إشكالية الفصل بين الدين والدولة

3

د. بليغ حمدي إسماعيل

مضطر إلى افتتاح السطور بحديث قصير مقتضب عن غزة. فالصورة أبلغ حينما نريد توصيف مشهد غزة؛ قتلى، شهداء، مصابين، ضحايا أبرياء، ثكلى لا طاقة لهن بشغف الحياة التي باتت منتهية الصلاحية، مستشفيات استحالت شبه مقابر جماعية بانتظار إغلاقها طوعًا، خراب مستدام لا أظنه يستقيم ربما من شدة يأس الكاتب والكتابة ذاتها.

هذا ما يمكن رصده بصورة مبدئية، لكن على الشاطئ الآخر ثمة صور ومشاهد يمكننا رصدها وسردها دونما تأويل عبر التجول بالكرة الأرضية ضيقة الاتساع ضيقة الرؤية أيضًا؛ مقاطعات لسلع تجارية استهلاكية مما يؤكد أن ثقافة المواطن العربي تأبى التغيير أو التجديد. فبدلاً من صنع طائرات Raval أو المثابرة في محاكاة نموذج صاروخ “لونج مارش 5” الذي انطلق منذ فترة ليست بالبعيدة في مهمة علمية استباقية مستقبلية إلى القمر من أجل جلب عينة قمرية، وجمع وإعادة عينات تربة وصخور من على سطح القمر إلى الأرض، وفقًا لوكالة الأنباء الصينية، شينخوا، وهي أول محاولة من هذا النوع لدولة في أكثر من أربعة عقود من الزمان. وانطلق هذا الصاروخ الذي يحمل مركبة الفضاء الروبوتية “شانجي 5” من مركز وينشانج للإطلاق الفضائي في إقليم هاينان بجنوب الصين.

لقد قاطعنا كوكاكولا وأخواتها، وسلسلة مطاعم ماكدونالدز وكنتاكي وكأن المواطن العربي البليد في مقاومته في إصراره البغيض لأن يعلن عجزه وقلة حيلته وفقر تفكيره في إيجاد حلول أو حتى تقديمها للحكومات العربية للخروج من نفق كارثة غزة. واليقين الذهني القاصر أيضًا يفي لدي بأنه لا جديد في مشهد غزة، سوى أنني كغيري أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وأن لا طاقة لي حقًا بمساندة أهل غزة سوى بقليل من الدعاء عقب كل صلاة، أو إظهار تعاطف صادق بغير رياء صوب إحداثيات كتب على رؤيتها ومعاصرتها دونما تأريخ مسطور لها.

ومشهد غزة أو بالأحرى قصة فلسطين أرضًا وشعبًا وتاريخًا ضاربًا في القدم قدم الإنسانية ذاتها يدفعني بالحتمية إلى قضايا فلسفية ترتبط شديد الارتباط بتفاصيل المشهد اليومي الذي ننتظر نهاية غير درامية له تتعلق بمسألة الدولة والدين، ولقد تساءل برهان جليون في تسعينيات القرن العشرين عن كيف نشأ النزاع بين الدين والدولة؟ ولم يتوقف عن التساؤل بل اجتهد في ثنايا كتابه الموسوم بـ “نقد السياسة الدولة والدين” في البحث عن إجابة سؤال: من أين جاءت القطيعة بين الدولة والدين؟

ومفاد المسألة أن قضية النزاع لم تكن في الأصل مشكلة أو تمثل مشكلة بين الطرفين، فالتاريخ البشري يؤكد أن أية دولة ما في أي بقعة بالكرة الأرضية ما إن تعرضت لهزات سياسية أو اجتماعية كبيرة كادت أن تعصف بوجودها المؤسسي النظامي إلا وكان الدين بأي صورة كانت رسمية أو مجتمعية أو أفرادًا متفرقين بمثابة الحصن الذي يقي النظام السياسي الرسمي من أية هزات عاصفة، هذه الصورة تتمثل بقوة في منطقة الشرق الأوسط تحديدًا بما فيها الجمهورية الإسلامية الإيرانية بجانب كافة الدول العربية منذ قيام دولة الخلافة الأموية على وجه التحديد.

ومن بالغ الصعوبة أن نجد كيانًا مؤسسيًا رسميًا يحكم مجتمعًا ما ينحرف عن زوايا الدين السائدة، ولا نوصف تلك الزوايا بقدر ما نبرهن على قوة العلاقة بين الأنظمة السياسية الحاكمة وبين التوجهات الدينية الرسمية أو السائدة. ليس هذا فحسب بل الأمر أيضًا يبدو قائمًا بين الكنيسة والدولة؛ فالسلطة الدينية المسيحية في عصور أوروبا الوسطى وإن كانت تمثل بشدة وشراسة سلطة موازية وقوة باستطاعتها تسيير الأمور الحياتية إلا أن تلك السلطة كانت لها حدود قائمة ومحددة لا يمكن أن تتجاوزها بصدد الأنظمة السياسية الحاكمة التي كان يتسيدها الملك أو الجنرال أو السلطان.

