القس منيس مدرسة تُدْرَس وتُدَرَّس

15

العدد 121 الصادر في أكتوبر 2015
القس منيس مدرسة تُدْرَس وتُدَرَّس

في البداية أود أن أوجه التعازي للسيدة الفاضلة نادية منيس وكل أفراد العائلة باسمي وباسم أسرتي، ونيابة عن مجلس إدارة ومجلس تحرير جريدة الطريق والحق وكل العاملين بها واسم هيئة اتحاد الشباب المسيحي والخادمين بها، وهيئة “رجاء للمضطهدين “Hope For The Persecuted” وفروعها في مصر وأمريكا وباسم كنيسة الحصاد الأخير في سان دييجو كاليفورنيا، فمع المسيح، كما يعلمنا الكتاب المقدس، ذاك أفضل جدًا وإلى لقاء سريع، معه ومع الذين سبقونا قبله، ولم يكملوا بدوننا، في البيت الأبدي غير المصنوع بيد، الذي أعده الرب الديان العادل لكل الذين قبلوا المسيح مخلصًا شخصيًا لحياتهم. أما بعد، فلقد كانت تربطنا بالراحل الكريم، زوجتى وأنا، علاقة محبة واحترام وتقدير لشخصه الكريم وخاصة إن علاقته بأسرة زوجتي الدكتورة أماني مكرم أمين الغزاوى كانت تمتد إلى بداية خدمته بكنيسة الزقازيق الإنجيلية والتى كان المنتقل إلى السماء الجد أمين قرياقص الغزاوي، وهو جد زوجتى لأبيها، أحد مؤسسيها وشيخًا لها وتولى رعايتها القس منيس عبد النور من سنة 1965 وحتى سنة1976، ولقد كان لنا الحظوة والشرف أن يكون هو الرجل الذي قدم كلمة الحفل ونصائحه الغالية القيمة في احتفال زواجنا بكنيسة قصر الدوبارة، وكان بيننا الكثير من العلاقات والمواقف والمناسبات واللقاءات والخدمات التى جمعتنا معًا مرات عديدة، سواء في مصر أيام إقامتى وخدمتي بها أو في أمريكا في العديد من زياراته لكاليفورنيا، والتى كانت سبب بركة وتعليم ونمو في حياتنا الروحية. ولذا، فمن الصعب عليّ أن أتجرد من كل هذا وأخوض في حياة راحلنا الكريم كمدرسة تُدْرَس وتُدَرَّس، فمنيس عبد النور أكبر من أن يمتلكه أحد، أو أن تحجمه علاقة أسرية، أو دينية أو طائفية أو وطنية أو مكانية، فهو اليوم ملك لنا جميعنا بعد أن صار معاينًا للسيد المسيح وجهًا لوجه. فتاريخه وخدمته وانجازاته وكتاباته وتعاليمه وطرقه في التعامل مع خلق الله اليهود والمسيحيين والمسلمين ممن هم مشابهين له ومعجبين به أو المخالفين له في المذهب أو الطائفة أو الدين كلها، قد أصبحت بعد رحيله مدرسة تُدْرَس وتُدَرَّس.

 

وكدارس ومحلل لحياة القس منيس أرى فيه:

١- أن ثقته في نفسه، النابعة من ثقته فيمن هو إلهه، كانت هي سبب في أن يسعى نحو الغرض وأن ينسى دائمًا ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام ولذا لم يكن يهمه في قليل أو كثير المناصب أو الكراسى التى كان يستحق بجدارة أن يتصدرها أو يجلس عليها، فلم نسمعه يومًا يرشح نفسه لرئاسة الطائفة الإنجيلية، حتى بعد أن أصبح قسًا لقصر الدوبارة كبرى الكنائس الإنجيلية بالشرق الأوسط.

