أنسلم والفارابي

6

د. مراد وهبة

دعا هذا الفيلسوف إلى تبعية العقل للإيمان، وعدم تميز المعرفة الطبيعية من المعرفة الإيمانية. له كتاب عنوانه «نولوجيوم» أي مناجاة النفس يورد فيه ثلاثة أدلة على وجود الله مأخوذة من الجهات التي تتشابه فيها الموجودات ويتفاوت اشتراكها فيها فتؤدي بنا إلى علة أولى هي الله. وهذه الجهات الثلاث: الصفات مثل الخير والجمال والحق. وتفاوتها في الموجودات واضح، ثم الماهيات وبينهما تفاوت. فالفرس أرقى من الشجرة والإنسان أرقى من الشجرة. وأخيرًا الوجود والتفاوت فيه لازم من التفاوت في الماهية. فوجود الإنسان ليس كوجود الفرس. وفي هذه الجهات الثلاث يمتنع التسلسل إلى غير نهاية لامتناع وجود عدد لامتناه. والنتيجة المحتومة أن كل ما كان حاصلًا على شىء قل أو كثر من كمال ما فهو يستمده من مطلق ذلك الكمال.

ثم إن أنسلم له كتاب آخر عنوانه «بروسلوجيوم» أي مقال أو عظة يعرض فيه دليلاً أبسط من الأدلة السابقة. هذا الدليل يستند إلى فكرة الله ذاتها. يقول أنسلم نحن نؤمن بوجود الله، ولكن الأحمق يقول في قلبه: ليس يوجد إله على نحو ما ورد في مزامير داود. غير أن الأحمق يناقض نفسه ونحن نبين له هذا التناقض للأحمق على الوجه الآتي: الله هو الموجود الذي لا يتصور أعظم منه. وما لا يتصور أعظم منه محال أن يوجد في العقل فقط. لماذا؟ لأنه عندئذ يمكن تصور مثله متحققًا في العقل وفي الواقع، ومن ثم يكون أعظم منه. وينتج أن ما لا يتصور أعظم منه يمكن تصور أعظم منه وهذا محال. إذن ما لا يتصور أعظم منه موجود في العقل وفي الواقع بالضرورة. وقد نعترض على دليل أنسلم هذا وما سبقه من أدلة كما اعترض الراهب جونيلون في رسالة عنوانها «الدفاع عن الأحمق» بحجة أن ثمة ثغرات منطقية. ولكن هذا الاعتراض مرفوض لأن هذه الأدلة في رأي أنسلم ليست أدلة بمعنى الكلمة بل هي مجرد تفسير لاسم الله، ثم هي أدلة مستفادة من الإيمان. ولهذا فإن أنسلم ينصح أي معترض على وجود الله أن يحتكم إلى ضميره وإلى إيمانه وليس إلى عقله.

ولم يكن الشرق بمعزل عما يحدث في الغرب. فشرلمان إمبراطور الدولة الرومانية يقابله هارون الرشيد في الدولة العباسية. وقد اتفق الاثنان على توطيد العلاقات بينهما في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية. والذي ساعد على ذلك عداوة كل منهما للدولة الأموية بالأندلس. ولم تكن الحياة الدينية بمعزل عن الحياة المدنية. وقد تمت فتوحات المسلمين بفضل ما لديهم من عقيدة دينية. ولهذا كان من اللازم أن ينشغل مفكرو العرب بالمزاوجة بين العقل والإيمان، وبين الفلسفة والدين. وظهر فلاسفة عظام: الفارابي وابن سينا وابن رشد.

لُقب الفارابي المعلم الثاني بين فلاسفة الإسلام، كما كان لقب أرسطو المعلم الأول بين فلاسفة اليونان. وكانت مشكلة الفارابي الأساسية خلق العالم، وقد استند في حلها إلى فكرتي الواجب والممكن. فالموجودات عنده على ضربين: أحدهما إذا اعتبر ذاته لم يجب وجوده ويسمى ممكن الوجود. والثاني إذا اعتبر ذاته وجب وجوده ويسمى واجب الوجود. وإن كان ممكن الوجود إذا فرضناه غير موجود لم يلزم منه محال. فلا غنى بوجوده عن علة. والأشياء الممكنة لا يجوز أن تمر بلا نهاية في كونها علة ومعلولاً، ولابد من انتهائها إلى شيء واجب هو الموجود الأول. فواجب الوجود متى فرض غير موجود لزم منه محال. ولا علة لوجوده، ولا يجوز كون وجوده بغيره. وهو السبب الأول لوجود الأشياء. ويلزم أن يكون وجوده أول وجود، وأن ينزه عن جميع أنحاء النقص. فوجوده إذن تام، ويلزم أن يكون وجوده أتم الوجود، واجب الوجود إذن هو الله. وهو واحد بالضرورة. والسؤال بعد ذلك: كيف يخرج الكثير من الواحد؟ جواب الفارابي أن العالم يصدر عن الله على صورة «فيض» والفارابي هو أول من أدخل نظرية الفيض في الفلسفة الإسلامية. فالله يتعقل ذاته فيفيض منه وجوده الثاني، وهذا الثاني يعقل ذاته فيفيض منه وجود الثاني. وهذا الثاني يعقل ذاته ويعقل الأول فيلزم عنه وجود ثالث. وهكذا يستمر فيض العقول بعضها عن بعض فيضًا حتى تصل إلى الفلك الأدنى وهو فلك القمر. ويلي هذا الفلك العالم السفلي الذي نعيش فيه متأثرًا تأثرًا كبيرًا بما فوقه من أفلاك. غير أن الفارابي يرفض أن يرتب على هذا التأثر تأسيس علم النجوم الطبيعي الذي يقرر أن الكواكب قد تجلب السعادة أو التعاسة، لأن العالم السفلي متغير بحكم أنه ممكن الوجود. ومعرفة ما هو متغير إنما هي معرفة تخمينية وليست يقينية. ويتبع ذلك أن المعرفة اليقينية هي المعرفة الخاصة بواجب الوجود، أي الله.

وعقل الإنسان قادر عليها لأنه يصدر عن العالم العلوي. ولهذا فإن الأخلاق والسياسة وشئون الحكم يلزم أن تخضع جميعًا لحكم العقل. فالمدينة الفاضلة التي يتصورها الفارابي رئيسها فيلسوف بالضرورة يستأثر بالسلطة المطلقة. وهكذا يزاوج الفارابي بين الحياة الدينية والحياة المدنية من حيث إن أساسها يلزم أن يكون هو العقل.

ومن تلاميذ الفارابي ابن سينا. ويعترف ابن سينا بفضل الفارابي. فقد قرأ كتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو أربعين مرة ولم يفهم، ثم تصادف أن طالع كتاب الفارابي في أغراض ما بعد الطبيعة فإذا به يفهم آراء أرسطو.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا