يستكمل المقال أسباب تمتع أيوب بالبركة قبل أحداث ضيقته.
كثيرون يطمحون في بركة الرب لحياتهم دون أن يدركوا أن البركة تأتي كنتيجة وليس كغاية. نعم، نتيجة للتمتع بعلاقة صداقة ومحبة قوية مع الرب. هناك فرق بين شخص يتمتع بسكني وشركة الروح القدس وصداقة الله، وبين شخص يتعامل مع الرب كأنه غريب، يريده فقط أن يلبي طلباته يباركه وينجحه ويعطيه ثروة دون الدخول معه في شركة حقيقية.
والسؤال: هل نتمسك به صديقًا أم أن الله غريب عنا؟
يحكي لنا إنجيل لوقا قصة تلميذي عمواس فيقول: “وفيما يتكلمان ويتحاوران، اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما. ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته” (لوقا24: 15-16). وقتها كانوا حزانى ومتحيرين بسبب صلب يسوع المسيح الناصري الذين ظنوا أنه قد يخلصهم من عبودية الرومان، كانوا محبطين فما ترجوه حدث عكسه، ولكنه ظل يمشي معهم قرابة الساعتين يكلمهم ويناقشهم. ولما لم يفهموا مقصده ابتدأ يفسر لهما من موسى ومن جميع الأنبياء الأمور المختصة به في جميع الكتب، واقتربت لحظة فاصلة فهم شبه وصلوا للقرية التي كانا منطلقين إليها وهنا “تظاهر كأنه منطلق إلى مكان أبعد” (ع 28) أو “أعطى انطباع أنه ذاهب أبعد” ليرى هل يمسكون به هل يريدون أن يظل معهم أم سيتركونه ويمضون لدنيتهم؟
ولكنهم “ألزماه قائلين: «امكث معنا، لأنه نحو المساء وقد مال النهار». فدخل ليمكث معهما” (ع 29)، مثلما حدث مع عروس النشيد التي طلبت مَنْ تحبه نفسها ولم تجده، فظلت تطوف في المدينة والأسواق والشوارع تطلبه ولم تجده إلى وجدته، فقالت: “أمسكته ولم أرخه” (نشيد3: 4)
وهكذا يبحث الرب عن النفوس المشتاقة لحضوره وسكناه، يبحث عن النفس المتمسكة به رغم زحام الحياة وصعوبتها ومشاكلها ومشاغلها. لم يتمسك أيوب بالله لأنه باركه ولكنه تمسك به لأنه صديقه الحميم فملأت البركة حياته كنتيجة طبيعية لعلاقته وتمسكه بالله.
وبسبب تمسكهما بأن يدخل ويمكث معهما، دخل وجلس وتناول الخبز وكسره ليناولهما، وهنا دخلا معه في شركة أعمق، وحدثت لهما نقلة في حياتهم وانفتحت أعينهما وعرفاه واختبراه ولمسا حضوره المغير، “فلما اتكأ معهما، أخذ خبزًا وبارك وكسر وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه” (ع 29-30)، كبولس الرسول الذي حاول أن يدرك المسيح الذي سبق فأدركه وغير حياته “أواصل السعي لعلي أدرِك المسيح يسوع، لأنه هو قد أدركني” (فيلبي3: 12).
بالمقابل، حينما أتى الضيق على الشعب في زمن إرميا النبي، تساءل: “يا رجاء إسرائيل، مخلصه في زمان الضيق، لماذا تكون كَغَرِيبٍ فِي الأَرْضِ، وَكَمُسَافِرٍ يَمِيلُ لِيَبِيتَ؟” (إرميا14: 8). كان الرب بينهم كغريب بلا مسكن وسطهم، لم يستطع أن يحل بحضوره أو يسكن برضاه على بيوتهم، كان واقفًا وراء حائط كبير، كان كالغريب، يطلبونه فقط حينما يريدون منه شيء، إن أرادوه تعاملوا معه من وراء الشباك، كان كمسافر يميل ليبيت وهلة من الزمن، يحقق فيها لهم ما يريدونه ثم ينسونه ويتركونه وينشغلون عنه ويعيشون في خطاياهم، كما فعلوا أيام إشعياء فلم تعنيهم صداقة الله، بل أكثروا آثامهم وفعلوا الشر، فقد تخلوا عن الله، واستهانوا بقدوس إسرائيل. تركوه وعاملوه كغريب!، “إليه أداروا ظهورهم” (إشعياء1: 4).
قبل أن نتحدث عن الضيقة ونتهم الله أو نطلب التقدم أمامه إلى المحاكمة؟ قبل أن نلومه ونظن أنه نسينا أو غير مهتم، لا بد أن نحدد عمق علاقتنا به: هل هو صديق أم غريب؟ لأن منظورنا للضيق سيختلف في الحالتين.
لو كان صديقًا فلن نصدق كلمات الأكاذيب ضده، مستحيل أن يؤذي أو يهمل صديق صديقه، قد يفكر الغريب هكذا، لكن الصديق “يُحب في كل وقت” (أمثال17: 17).
كان أيوب صديقًا لله، وذُكر عن إبراهيم “خليلي” (إشعياء41: 8)، وموسى كان يكلم الله وجهًا لوجه كما يكلم الرجل صاحبه (تثنية33: 11). وفي إنجيل يوحنا، يدعو يسوع تلاميذه “أحبائي” أو “أصدقائي” (يوحنا15: 15)، وهي دعوة ثمينة وتُعتبر في حد ذاتها مكافأة الحياة، فلا شيء يضاهي هذه الصداقة، فهي أغلى وأثمن ما في حياتنا، فمعرفة الله هي جوهر ومعنى الحياة.
صلاة: نعم يا رب بدونك لا نقدر أن نفعل شيئًا (يوحنا15: 4) وأنت وعدت أرسل لكم روحي المعزي (يوحنا14: 18)، بمساعدتك ننفتح على روحك ونرحب به ليأتي ويستريح في أعماقنا، لا نريد أن نحيا منفصلين منعزلين عنك، لا نريد أن نحزن أو نطفئ روحك (1تسالونيكي5: 19)، بل نحيا حياة التوبة والاستعداد، ونكون في شركة متواصلة طوال اليوم مع روحك المشجع المريح المعين الذي يعين ضعفاتنا (رومية8: 26)، آمين.
بركة الرب
رائعة كانت حياة أيوب، فحضور الله الحي ملأ حياته وبيته وكل ما له ففاضت البركة أضعاف مضاعفة أكثر مما يتوقع أحد، وأكثر مما يمكن حسابها لدرجة أن الكتاب لا يوضح من كثرتها عدد الأضعاف التي تضاعفت لها.
وكانت البركة التي لأيوب مختلفة، بالضبط كما حدث مع إسحق الذي في سنة المجاعة إذ يقول: “وزرع إسحاق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مئة ضعف، وباركه الرب، فتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيمًا جدًا. فكان له مواش من الغنم ومواش من البقر وعبيد كثيرون. فحسده الفلسطينيون” (تكوين26: 12).
في وقت المجاعة، سيكون إسحق سعيدًا بأي كمية ثمر تنتجها له الأرض، ففي وقت المجاعة لا تأتي الأرض بثمر، ولكن إسحق اختبر أمرًا مختلفًا، فأرضه لم تثمر فقط بل أتت بمئة ضعف من الثمر، وكانت النتيجة أنه تعاظم بشكل مرعب لكل من حوله.
وهذه البركة ما هي إلا إظهار لرضا الرب وحضوره الذي يغمر الحياة، والكتاب يوضح عبر صفحاته أمثلة لمضاعفات البركة أو التعويض، فهناك:
• الضعف (أيوب42: 10)
• أربعة أضعاف (2صموئيل12: 6)
• سبعة أضعاف (أمثال6: 31)
• ثلاثين وستين ومئة (متى13: 8)
• مئة ضعف (تكوين26: 12).
• ألف ضعف (تثنية1: 11)
المختلف في هذه البركة، أنها من يد الرب لذا تكون مميزة بشكل فائق، بعكس مَنْ يسعى بقدراته وإمكانياته ومهارته وذكائه. يقارن الكتاب المقدس بين هؤلاء المتكلين على أنفسهم والمتوكلين على الله فيقول لهم “باطل هو لكم أن تبكروا إلى القيام مؤخرين الجلوس آكلين خبز الأتعاب” (مزمور2:127). فالمتكلون على ذراعهم استيقظوا مبكرًا، وعملوا طوال الوقت، تأخروا في أخذ راحة، أكلوا خبزهم بتعب ومشغولية وناموا في وقت متأخر. والنتيجة لا شيء، “باطل”، أي لا نفع ولا فائدة لما فعلوه.
كثيرون يتعبون ويبذلون مجهودًا ضخمًا ثم يحصلون على قليل لا يناسب المجهود المبذول! فبدون لمسه الله على عملهم، سيكون تعبهم بلا فائدة. مثل لوط الذي ظل يبذل المجهود ويكنز ثروته في سدوم إلى أن أتت لحظة فقد فيها كل شيء وخرج من المكان الخاطئ أخيرًا خالي اليدين واحترق مجهود سنوات كثيرة في لحظات!
أما المتكلون على الرب بكل قلوبهم، الذين أعينهم مثبته على الرب وكل اهتمامهم الرب لا بركاته، “فبركة الرب تغني ولا يزيد معها تعبًا” (أمثال22:10)، أي “بركة الرب تعطي الثروة، والعمل الشاق لا يزيدها”، “العمل الشاق لن يجعلك أكثر ثراءً” “لا شيء نفعله يمكن أن يحسِّن عمل الله”، نحن لا يمكن أن نضيف على عمل الله مهما فعلنا، فعمل الله كامل ووافي، أن نتعب خارج مشيئته فهذا التعب لن تكون له فائدة.
وتأتي بمعنى “بركة الله تجلب غنى لا يصحبه حزن”، هناك أشخاص كرسوا كل حياتهم لجمع الثروة فاجتهدوا واعتمدوا على ذراعهم، لذا تجلب معها هذه الثروة الحزن، فهم يخافون عليها لأنها أخذت من أيامهم ووقتهم ومجهودهم وصحتهم.
أهم ما حدث مع مَنْ باركهم الرب بالثروة فهو أنها لم تكن غايتهم بتاتًا، لقد كان هدفهم الرئيسي هو البحث والسعي وراء الله، وحرصوا أن تكون لله المكانة الأولى في حياتهم، فكانت إحدى نتائج هذا الالتصاق بالله بركات غير عادية.