 

عندما سألته مرة، وقد رأيت غيرته على نمو العمل المسيحي الإنجيلي في مصر، ومحبة خدام العديد من الطوائف المسيحية له وتقديرهم لشخصه، سألته، لماذا يا جناب القسيس لا ترشح نفسك رئيسًا للطائفة الإنجيلية؟، ابتسم ابتسامته المعهودة وقال في جملة واحدة: “معنديش وقت” وكانت طريقته حاسمة وأعتقد أنه قصد أن يأمرني أن لا أسترسل في الكلام عن هذا الموضوع، ولم نسمعه يومًا يزج بنفسه في ترشيحات وانتخابات ومناصب بأي شكل من الأشكال، بل كثيرًا ما كان يتعجب ويعبر عن استيائه لطريقة المرشحين للمناصب الكنسية وطريقة دعايتهم الانتخابية واستقطابهم لأعضاء المجالس الكنسية والمجمعية وخاصة عندما كان يتهم أحدهم الجماعة المنوط بها اختيار مرشح ما لتسلمه رئاسة الطائفة أو المجامع أو السنودس بالتزوير وشراء الأصوات وتفضيل ذوي القرابة والنسب أو الأغنياء سواء لعراقة عائلاتهم أو لتوليهم مناصب سيادية في هيئات أومؤسسات تتاجر في الملايين من الدولارات، المتبرع بها من الأجانب، لذا، فإن تركيز منيس عبد النور على رؤيته وخدمته وما دعاه الله لإنجازه، إنما مدرسة تُدْرَس وتُدَرَّس.

 

2- لقد دعى الله، سبحانه، صاحب الأمر والنهي من يعرف النهاية من البداية القس منيس عبد النور ليكون خادمًا له مع أن دراسته واهتمامه، كما قال هو، كان مراده الشخصي فيها هو أن يكون كيميائيًا، ولم تتوقف حياته عند كونه خادمًا قسًا خطيبًا مفوهًا بل تعدتها إلى نواح أخرى من نواح الخدمة ولعل أهم جزء من وجهة نظرى الخاصة كان هو ذلك الجزء من خدمته، الذي كثيرًا ما سبب له المشاكل والأخطار الجسام على كل المستويات، مع الجماعات المتطرفة، مع الكُتَّاب والصحفيين، مع مباحث الأمن في مصر في عهد السادات ومبارك وفي غيرها من بلاد هذه البسيطة، فهو لم يكن يُعَلِّم فقط كيف يكون احتمال  المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح بل كان يعمل أيضًا ما يثبت أنه قد تعلم الدرس عمليًا قبل أن يعلمه للآخرين.

 

ولولا حساسية الكلام في مثل هذه الموضوعات، وحيث إننى لا أمتلك تصريحًا منه قبل وفاته أو من عائلته لذكر بعضها لعددت الكثير من المواقف التى رأيتها بأم عيني والتي تصرف فيها هذا الرجل كجندي صالح ليسوع المسيح، وللحقيقة المجردة، أقول إن للقس منيس الفضل في إيقاظ الكثير من الكنائس الأمريكية الإنجيلية على اختلاف مذاهبها من غفلتهم وعدم فهمهم لطبيعة الاضطهاد الذي كان ولا يزال يعاني منه المسيحيون المؤمنون المصريون حتى يومنا هذا، فلقد كان أول من تكلم عن هذا الأمر بوضوح وعلانية في الحديث الذي أجرته كاتبة صحفية معه ونشر له بمجلة الكارزما المسيحية الأمريكية عن حالة الاضطهاد ضد المسيحيين في مصر، وكعادته في عمق أفكاره وكلماته وبساطتها قال لها: “إن الحكومة قد صادرت جواز سفره لعدة سنوات وقال أنا مجهز شنطتي وحاططها وراء الباب لأي وقت يأتوا (ويقصد مباحث الأمن) يخدوني على المعتقل”، وبعد نشر هذه المقالة، اتصل بي في أمريكا بعض من أكثر الناس شهرة ومكانة في قيادة الكنيسة في أمريكا يسألونني عن ما جاء بحديث الكاريزما وكيف يمكنهم الاتصال به، ومنهم من اعتذر لي وقال إنه لم يكن يعلم أن المصريين المسيحيين مضطهدون بهذه الكيفية وإلى هذه الدرجة.

