العصبية تتقن توصيف العدو من وجهة نظرهم بأسوأ الصفات والأفعال والأقوال، ونظرًا لأن المواطن العربي المكبل بقيود البحث عن حياة كريمة لم يعد يهتم بمصدر الخبر أو التأكد من صحته، وخصوصًا أنه يشاهد رجالًا موتورين يصرخون عبر البرامج ويقطعون عهدًا مع الحقيقة التي هي من وجهة نظري زائفة.
وحينما يفتقر الطامح سياسيًا إلى برنامج سياسي واجتماعي له سمات يمكن التقاط تفاصيله ومن ثم تحقيقه، فإن أيسر الطرق لدغدغة مشاعر البسطاء أن يمرر هذا الطامح مشروعه الوهمي بالطبع من خلال قنوات دينية وممرات ومعابر عقيدية تسهل له فرصة القفز إلى السلطة والسيادة التي يبتغيها. وبمناسبة القول عن الطموح السياسي بغير برنامج أو مشروع حقيقي للنهضة فإن صاحب هذا الطموح الذي يعاني فقر التفكير وخوف المستقبل عادة ما يلجأ إلى العنف لذي يقترن بالإرهاب والتطرف بالقول والفعل والسلوك الاجتماعي، لأنه باختصار يعاني من افتقاد الأمن الاجتماعي.
وكلما اقترب الوطن العربي من أي استحقاق ديموقراطي تبدأ تيارات الإسلام السياسي حائرة بين الحفاظ على معالم الأصولية والأخذ بأطراف الحداثة، والأخيرة في حد ذاتها لا تنشأ إلا من خلال توتر قائم ودائم، ففكرة تعاطي القليل من عقاقير الديموقراطية لا تؤدي بنتائج طيبة مثمرة لأن الحداثة التي ترادف أحيانًا مفهوم الديموقراطية في حالة صدام مستدام مع ثوابت الفكر وركائز الأيديولوجية سواء لفرد أو جماعة، وهذا التجاذب العكسي بين الأصولية والحداثة يجعل بعض أقطاب فصائل الإسلام السياسي مضطرًا إلى دحض نظرية احتكار تفسير السياسة وفقًا لتوجه ديني، وأحيانًا كثيرة يعتمدون فكرة أنه لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة. ورغم أن المروجين لدولة دينية حسب منظور ضيق لا تهتم سوى بالمأكل والمشرب وطريقة ارتداء الملابس وتجريم السياحة وعمل المرأة فحسب يصرون على شرعنة السلطة أي إضفاء طابع ديني على ممارساتهم السياسية إلا أنهم مضطرون لممارسة بروتوكولات سياسية ترتبط بالحريات والحوكمة الذاتية واحترام التعددية الدينية والسياسية، وهذا ما يجعل طرح إقامة دولة دينية ظاهرية تصطدم بعلامات أخرى مثل القومية والوطنية والطائفية وشكل الدولة بصفة عامة.
وخير مثال لنظرية شرعنة السلطة هو ما طرحه الكاتب الأمريكي سكوت هيبارد في كتابه الجديد “السياسة الدينية والدول العلمانية”، حيث أشار إلى ظاهرة تأميم الإسلام التي انفردت بها مصر قديمًا والتي استهدفت بادئ الأمر تقويض النخبة الدينية واستقطابها ثم الوصول إلى حالة من السيطرة على المؤسسات الدينية الرسمية ولو بشكل خفي مستتر أو صورة علنية كالسيطرة على بعض المساجد ضمانًا للبقاء السياسي الذي لا يشوبه الضعف، انتهاء بتطويع الإسلام نفسه إما لخدمة نظام سياسي أو لتحقيق مطامح سياسية شخصية. ويؤكد سكوت هيبارد حقيقة أن المؤسسة الدينية الرسمية في مصر اعتادت قديمًا أن تجد تبريرات في صورة فتاوى من أجل تدعيم الأنظمة السياسية الحاكمة وتوفير الأساس المعنوي لأي نظام حاكم، الأمر الذي دفع كثيرًا من حركات الإسلام السياسي إلى رفض الاعتراف بشرعية هذه المؤسسة الدينية وخلق نظام احتكاري جديد للدين ظهر أيضًا في هيئة فتاوى تقلل من شأن الأزهر أو ضد الحاكم وسياساته.