ولا شك أن العلاقة بين الدولة والسلطة الدينية باتت أقوى في ظل الديانات السماوية بدءًا من اليهودية مرورًا بالمسيحية وانتهاء بالإسلام حينما أدرك العقل البشري بما وهبه الله له من إمكانات فائقة في التلقي والتفسير والتأويل أن الارتباط بإله واحد دونما تعدد أقرب في الشبه بارتباطه بكيان مجتمعي أو أمة واحدة لا تقبل الانفصال أو التماثل أو حتى المشاكلة، لذلك أدعي بأن ما جعل الدول العربية لاسيما الخلافات الإسلامية المتعاقبة من أموية وعباسية وفاطمية وخلافة أندلسية وخلافات إسلامية متناثرة تحت مسميات كثيرة تحمل سمة الدولة كالأيوبية والإخشيدية وحتى إمامة الشيعة بفرقها التي لا حصر لها باقية وقائمة دون تشتت أو تشرذم أو تفتت وانهيار بسبب الالتحام بالقوة الدينية أو بسلطة الدين وقوة الإله الواحد.

فالإله في الحضارات البائدة والثقافات التي لم تعرف فكرة الإله الواحد لم يكن قاسمًا فاصلاً وأصيلاً في الطبيعة والإنسان وحركة الحياة؛ بل كانت مجرد فكرة تعبدية قاصرة وضعيفة تجسد ضعف التصور الذهني ومن ثم لم تكن حدًا في السلطة السياسية، فخلاف العلاقة الجديدة التي نشأت بين إله واحد يعبده الملايين وبين الأنظمة والمؤسسات التي عرفت فيما بعد بالدولة.

لذلك من رأيناه في حضارة المصريين القدماء من أن الدولة بمؤسساتها كانت تعمل جاهدة في خدمة الإله الذي كان يمثله الفرعون الحاكم فقط، وتخبرنا كتب التاريخ أن عبودية المرء هي مصدر الرضا والقناعة، وبالمقابل كما يشير برهان جليون في كتابه المذكور سابقًا كانت العقوبة للفرد أو للجماعات هي إخراجها من عبادة الإله والعبودية فيه.

والتاريخ الإسلامي على وجه التحديد والاختصاص يؤكد أن ولادة الدولة لم تكن بمعزل عن السلطة الدينية التي تغلغلت أيضًا في أحشاء ومفاصل أجهزة الدولة التي عرفت آنذاك بالخلافة الإسلامية، وكانت بمثابة القيادة الروحية للدولة التي وجدناها في فترات الفتوحات والعمليات العسكرية أو حتى في أثناء نشوب فتن داخلية بين أرجاء الخلافة الواحدة.

وبالعكس، كان تحويل الدين إلى دولة إخفاقًا كبيرًا في تنظيم المجتمعات والمشهد الإيراني كفيل بتوصيف الأمر الراهن، ووجدنا في الغرب المسيحي إخفاق كل من الدولة ومؤسسات الدين حينما انتزع كل فصيل حق تسيير منابع الإيمان والفضيلة المجتمعية ووجدنا ما عُرف فيما بعد بالمجتمعات المدنية والمجتمعات السياسية والمجتمعات الدينية، وكأن الدول أو الأمم أصبحت رهائن أفكار ومعتقدات متناحرة لا متكاملة. وبهذا التصور المنفصل أصبح المعنى يفسر أن الدين في الغرب المسيحي في عصوره الوسطى كان أقرب للمسائل الشخصية الفردانية والخاصة لا العامة أو الوطنية، فخلاف الأمر في ظل الخلافات الإسلامية أو الخلافات الدينية منذ بزوغ الدولة الإسلامية الأموية عقب انتهاء فترة حكم الخلفاء الراشدين.

لكن المشهد يبدو مرتبكًا أيضًا حينما نجد المجتمعات العلمانية المدنية التي تسعى جاهدة لفصل الدين عن الدولة هي نفسها تهرول كثيرًا وراء الدين بتياراته وطوائفه وأقطابه من أجل تكوين شكل مميز لتلك المجتمعات العلمانية الضاربة في هوس التقسيم بين ما هو ديني وما هو مدني سياسي، وهذه الهرولة تظل بمنأى عن تكوين اللُحمة الاجتماعية الرصينة، لأنها ثمة محاولات مؤقتة مرهونة بأحداث بعينها تأتي وتختفي سريعًا.