 

في مكتبه بشقته الخاصة في الدور الثاني، كنا نجلس أمامه السيدة الفاضلة هدى إبراهيم السائح زوجة خادم الرب إبراهيم السائح، وكان حبيبنا إبراهيم في معتقل سجن طرة لأجل بشارة يسوع المسيح، دخلت إلى مكتبه وجدته يتحدث بالتليفون إلى شخص علمت بعدها أنه عضو بارز بالكونجرس الأمريكي، كان عضو الكونجرس هذا هو الذي اتصل بالقس منيس، ومع علمه أن تليفوناته مراقبة من قبل مباحث أمن الدولة سمعته يقول له: “إبراهيم السائح لم يخرج من المعتقل، إبراهيم السائح برئ من كل التهم التى لفقوها له لحبسه، هو محبوس لأجل خدمته ليسوع المسيح وإبراهيم السائح لسه محبوس”، علمنا بعدها أن عضو الكونجرس كان يقول له اتصلت بمبارك وقال لي إن إبراهيم السائح خرج، أجابه القس منيس هذا كذب، مش لو خرج امرأته هتعرف؟ قال له محدثه بالطبع، قال له خذ كلم مراته هي قاعدة قدامي اسألها إن كان إبراهيم طلع ولا لسه. لقد كان منيس عبد النور يعلم أنه يلعب ضد تيار الكبار، لكنه كان شجاعًا. روى لي ذات مرة أنه كان مسافرًا لتدريس مادة مقارنة الأديان في أحد المعاهد المشهورة في الخارج، وفي طريق مغادرته لمطار القاهرة أوقفه رجال الأمن، واصطحبه أحدهم إلى غرفة خاصة ومعه حقيبته المسافر بها، قام ضابط الأمن بالمطار بتفتيشه تفتيشًا ذاتيًا دقيقًا، ثم بدأ بتفتيش حقيبته بكل تدقيق ولمدة ساعتين حتى غادرت الطائرة التى كان من المقرر له أن يسافر عليها وهو مازال في غرفة التفتيش، قال لي القس منيس بعد ساعتين تقريبًا وعندما تعب الضابط من التفتيش سألته: “هو سيادتك بتدور على إيه بالضبط، ليه ما قلت لي من الأول إيه اللي بتدور عليه وأنا كنت دليتك عليه لو موجود؟!، وقبل أن ينطق الضابط ببنت شفة، قال له القس منيس مشيرًا بأصبعه إلى مخه داخل رأسه وقال له، على فكرة اللي سيادتك بتدور عليه هنا مش في ورق مكتوب بحبر”، قال لي القس منيس إن ما كان يبحث عنه ضابط المباحث هو منهج مقارنة الأديان الذى كان سيقوم بتدريسه في ذلك المعهد الشهير للطلبة من أنحاء العالم. لقد درس القس منيس منهجه في مقارنة الأديان ليس خارج مصر فقط بل في داخلها أيضًا وفي وضح النهار.

 

3- لقد ضرب الراحل منيس عبد النور أطيب الأمثلة في المعاملة والاهتمام القلبي بالشباب من كل الطوائف المسيحية، ويبدو أن مكان مقابلته مع المسيح واتخاذه مخلصًا شخصيًا له في جمعية خلاص نفوس أسيوط، جعله يخرج طيلة حياته من صندوق الطائفية والمركزية المشيخية إلى أرض الشباب في كل مكان.

 

أتذكر في وقت الإعداد لمؤتمر من مؤتمرات خدام اتحاد الشباب المسيحي والذي كنا مزمعين أن نعقده في بيت إيل للمؤتمرات بقليوب، أنني كنت في قصر الدوبارة لإجراء بعض اللقاءات مع بعض الخدام، نظرت إلى شقة القسيس منيس وقلت في نفسى: “آه لو هناك إمكانية في أن يأتي القسيس منيس إلى مؤتمرنا ويقدم لنا خدمة بعنوان “دروس من حياة خادم” ثم أجبت نفسى هو أنا بحلم ولا إيه، المؤتمر الإسبوع القادم، والقس منيس لازم تحجز الميعاد معاه قبلها بشهور، ثم المؤتمر في قليوب، فكيف أطلب منه أن يعطينا نصف يوم من وقته ويسوق إلى قليوب!، ثم القسيس منيس يعرفنى صحيح جيدًا، لكنه لا يعرف مجموعة الخدام المؤتمرين في قليوب، تزاحمت في رأسى الأسباب التى كنت أظنها ستمنعه من التواجد في مؤتمرنا، غير المشيخي، في قليوب مع مجموعة غير معروفة، وأخيرًا أدرت ظهرى لباب شقة القسيس وهممت في الذهاب بعيدًا، لكنى سمعت باب شقته يفتح، وطل هو من الباب، والحقيقة لست أعلم هل كان ينظر لي واقفًا أمام باب شقته من خلال ما يعرف بالعين السحرية في الباب، أم أنه كان خارجًا بالصدفة البحتة، فوجدني، أم أنه كان ترتيب السماء لأكتشف عمقًا جديدًا في هذا الرجل، المهم أنه ناداني وقال لي، تعال يا ناجي، كيف ابنتنا أماني زوجتك؟، قلت له، بتسلم على حضرتك، فسألنى،أنت كنت عاوز حاجة لأني لا حظت أنك كنت واقفًا قدام الباب، قلت له، الحقيقة كان عندي طلب من حضرتك، لكنى اكتشفت أنه مش هينفع، ابتسم وقال لي: “”إيه طلبك؟، يمكن ينفع يا أخى” قلت له أنا عندي مؤتمر الإسبوع القادم لقادة شباب من مختلف الطوائف في بيت إيل بقليوب وكنت بسأل نفسى إن كان ممكن حضرتك تيجى تكلمنا فيه، لكن أنا عارف مشغولياتك وارتباطاتك وأن مشوار قليوب بعيد عليك، فصرفت نظر عن هذا الطلب، قال لي بطريقته الجذابة، وليه تصرف نظر، مش تسألنى الأول وأنا اللي أقول لك تصرف نظر أو لا؟!، ثم قال، لا، لا تصرف نظر أنا سأجئ إلى مؤتمرك وسأخدم الشباب، لم أصدق أذني، قلت، أنا هاجي يا حضرة القسيس وهاخدك للمؤتمر وهرجعك بعد الخدمة، كفاية أنك قبلت دون ترتيب مسبق أن تأتي للمؤتمر وأنا لا أريد أن أتعبك، ضحك وقال لا، أنا لسه شباب مثلكم وعندي الخنفسة بتاعتي، وكان يقصد عربته في ذلك الوقت، وأصر على أن لا آتي وأصطحبه، وقد كان جاء إلى المؤتمر وكان حضور الروح القدس فائقًا للعادة.

 

4- أما عن اهتمامه بالخدام من كل الطوائف والخلفيات وخاصة العابرين يفوق إدراك الوصف، ففي إحدى المناسبات كانت إحدى الهيئات قد دعته لسلسلة من الخدمات مع خدام كاليفورنيا وبعض العابرين بها، ونتيجة لتسرع هذه الخدمة في حجز مؤتمر لها في كاليفورنيا دون الترتيب المسبق مع الخدام والقسوس بها ولأمور كثيرة متعلقة بعلاقة الخدام بهذه الهيئة قررت الغالبية العظمى من الخدام مقاطعة هذه الجماعة ومؤتمرها.

 

وقمنا كقسوس وخدام بمخاطبة هذه الهيئة بخطاب رسمي رجوناهم فيها تأجيل المؤتمر إلى وقت لاحق حتى يمكننا ترتيب بيتنا من الداخل أولاً ثم نقوم بدعوة رجل محترم كالقسيس منيس ليكلمنا ويعلمنا في المؤتمر، لكننا، فوجئنا بالأخ قائد هذه الهيئة يرسل لنا ردًا على خطابنا يقول: “المؤتمر هيتعمل هيتعمل رضيتم أم أبيتم، والقسيس منيس هييجى ومن لا يريد أن يحضر المؤتمر منكم لا يحضر، والمؤتمر لن يؤجل” كان موقف هذا القائد غريبًا في فرضه المؤتمر علينا في كاليفورنيا وهو الذي يعيش في مصر ويقنع العالم كله أن لديه مجموعات في معظم الدول العربية والأجنبية وفي كاليفورنيا أيضًا. والحقيقة أننا لم نفهم موقف القسيس منيس من كل هذا، ولم يفكر أحدنا أن يتصل به ويشرح له ما يحدث، وأننا لسنا على استعداد لاستقباله لأسباب لا علاقة له بها هو شخصيًا بل لعلاقتها بالهيئة المنظمة للمؤتمر، المهم قررنا كخدام في جنوب كاليفورنيا أن نقاطع المؤتمر الذي كان مفروضًا علينا، وتخيلنا أن القسيس منيس لن يأتى إلى كاليفورنيا بسبب مقاطعتنا المؤتمر، لكننا فوجئنا به قد حضر وأن المؤتمر قد بدأ، وأصبحت أنا بين نارين، نار أن لا أذهب إلى المؤتمر الذى كان مكانه يبعد أقل من أربع دقائق من بيتى وبالتالي، فلن أرى القسيس منيس وشعرت بالخجل والضيق والغضب من قائد المؤتمر الذى فرض علينا هذا الوضع بالقوة، وبين أن أذهب إلى المؤتمر وعندها سيعلم بقية الخدام  الذين اشتركنا جميعًا في اتخاذ القرار لمقاطعة المؤتمر، فيعتبروننى خائنًا للأمانة وللقرارات التى اتخذت بشأن مقاطعة المؤتمر، وتجلدت ولم أذهب إلى المؤتمر في اليوم الأول، وكنت أتمنى بداخلى أن أقابل راحلنا، كان الأخ المرنم منير حبيب هو قائد التسبيح في المؤتمر، وكان مبيته عندي في بيتى كل ليلة، وعندما جاء منير إلى بيتى في نهاية أول يوم، سألته، كم عدد الحضور في المؤتمر قال لي، عشرة أفراد، منهم 2 قسوس ، 3عابرين، و5 من الإخوة غير المدعوين للمؤتمر والذين جاءوا مع أحد القسوس وهو صديق للقائد منظم المؤتمر، قال لي منير حبيب، ناجي، القسيس منيس لا يعرف شيئًا عن ما حدث بينكم كقسوس وقائد المؤتمر، وهو في تعجب واندهاش لمقاطعة الخدام للمؤتمر، وكان يتكلم معي اليوم عن هذا الأمر وقال لي، حتى ابنى ناجي اللى بيسكن على بعد 4 دقائق من هذا المكان لم يأتِ لمقابلتى، ثم استطرد المرنم العزيز منير حبيب، ناجي، فكر في موقفك، لأنه عيب أن لا تذهب وتقابل القس منيس فهو يقول عنك إنك ابنه وأماني امرأتك ابنته، عندها قررت أن أذهب إلى المؤتمر لأتقابل معه، مهما كلفنى الأمر، كان لقاؤنا مرحًا كعادة القسيس منيس، طلبت منه أن يشرفنى بزيارة بيتي والإستوديو الذي كنت أسجل فيه برامجي الإذاعية، لبى على الفور، تناولنا معًا طعام الغداء، رويت له القصة كاملة، قال لي بالحرف الواحد، خدعنى منظم هذا المؤتمر، لقد قال لي، إن خدام كاليفورنيا جميعًا في انتظارك، إلى جانب عدد كبير من العابرين، صدقنى يا ناجي لو تعرف كم المواعيد والمسؤليات التى كان على أن أقوم بها في هذا الإسبوع الذي جئت فيه إلى هنا والذي اضطررت أن أتركه ورائي في مصر والذي ينتظر عودتي لعلمت كم أنا أحب الخدام، قال لي ناجي، أنا ضعيف أمام احتياجات الخدام، فمهما كان عندي لأعمله، فأنا على استعداد تام لتركه للتواجد مع الخدام وخدمتهم. لقد جاء القس منيس إلى كاليفورنيا، أمريكا لمدة خمسة أيام فقط ورجع مباشرة إلى القاهرة وصرف أكثر من 50 ساعة في الطائرة والمطارات لكي يخدم القسوس والخدام العرب هناك، نعم “القس منيس مدرسة تُدْرَس وتُدَرَّس” في علاقته بالخدام زملائه.

 

5- القس منيس مدرسة تُدْرَس وتُدَرَّس في إدارته لكنيسة قصر الدوبارة، والحقيقة إن الدراسة لا بد أن تدرس من كل جوانبها ما يراه فيها الدارسون من حسنات ونقاط قوة أو سيئات ونقاط ضعف.

لكن الواقع يقول إنه بعد أن كانت قصر الدوبارة كنيسة لا يتعدى تعداد أعضائها ثلاثة مئة عضو مسجلاً في كشوفها أصبحت بالآلاف، وبعد أن كان اجتماع قصر الدوبارة  المسائي يعقد في قاعة إبراهيم سعيد بالطابق الثاني ولا يحضره أكثر من عشرين فردًا، أصبح اجتماع الأحد مساءً هو الاجتماع الذي يؤم إليه الخلق من كل صوب وفج، وبعد أن كانت قصر الدوبارة كنيسة لا يدخلها إلا فئة قليلة من الناس ويرتدي معظمهم البدلة ورباط العنق،أصبح الجنز هو الغالب على معظم شبابها وشباتها، وهذه ظاهرة لم تحدث في غيرها من الكنائس بل كانت هذه الظاهرة سببًا في إفراغ كثير من الكنائس الأخرى من معظم أعضائها وتمرد هؤلاء الأعضاء على قادتهم وقسوسهم وكفر بعض مترددي الكنائس الأخرى بكل ما هو روحي قديم من ترانيم وخدام وخدمة وخدمات وعظات وكنائس، ولا بد أن أقرر هنا أنه لا دخل لي من قريب أو بعيد بهذه الظاهرة أو بكنيسة قصر الدوبارة بأي شكل من الأشكال ولست بمعترض أو موافق على ما يحدث بها فقادتها وشعبها هم أصحاب القرار، لكنى أدرس ظاهرة شفط أعضاء الكنائس الأخرى من قبل اجتماعات قصر الدوبارة ودور راحلنا العزيز في كل هذا. في زيارته لكاليفورنيا والتى تحدثت عنها سابقًا سألت القس منيس عن تفسيره لهذه الظاهرة وكانت اجتماعات قصر الدوبارة لم تصل حتى لنصف ما هى عليه الآن من الازدحام، سألته، ما تفسيرك لما يحدث في كنيستك؟، هل هي نهضة روحية حقيقة؟، فلو كانت هكذا لكان خدام الكنائس الأخرى الذين هجروا كنائسهم امتلأوا من الروح القدس وعادوا إلى كنائسهم كما حدث مع التلاميذ في يوم الخمسين؟، أم أن هناك ما يجذب الشباب إلى اجتماعاتكم ولا يجدونه في كنائسهم؟، أجابنى القسيس منيس إجابته المعهودة عندما كان يسأله أحدهم نفس السؤال، قال لي: “ناجي الطير أو الحمام بيدور على المكان اللي فيه الغلة ويجتمع إليه”، لم ترق لي هذه الإجابة فقلت: “يعنى حضرتك عايز تقول لي إن الغلة موجودة عندكم أنتم بس علشان كده الناس تركت كنايسها وجاءت إليكم، ألا ترى معي أن الحمام الذي جاء لكم ليس ملككم بل هناك من تعبوا في تربيته وتقويته حتى أصبح حمامًا حرًا طليقًا يستطيع أن يطير مكان ما يريد، وهل يحق لصاحب المكان الذي فيه الغلة أن يحتفظ بالحمام المسكين الذي شده بريق الغلة وربما جوعه الشخصى إليها. ثم إذا كانت نظرية الحمام يأتي إلى المكان الذي فيه الغلة، وأنتم المكان الذي فيه الغلة، فلماذا ترك معظم قادة اجتماعاتكم القدامى الكنيسة ومنهم من كان من عائلات روحية عميقة وكبيرة ومن كان أجدادهم قسوس ورؤساء للطائفة ومازال آباؤهم من أعظم خدام كنائسنا الإنجيلية؟، هل عملت كإبراهيم الذي أعطى أولاده عطايا وصرفهم عن إسحق حتى يبقى إسحق وحده فيرث المواعيد ولا يزاحمه أحد من إخوته، فيصبح هو الحاكم بأمره في الكنيسة يقودها حيث يشاء دون كبير أو رقيب أو من يقول له لا يحل لك”.

 

ثم رويت له قصتى أنا أيضًا الشهيرة في تأثير كنيسته على بعض الشباب الفقير المسكين، قلت له، كنت في إحدى زياراتي للقاهرة أزور قصر الدوبارة، قابلنى أحد الشباب وكان عمره يومئذ 22 سنة، كان يلبس بنطلون جينز ويضع يديه في جيوبه ولا يستطيع أن يوقف قدميه عن الحركة المستمرة والتى يشتهر بها أولاد الأكابر في كل مكان، كان يتكلم معي وكأنه واحد من علية القوم، رأني فحياني تحية حارة وكأنه يعرفنى من زمان، كان وجهه ليس بغريب على، حاولت أن أتذكر من هو دون سؤاله، لكننى فشلت، فقلت له، أنت بتحضر كنيسة إيه؟، قال لي قصر الدوبارة، دي كنيستي من زمان، تجاذبنا أطراف الحديث، قلت له، قبل قصر الدوبارة كنت بتحضر فين؟، قال لى، أنا من زمان وأنا بحضر قصر الدوبارة، سألته، زمان ده يعنى كم سنة تقريبًا؟، قال لي 4 سنوات، قلت، إيه هى الكنيسة اللى كنت بتحضرها قبل قصر الدوبارة وقبل أربع سنين؟، استمات الشاب في عدم ذكر الكنيسة التى كان يحضرها قبل قصر الدوبارة، كان لا يزال يتكلم معي عن خدمتى قبل سفرى وكيف أثرت فيه، وفجأة افتكرته، قلت له، آه إيه أخبارك، أنا افتكرتك، أنت كنت تحضر كنيسة إمبابة الرسولية صح، وضع عينيه في الأرض وكأني فجرت في داخله بركان حزن وغضب، قلت له وحشتنى كنيسة إمبابة، أنا لي أصدقاء كثيرون فيها من قسيسها لشيوخها وشبابها، ومعظمهم شرفنى وحضر فرحى هنا في قصر الدوبارة، أنا كنت بأفرح وأتعزى كتير لما كنت أذهب للخدمة هناك، عبثاً حاولت أن أؤكد له أنه لا فرق بين إمبابة الرسولية وقصر الدوبارة الإنجيلية، الكل أعضاء في جسد المسيح، استأذن ومضى حزينًا ومضيت أنا أيضًا حزينًا، فكم من الشباب يمكن أن يكون في حالته، يحضر اجتماعات خارج نطاق كنيسته، أو خارج نطاق مستواه الإجتماعي أو الثقافي أو البيئي، يحاول أن يخفى معالم وضعه المادي والعلمى والثقافي بحضور كنيسة مشهورة، يعيش للحظات أو ساعات منسلخًا عن جماعته ومستواه ليعود مرة ثانية للشوارع المكسرة، ومداخل البيوت المليئة بمياه المجارى حيث إن معظم بيوت إمبابة في ذلك الوقت لم تكن قد وصلتها مواسير الصرف الصحي، فكانت عربات نزح المياه العفنة هي الوسيلة لإفراغ محتوى المياه القذرة، وينام على سرير يشاركه فيه أخواه، وتستعمل أمه الوابور الجاز في طهى الطعام وهو مغيب منفصل عن واقعه ويحلم بالجميلة التى رآها في اجتماع الشباب أو الشباب الناشئ وفي كنيسة غير كنيسته فحسبها من حور العين وبات يحلم بها وظن أن أباها سيرحب به زوج لها، فنحن جميعًا في رأيه أولاد آدم وحواء ونحن مؤمنون بالمسيح فيطير النوم من عينيه حتى طلوع الفجر لينام دقائق معدودات ويستيقظ في الصباح ليعود الحال على ما هو عليه ليتكرر مع كل اجتماع للشباب وليس من ينتبه له ولا يرجعه إلى عقله وكنيسته، لأن كنيسته ليس بها غلة.

 

6- لا بد من دراسة حياة وسياسات وأفكار وطرق منيس عبد النور وتحليلها وتطبيقها أو رفضها كل حسب قناعاته الروحية والفكرية، لقد حاول بعض القسوس ورعاة بعض الكنائس أن يطبقوا طريقة القسيس منيس في التعامل في كنيسته.

فظنوا أن الشهرة التى جنتها قصر الدوبارة والعدد المتزايد كانت بسبب أنها سمحت في اجتماعاتها بحضور الفقراء حتى أولئك الذين يرتدون العمة والجلباب، فحاولوا قبول الفقراء في اجتماعاتهم، وظن البعض أن الطفرة حدثت بقصر الدوبارة، لأنها سمحت  بالتصفيق أثناء الترنيم، ومع أن هؤلاء الرعاة يكرهون التصفيق بكل أشكاله وفي كل أوقاته إلا إنهم جربوا هذه الطريقة أيضًا لعلهم يجذبون الشباب لاجتماعاتهم أو على الأقل يحتفظون بأعضائهم في جو مشابه لجو قصر الدوبارة لئلا يتركوا الكنيسة، قام البعض بنشاطات مشابهة لما يحدث في قصر الدوبارة، ظهروا على الفضائيات لكنهم بدلاً من أن يزداد عددهم بالعشرات قل بالمئات، لذا فلا بد من دراسة الطفرة التى حدثت حتى يستفيد من تطبيقها الجميع.

