قد نلاحظ على بعض الأشخاص أعراض مختلفة تشير إلى معاناتهم من اضطرابات في الشخصية، ولكنها لا تصل إلى حد الاضطراب العصابي، والذي يتمثل في القلق والخوف والوسواس أو الاضطراب الذهاني، وذلك مثل الشيزوفرنيا والبارانويا وثنائي القطب، ولكنها تُعتبر في منطقة وسطية بين الاضطرابات العصابية والاضطرابات الذهانية، وتُعرف باضطرابات الشخصية، ولها عدة أنواع من أشهرها النرجسية والهستيرية والسيكوباتية والشخصية الحدية (BPD) Borderline Personality Disorder. وقد سُميت بالشخصية الحدية لأنها تترجح بين الحد الأقصى للاضطراب العصابي إلى الحد الأقصى الآخر للاضطراب الذهاني. ويمثل هذا الاضطراب 2-3% من سكان العالم، وذلك طبقًا للمنظمة العالمية I.M.H، وهو يصيب السيدات بنسبة 4: 1 للرجال، ومن أشهر مَنْ عانى منه ممثلة الإغراء الأمريكية مارلين مونرو.
والشخصية الحدية تتصف بالتذبذب في الأفكار والمشاعر والمزاج والسلوك، كما تتمثل في نوبات حادة من الاندفاعية والغضب الذي قد يؤدي إلى الانفجار الشديد والذي لا يتناسب مع الموقف المثار دون اعتبار لنتائج سلوكه، إذ لديه حساسية مفرطة تجعله يستثار لأتفه الأسباب، وذلك مثال الزوج الذي يغضب بشدة حينما تتباطأ زوجته في تلبية احتياجه أو يثور عندما لا يستجيب صديق له على الهاتف. كما يتصف الشخص الحدي بأنه متقلب المزاج، فهو ينتقل من الحب الشديد إلى الكره الشديد أو من حالة الفرح الشديدة إلى حالة الحزن الشديد، كذلك فإن لديه شكًا دائمًا في محبة الآخرين له، حيث يتوقع أن يكونوا على نفس مستوى أدائه ومشاعره نحوهم.
وقد يكون هناك خلط بين أعراض هذا الاضطراب وبين مرض اكتئاب ثنائي القطب، حيث إن كلًا منهما يشترك في الاندفاع والتطرف والتقلب المزاجي الحاد إلا أنه يمكننا أن نميز بينهما طبقًا لما ذكره الكتالوج الإحصائي الخامس للاضطرابات النفسية الأمريكي D.S.M.5، حيث وضع خمس متلازمات Syndromes لتشخيص هذا الاضطراب، وهي كالتالي:
– الاندفاعية والتهور:
يتميز سلوك وتصرفات الشخص الحدي بالتهور والاندفاع، فنجده مثلًا يقود سيارته بسرعة شديدة أو يبالغ في الإنفاق أو الأكل بشراهة، وحتى على المستوى العاطفي فهو يسرف في شراء الهدايا لمحبوبته ويغمرها بالاهتمام والحب الزائد، وقد يصل به الأمر إلى أن يتصل بها تليفونيًا عدة مرات متتالية في اليوم الواحد وذلك إلى حد الإزعاج.
– نوبات غضب شديدة:
تتصف الشخصية الحدية بأن ردود أفعالها مبالغ فيه فهي تستثار لأتفه الأسباب (كما سبق القول)، كما أن الشخص لا يكف عن المعارك الكلامية بمناسبة وبدون مناسبة، وقد يصل به الأمر إلى إهانة الآخرين في نوبات غضبه، علاوة على أنه يلصق الاتهامات بهم فهو دائمًا ما يعلق أخطاءه على شماعة الغير ولا يعترف بخطئه، وقد نجده في أحيان كثيرة يسبب الأذى لأقرب الناس له كزوجته أو والديه، حيث لا يمكنه السيطرة على انفعالاته فيلجأ إلى الضرب والتكسير.
– التعلق المرضي والخوف من الترك والهجر:
من أهم أعراض هذا الاضطراب إحساس الشخص بالخوف الشديد والهلع من ترك الآخرين له، لذلك فهو يتصف بالتعلق المبالغ فيه بالمحيطين به سواء من أهله أو أصدقائه، لذلك فهو حريص على أن يقترب جدًا من الناس لدرجة أنه في أحيان كثيرة يتنازل عن بعض القيم أو ممتلكاته الشخصية، ولعل ذلك ما يفسر لنا كرمه الزائد وعطاءه المستمر لهم لضمان اقترابهم منه.
إن نوبات الغضب العنيفة مرتبطة بإحساسه بالتهديد والوحدة والترك، فكلما شعر بأن هناك تهديدًا بالهجر والفقدان ازدادت حدة العنف والغضب لديه.
– عدم الاتزان العاطفي والتقلب المزاجي:
من أهم خصائص الشخصية الحدية التقلب المزاجي كما سبق القول، فهو يحب بشدة بحيث يغمر الطرف الآخر بالاهتمام والرعاية والحب المبالغ فيه، ولكن إذا انقلب عليه يكرهه بشدة، فنجده ينهال عليه بالشتائم والافتراءات ويكيل له الاتهامات الباطلة، كما يشعر في أوقات ما بالفرح والابتهاج، وفي أوقات أخرى يصاب بالحزن والإحباط والكآبة.