وبالنظر إلى المجتمعات العلمانية التي تكاد تبدو غارقة في مدنية مادية جارفة سيظهر لنا مجتمعات موازية داخلها تتساهل في تطبيق أوامر ونواهي وأحكام الشرائع الدينية الثابتة، ومن ثم يظهر بجلي الصدع الديني الذي يصاحبه تدهور حاد في القيم والأخلاق وأيضًا تراكيب وبنى تلك المجتمعات، وأكاد أتفق مع برهان جليون في طرحه التنظيري بأن ثمة تضاؤل للفائض الأخلاقي حينما نجنح بالمجتمعات صوب العلمانية المطلقة التي لا تكترث بالقيم والرواسخ والثوابت الدينية، وربما صعود الدول المدنية ذات الصبغة العسكرية في كثير من بقاع الأرض عبر عصور التاريخ رافقه حالات من جفاف العروق والعجز عن الحركة بسبب الابتعاد عن ضوابط الشرائع.

حتى العصبية القومية في أشرس وأقسى حالاتها وهي تكرس لذاتها الفاعلة لجأت كثيرًا وطويلاً أيضًا إلى فائض القيم الدينية من أجل توظيفها لمصالح سياسية، هذه الحالة تبدو جلية في المشهد التركي المتباكي على الخلافة العثمانية الساقطة منذ أكثر من قرن ويزيد، هذا يدفعنا ولو بشكل مؤقت دونما استفاضة للحديث عن علمانية العصر الحاضر الذي يبني تصوراته الذهنية الأولية على فكرة تقويض المؤسسات الدينية لاسيما الرسمية التي تراها تلك المجتمعات حجر عثرة في طريقها، فهي في الحقيقة فكرة قائمة خارج الوعي الجمعي الذي يلتحف بالدين أكثر من ارتباطه بالمادية، لذلك على طول التاريخ وعرضه نكتشف حالات ومشاهد القلق والألم والتطلعات المتزامنة مع المخاوف لدى التيارات العلمانية، لأنها دومًا في مواجهة خصم شرس وعنيد لأن ثوابته قوية وواضحة قد لا تحتاج إلى تأويل وهي قيم العقيدة والدين.

ولهذا نجد كثيرًا من أصحاب النظريات العلمانية وأقطاب المادية الجدلية يصولون ويجولون بخواطرهم أولاً قبل خواطر الأفراد بأفكار تمنعهم من رؤية الواقع أو بالأحرى استبصار كنه النفس البشرية التي ترنو بخطى ثابتة نحو الدين وشرائعه السماوية. وكم من المضحكات أننا نجد أصحاب تلك الرؤى يبرهنون بضرورة العلمانية بعدم العودة إلى العصور الظلامية التي تدعو إلى القضاء على الحريات، رغم أن الأديان جميعها أكدت حرية العقل والعقيدة والتصرف لكنها محاولات بائسة للهروب أمام إدراك الوعي والعقل بضرورة الدين في تسيير أحوال الفرد والمجتمع.

الأخطر من ذلك كله، أن المؤسسين لنظرية فصل الدين عن الدولة أو إزاحة الفكر الديني بخطابه ورجالاته ورؤاه عن طروحات السياسيين التنظيرية في المجتمعات والتراكيب العلمانية يحاولون جاهدين جعل أفكارهم تحتل مكانة قدسية الأمر الذي يدفعهم بغير وعي إلى الإقرار بقدسية العقائد والشرائع، ليس هذا فحسب، بل إن هوس التنظير لديهم جعلهم يقرون بفكرة أن الفصل بين الدين والدولة -وهو فصل يدل على عقلية بسيطة التأويل والتفسير لواقع مغاير- شرط رئيس للقضاء على شتى صور ومظاهر الاستبداد والتمييز بين الناس.

باختصار، وكما يوضح المفكر والسياسي البارع برهان جليون في معرض حديثه عن نقد السياسة، فإن العلمانية كنظرية (في رأيي تبدو بالية وضعيفة جدًا) طرحت أفكارًا مفادها نزع القدسية عن نشاط وممارسة الدولة وإخضاع كل ما هو ديني راسخ وثابت للمناقشة، الأمر الذي يدعو للدهشة لأن الأديان السماوية دعت إلى إعمال العقل، والإسلام في طرحه التنويري سعى منذ اللحظة الأولى إلى تكريس فعل العقل وتحرره من الأوهام والمغالطات الذهنية، لذلك لا أفطن حد اليقين إلى أن العلمانية انتهت كإشكالية عصية على تأويل مظانها الضعيفة، فهي لم تلتزم بالفعل منهجًا تاريخيًا يدعم أركانها المتهاوية، كذلك وجود فكرة مادية لا تقوى على دمج الديني بالسياسي والمقدس بالدنيوي هي في الأساس فكرة تقوض معنى الإنسانية، الأمر الذي يجعلها -العلمانية- لا تعترف بمجتمعات متعددة الطوائف رغم تأكيدها ليل نهار على الحريات والتنوع والتباين لذا فسقوطها كان من إحداثياتها المبشرة وقت تكوينها.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا