الدكتور جيسون ليزل
إن نظرية “الانفجار العظيم” راوية تُفسّر كيفية دخول الكون حيّز الوجود. وتفترض أن الكون بدأ قبل مليارات السنين، في شكل جزء صغير شديد الحرارة والكثافة اسمه “التفرّد”. وتفترض أن هذا التفرد احتوى ليس فقط على كل الكتلة والطاقة التي أصبحت كل شيء نراه اليوم، ولكنه أيضًا “تضخُّم”. وفقًا للراوية، تمدد التفرد بسرعة، ناشرًا الطاقة والكون.
تفترض أيضًا أنه على مدى فترات طويلة من الزمن، بردت طاقة الانفجار العظيم بينما أخذ الكون بالتوسع. وقد تحول بعضها إلى مادة-غاز الهيدروجين والهيليوم. ثم سقطت هذه الغازات وشكّلت النجوم والمجرات. بعض النجوم خلَّفت عناصر أثقل في نواتها ثم انفجرت، ناشرة هذه العناصر في الفضاء. وزعموا أن بعض العناصر الثقيلة بدأت تلتصق معًا وشكّلت الأرض وسائر الكواكب.
إن راوية البدايات هذه خيالية بالكامل. ولكن للأسف، يدّعي كثيرون أنهم مؤمنون بنموذج الانفجار العظيم. والمؤلم حقًا أن العديد من المسيحيين المثقفين أخذوا بنظرية الانفجار العظيم، ربما دون ملاحظة أسسها الإلحادية. لقد اختاروا أن يُعيدوا تفسير تعاليم الكتاب المقدس الواضحة، في محاولة منهم لجعلها تتفق مع المعتقدات العلمانية حول أصل الكون.
المساومات العلمانية
هناك عدة أسباب تمنعنا من إضافة نظرية الانفجار العظيم إلى الكتاب المقدس. ففي النهاية، نظرية الانفجار العظيم راوية علمانية عن أصل الكون. عندما تم اقتراحها لأول مرة، كانت مجرد محاولة لتفسير إمكانية نشوء الكون بدون الله. إنها بالحقيقة بديل الكتاب المقدس، لذلك لا داعي لمحاولة “إضافتها” إليه. لذا، دعونا ندرس بعض الاختلافات العميقة بين نظرة الكتاب المقدس ونظرة الانفجار العظيم العلمانية لأصل الكون.
يُعلمنا الكتاب المقدس أن الله خلق الكون في ستة أيام (تكوين 1؛ خروج 20: 11). ويوضّح السياق في سفر التكوين أنها كانت أيامًا عادية (اليوم مكون من 24 ساعة) لأنها محصورة بين مساء وصباح، وتتوالى في قائمة مرتبة (اليوم الثاني، اليوم الثالث، وما إلى ذلك). بينما بالمقابل، تُعلم نظرية الانفجار العظيم أن الكون تطور على مدى مليارات السنين.
يقول الكتاب المقدس إن الأرض خُلقت قبل النجوم، وإن الأشجار خُلقت قبل الشمس. ومع ذلك، تُعلم نظرية الانفجار العظيم العكس تمامًا. يُخبرنا الكتاب المقدس أن الأرض خُلقت كجنة. بينما يُعلم النموذج العلماني أنها بدأت في شكل نقطة منصهرة. من المؤكد أن نظرية الانفجار العظيم والكتاب المقدس لا يتفقان بخصوص الماضي.
يجهل كثيرون أن الانفجار العظيم ليس مجرد رواية عن الماضي فقط، بل أيضًا رواية عن المستقبل. إن الراوية الأكثر شعبية لنظرية الانفجار العظيم تُعلم بأن الكون سوف يظل يتمدد للأبد إلى أن تنفذ في النهاية طاقته القابلة للاستخدام. ووفقًا للراوية، فإنه سيبقى على هذا النحو إلى الأبد في حالة يُسميها الفلكيون “الموت الحراري”. لكن الكتاب المقدس يُعلم أن العالم سيُدان وسيُعاد صنعه. بينما تنفي نظرية الانفجار العظيم هذا التعليم الكتابي المهم.
مشاكل نظرية الانفجار العظيم العلمية
تُعاني نظرية الانفجار من عدد من المشاكل العلمية. إن أنصار هذه النظرية مجبرون على التسليم “بإيمان أعمى” لعدد من المفاهيم التي تتنافى تمامًا مع علم الرصد الحقيقي. دعونا نستكشف بعض التناقضات بين رواية الانفجار العظيم وبين الكون الحقيقي.
الأحادية القطبية مفقودة
جميعنا يعرف المغناطيس -كالذي نجده في البوصلة أو الأشكال التي نلصقها على الثلاجة- نقول غالبًا إن للمغناطيس قُطبين، قطب شمالي وقطب جنوبي. القطبان المتشابهان يتنافران، في حين أن القطبين المعاكسين يتجاذبان. و”الأحادية القطبية” هي جسيم افتراضي ضخم كالمغناطيس، ولكن لديه قطب واحد فقط. وعلى القطب أن يكون إما شماليًا أو جنوبيًا، وليس الاثنين معًا.
يدّعي فيزيائيو الجسيمات أنه يجدر بالكثير من المناطق الأحادية القطبية أن تكون قد تشكّلت جراء حرارة الانفجار العظيم العالية. لكن بما أن المناطق الأحادية القطبية مستقرة، كان ينبغي أن تستمر إلى يومنا هذا. ولكن رغم جهود البحث الكبيرة، لم يتم العثور على مناطق أحادية قطبية. فأين هي؟ إن واقع عدم إيجاد أحادية قطبية يُشير إلى أن الكون لم يتعرض يومًا لمثل هذه الحرارة. مما يجعلنا نستنتج أن الانفجار العظيم لم يحدث أبدًا. ويتفق هذا الواقع تمامًا مع قصة الكتاب المقدس عن الخلق، أن الكون لم يبدأ بحرارة شديدة.
مشكلة التسطح
هناك إشكالية خطيرة أخرى في نموذج الانفجار العظيم وهي مشكلة التسطح. يبدو أن معدل التمدد في الكون متوازن جدًا مع قوة الجاذبية. هذه الحالة معروفة باسم التسطح. إذا كان الكون قد تكوّن عرضيًا نتيجة للانفجار العظيم، فإنه من الصعب أن نتصور كيف يمكن لمثل هذه الصدفة المبهرة أن تحدث. لا يمكن لعلم الكونيات الخاص بالانفجار العظيم أن يُفسر لماذا كثافة الهيولي في الكون ليست أكبر مما هي عليه الآن، ولا تدفع الكون للانغلاق على نفسه (كون مغلق)، ولماذا ليست أقل، جاعلة الكون يطير بعيدًا بسرعة (الكون المفتوح).
تزداد الإشكالية حدة عندما نستقرئ الماضي. بما أن أي حيد عن التسطح الكامل يميل لأن يزيد مع الوقت، فلابد إذًا كان الكون في الماضي أكثر توازنًا مما هو عليه اليوم. وهكذا، يُفترض أن الكون كان في لحظة الانفجار العظيم مسطحًا بدقة عالية. على الوضع أن يكون هكذا (لنفترض خلال الانفجار العظيم)، على الرغم من حقيقة أن قوانين الفيزياء تتيح المجال لمجموعة لا حصر لها من التقديرات. إنها صدفة عجيبة تستبعد أية سذاجة. إن “التوازن” في نموذج الخلق متوقع بالتأكيد، لأن الرب هو من ضبط الكون وأوجد البيئة المناسبة للحياة.
تضخيم التعقيدات
أوجد العديد من علماء الفلك العلمانيين فكرة تُسمى “التضخيم” في محاولة منهم لمعالجة مشاكل التسطح والأحادية القطبية (وغيرها من المشاكل التي لم تُعالج هنا بالتفصيل، مثل مشكلة الأفق). يقترح التضخم أن يكون الكون قد مر مؤقتًا بفترة من التضخم المتسارع. ومن المثير للدهشة، أنه لا وجود لأدلة حقيقية داعمة للتضخم؛ يبدو أنه مجرد تخمين لا أساس له – تمامًا كحال الانفجار العظيم نفسه. وعلاوة على ذلك، إن لفكرة التضخم صعوباتها الخاصة، مثل: ما الذي سيُطلقها؟ وكيف لها أن تتوقف بسلاسة؟ ثم حتى لو كان التضخم صحيحًا، هناك مشاكل أخرى لم تُحل مع نظرية الانفجار العظيم، ونراها في التالي.
أين هي المادة المضادة؟
لنتأمل في “مشكلة عدد باريون”. لنتذكر أن نظرية الانفجار العظيم تفترض أن المادة (الهيدروجين وغاز الهيليوم) وُجدت من خلال الطاقة بينما كان الكون ينفجر. ومع ذلك، تُخبرنا الفيزياء التجريبية أنه كلما تشكلت مادة عن طريق الطاقة، ينتج عن مثل هذا التفاعل أيضًا مادة مضادة. إن لهذه المادة المضادة خصائص مماثلة للمادة، باستثناء أن شحنة الذرات تكون معاكسة. (فمتى كان للبروتون شحنة موجبة، يكون المضاد البروتون شحنة سلبية). وعند أي تفاعل لتحويل الطاقة إلى مادة، تنتج كمية متساوية تمامًا من المادة المضادة ولا استثناءات معروفة لهذه القاعدة.
ينبغي أن يكون الانفجار العظيم (الذي لم ينطلق من مادة، بل فقط من الطاقة) قد أنتج كميات متساوية بالتمام من المادة والمادة المضادة، وينبغي أن يكون هذا ما نراه اليوم، ولكننا لا نراه. يتكون الكون المرئي تقريبًا من المادة – مع كميات قليلة جدًا من المادة المضادة في كل مكان.
هذه المشكلة القاضية على نظرية الانفجار الكبير تتفق في الواقع مع ما يُعلمه الكتاب المقدس عن الخلق؛ إنها ميزة التصميم. خلق الله الكون ليكون أساسًا مادة فقط – ومن الجيد أنه فعل ذلك. عندما تجتمع المادة والمادة المضادة معًا، فإنهما يدمران بعضهما بعضًا بقوة. إذا وُجدت في الكون كميات متساوية من المادة والمادة المضادة (كما تتطلب نظرية الانفجار العظيم)، لكانت الحياة مستحيلة.
نجوم مفقودة من التصنيف الثالث
إن نموذج الانفجار العظيم في حد ذاته لا يعترف سوى بوجود العناصر الثلاثة الأخف (الهيدروجين، والهيليوم، وكميات ضئيلة من الليثيوم). وهذا يترك حوالي ٩٠ أو ما إلى ذلك من العناصر الأخرى التي تحدث طبيعيًا في حاجة إلى تفسير. بما أن ظروف الانفجار العظيم لیست مناسبة لتشكيل هذه العناصر الأثقل (كما يرى داعمو الانفجار العظيم)، يعتقد علماء الفلك العلمانيون أن النجوم قد أنتجت العناصر المتبقية عن طريق الانصهار النووي في النواة، ويعتقد أن يكون قد حدث ذلك في المراحل النهائية للنجم الضخم بينما كان ينفجر (المُستعر الأعظم)، أدى هذا الانفجار إلى انتشار عناصر ثقيلة في الفضاء. فتعرضت نجوم الجيل الثاني والثالث “للتلوث” بكميات صغيرة من هذه العناصر الثقيلة.
إذا كانت هذه الرواية صحيحة، لكانت النجوم الأولى قد تكونت فقط من العناصر الثلاثة الأخف (لأنها كانت العناصر الوحيدة المتواجدة في البدايات). يجب أن تكون بعض هذه النجوم متواجدة اليوم بما أن عمرها الافتراضي محسوب ليتجاوز عمر “الانفجار العظيم” للكون. مثل هذه النجوم تُسمَّى نجوم “التصنيف الثالث” Population III. لكن المدهش في الأمر (لأولئك الذين يؤمنون بنظرية الانفجار العظيم)، أنه لم يتم العثور على نجوم التصنيف الثالث في أي مكان. كل النجوم المعروفة تحتوي على الأقل على أثر لكميات من العناصر الثقيلة. ومن المدهش أن تفكر أنه من المقدّر أن تضم مجرتنا وحدها ما يزيد عن ١٠٠ مليار نجم داخلها، ورغم ذلك لم يتم اكتشاف نجم واحد مؤلف فقط من العناصر الثلاثة الأخف وزنًا.
انهيار نظرية الانفجار العظيم
مع كل المشاكل المذكورة أعلاه، فضلًا عن العديد من المشاكل الأخرى التي يصعب شملها، فإنه من غير المستغرب أن عددًا لا بأس به من علماء الفلك العلمانيين قد بدأوا بالتخلي عن نظرية الانفجار العظيم. على الرغم من أنها ما زالت النموذج المهيمن في الوقت الحاضر، يكتشف عدد متزايد من الفيزيائيين والفلكيين أنَّ الانفجار العظيم ليس الشرح الوافي لكيفية نشوء الكون. في قضية نيو ساينتيست المؤرخة ۲۲ مايو ۲۰۰٤، ظهرت رسالة مفتوحة للمجتمع العلمي كتبها في المقام الأول علماء علمانيّون تحدوا نظرية الانفجار العظيم. أشار هؤلاء العلماء إلى أن ما يتحدى شرعية نموذج الانفجار العظيم هو وجود الكثير من الافتراضات الاعتباطية، وغياب التنبؤات الناجحة لنظرية الانفجار الكبير. ومن بين أمور أخرى، يقولون: “يعتمد الانفجار الكبير اليوم على عدد متزايد من الكيانات المفترضة، والأشياء التي لم نلاحظها أبدًا – والأمثلة الأبرز على ذلك هي: التضخم، والمادة المظلمة، والطاقة المظلمة. بدونها يزول التناقض الحاد بين الملاحظات التي قام بها علماء الفلك وبين تنبؤات نظرية الانفجار العظيم. لا يمكن في أي مجال فيزيائي آخر قبول هذا اللجوء المستمر إلى الأجسام الافتراضية الجديدة كوسيلة لسد الفجوة بين النظرية والملاحظة من شأن هذا على أقل تقدير، أن يُثير تساؤلات مهمة حول صحة النظرية الأساسية “.
لقد وقع على هذا البيان منذ ذلك الحين مئات العلماء الآخرين والأساتذة في مؤسسات مختلفة. يبدو أن نظرية الانفجار العظيم تفقد الكثير من شعبيتها. وعدد متزايد من العلماء العلمانيين يرفضونها ويتبنون نماذج أخرى. إذا تم التخلي عن نظرية الانفجار العظيم، ما الذي سيحدث لكل المسيحيين الذين ساوموا وادعوا أنَّ الكتاب المقدَّس متّفق مع نظرية الانفجار الكبير؟ ماذا سيقولون؟ هل سيدعون أن الكتاب المقدَّس في الواقع لا يُعلِّم عن نظرية الانفجار الكبير، ويُعلم بدلاً من هذا عن النموذج العلماني الأحدث؟ إن النماذج العلمانية تظهر وتختفي، ولكن كلمة الله لا حاجة لأن تتغير لأن الله كتبها صحيحة من المرة الأولى.
الخاتمة
تعاني نظرية الانفجار العظيم من العديد من المشاكل العلمية، وهي أعراض تُبيّن أنّ النظرة الكونيّة غير صحيحة. تفترض نظرية الانفجار العظيم خطأ أن الكون لم يتكون بطريقة معجزية، بل جاء بعد عمليات طبيعية استمرت مليارات السنين. ومع ذلك، لا يتماشى الواقع مع هذا المفهوم. يشرح الخلق الكتابي الأدلة بطريقة أكثر مباشرة بدون تلك التكهنات المنتشرة في كل مكان في النماذج العلمانية. في النهاية، إن السبب الأدعى لرفض نظرية الانفجار العظيم هو تعارضها مع ما علمه خالق الكون نفسه إذ قال: “في البدء خلق الله السماوات والأرض” (تكوين ١: ١).