– اضطرابات في العلاقات:
إن تأرجح المشاعر ونوبات الغضب المتكررة والتطرف في علاقاته بالآخرين قد يودي به إلى فقدانه للصداقات وخسارته للأقارب، وذلك بسبب عدم تحمل الآخرين تقلباته المزاجية، وفي أحيان كثيرة يفقد عمله.
كما أن أكثر من يعانوا من اضطراب سلوكه هم أسرته، لذلك ففي أغلب الأحيان يبتعدون عنه أو يتجنبونه مما قد يؤدي في النهاية إلى تشوه صورته عن نفسه، فهو يشعر دائمًا بأنه مكروه وأنه لا أحد يحبه، لذلك فهو يفقد الثقة بنفسه بل في أوقات كثيرة يشعر بفقدانه لهويته، وقد يدفعه هذا الشعور إلى التفكير في الانتحار.
أسباب الاضطراب:
اختلفت أسباب اضطراب الشخصية الحدية، إلا أنه يمكن اختصارها في ثلاثة عوامل:
– الوراثة: حيث ثبت أن العنصر الوراثي يلعب دورًا لا بأس به في ظهور هذا الاضطراب، إذ وُجِدَ أنه يزيد أضعافًا لدى الأفراد الذين يعاني ذووهم من نفس الاضطراب، رغم أنه لم يثبت علميًا وجود العامل الجيني الذي يبين وجود هذا الاضطراب في العائلة المصابة.
– البيئة والتنشئة الاجتماعية: لقد ثبت بالدراسات العلمية أن الأشخاص المضطربين قد عانوا في طفولتهم من مشاكل متعددة أثناء تنشئتهم، وذلك مثل انفصال الوالدين أو الطلاق أو الصراعات العائلية والعلاقات الأسرية غير المستقرة بالإضافة لسوء المعاملة مثل العنف المستمر أو الهجر العاطفي وفقدان الحب والتعرض للنبذ والإهمال والرفض والترك، سواء الجسدي أو المعنوي، أو الإساءة الجنسية. إن هذه الأجزاء بمثابة أرض خصبة لظهور مثل هذه مثل هذه الأعراض المضطربة. كما وُجِدَ أنه إذا تعلق الطفل بوالديه وفجأة تعرض للترك والانفصال فقد يترك هذا لديه ألمًا نفسيًا سيئًا وهو ما يُعرف بصدمة الانفصال والتي تظل تؤثر فيه طوال حياته، ويصبح هذا الترك بمثابة المحرك والدافع لسلوكه العدواني والعنيف في علاقاته بالآخرين، وذلك خوفًا من الفقدان والهجر مرة أخرى.
اضطراب في وظائف المخ والقشرة المخية: حيث ظهر بالفحص الإكلينيكي لدى هؤلاء المضطربين وجود تغييرات في حجم المخ وخلل كيميائي، وخاصةً في مادة الدوبامين.
العلاج:
قد تكون هناك صعوبة في الشفاء من هذا الاضطراب حيث يتوقف الشفاء على مدى تجاوب الشخص مع وسائل العلاج المختلفة، إذ أنه في الأغلب لا يعترف بمعاناته أو صراعه مع المرض وأنه في حاجة إلى المساعدة. لذلك تقوم الحكومة الأمريكية بحملة توعية للشعب الأمريكي في شهر مايو في كل عام لحثهم على سرعة العلاج، ويتضمن العلاج التالي:
العلاج المعرفي والسلوكي:
والذي يعمل على التغيير الجذري لأفكار الشخص السلبية عن نفسه واستبدالها بأفكار إيجابية حتى يمكنه تغيير صورته عن نفسه والتصالح معها، وهو ما يؤثر على مشاعره التي تحرك سلوكه فيقلل من ردود أفعاله التي تتضمن العدوانية والغضب المبالغ فيه، بالإضافة لمساعدته على التحكم في سلوكه الاندفاعي نحو الآخرين حتى يكتسب عادات جديدة صحية تساعده على التوافق مع الآخرين، وبالتالي يفتح المجال أمام الآخرين للتعامل الجيد معه، مما يؤدي إلى استعادة ثقته بنفسه.
العلاج الدوائي:
في بعض الحالات، يحتاج الشخص إلى العلاج الدوائي، وذلك لتخفيف شدة الأعراض وتهدئة نوبات الغضب. وإذا صاحبت هذا الاضطراب أعراض أخرى مثل القلق والاكتئاب تُعطى له أدوية محفزة لتحسين الحالة المزاحية.
العلاج التربوي:
على المؤسسات التربوية والدينية توعية الأهل بطرق التربية السليمة للأطفال، وذلك بنشر أجواء الحب والاهتمام والرعاية في الأسرة والابتعاد عن الخلافات الزوجية وسوء المعاملة مثل القسوة والضرب والإهمال والجفاء العاطفي.
وأخيرًا فإنه من المهم بمكان أن يدرك المريض بأنه شخص محبوب ومرغوب ومقبول لدى الإله الذي أحبه وبذل نفسه من أجله، وأنه شخص متميز ومتفرد وقد دُفع فيه ثمن غال وهو دم يسوع المسيح، وأن هويته الأصلية مستمدة من الله الذي أبدعه ورسمه على صورته الكاملة وجعله شريكًا لطبيعته الإلهية. إن هذا الإدراك يأتي باستعلان أبوة الله له، وذلك من خلال العلاقة الحميمة معه والجلوس عند قدميه كي يستقبل منه الحب الحقيقي والأمان العجيب والسلام الذي يفوق كل عقل.