 

7- أخيرًا أقول إن العملاق منيس عبد النور رحل دون أن يقول لنا صراحة وبصوته الرخيم في كلمات واضحة هل كان موافقًا على طلاق الرجل والمرأة عند استحالة العشرة بينهما حتى لو لم تكن هناك علة زنًا؟،

 

هل كان حقًا يرسل بعض الحالات الراغبة في الطلاق للحصول على شهادة بمخالفة الملة من أحد الخدام المتخصصين في ذلك والذي كان يركب السيارة المرسيدس التى لم أكن أنا كطبيب أسنان بقادر على مجرد التفكير في شراء مثلها، القس الذي أثبتت المحكمة تزويره لأختام جميع الطوائف والمجامع والكنائس، الذي خرب بيوتًا هذا عددها بشهاداته المزورة، والذي لا أدري إن كان قد خرج من السجن حتى الآن أم لا بسبب تزويره واستخدامه لأختام الكنائس والمجامع والطوائف على اختلافها، هل كان يوافق راحلنا الكريم على رسامة المرأة قسًا في الكنيسة الإنجيلية أم لا؟ وما هي الأدلة الكتابية التى يستند إليها؟، هل كان موافقًا على عمل مائدة الرحمن لإطعام المسلمين الصائمين في رمضان وعلى استخدامهم الكنيسة في الوضوء والصلاة على منبرها أم لا؟، هل هو موافق أن يترك الشباب كنائسهم ليعتمدوا في كنيسته ويصبحوا أعضاء مقيدين بكشوفها؟. تلك الأسئلة القليلة التى هى عينة من الكثير الذي لم يصرح بها راحلنا في حياته على الأرض ربما لحكمة خفيت عنا أو سمت فوق مستوى إدراكنا، لقد آثر أن يقف راحلنا في ظل القائد الشاب دون إبداء رأيه في كثير من الأمور، الأمر الذي فهمه الكثيرون أنه هروب منه حتى لا يكون سببًا في اتخاذ قرارات تؤذي خدمته ومكانته في أواخر أيامه، وفهمها البعض الآخر أنها تصريح برضائه على كل ما يحدث دون إقحام نفسه مباشرة في تفاصيلها، وفهمها البعض الآخر على أنه قبلها، لأنه كان مغلوبًا على أمره، فقد بلغ من العمر عتيًا ولم يعد بقادر أن يقف ضد التيار الشبابي أو أنه يحصد الآن نتيجة ما زرعه من سماحه بتولي الشباب قيادة الأمور ولبسهم لبدلة أوسع من حجمهم وإمكانياتهم فأخذوا يتخبطون في إقحام أنفسهم فيما لا يعرفون من تصريحات وآراء روحية كتلك التى تتعلق بظهور القديسين للناس بعد رحيلهم من هذه الأرض أو المتعلقة بإتحاد أو انفصال طبيعتي المسيح أو تحول الخمر والخبز إلى دم ولحم المسيح الحقيقي في فم المتعاطي لهما من عدمه أو اختبار معمودية الروح القدس إن كان اختبارًا منفصلاً لاحقًا باختبار التجديد أم أنهما اختبار واحد وغيرها الكثير من الأمور والقضايا التى لم تدفع الكنيسة إلى الأمام بل كانت سببًا في تعثر كثيرين وشكهم في الحقائق الكتابية التى سلمها لنا الأولون. ومها كانت الأسباب، وبالرغم من معرفتي الشخصية برأيه الشخصي في معظم هذه الأمور، تبقى الحقيقة إن هناك أمورًا كثيرة كنا نحتاج جميعًا أن نسمع تفسيرها وتحليلها ووجهة نظره فيها ونتعلمها من فم الراعي الراحل العزيز شخصيًا، تلك الأمور التى لا يمكن أن نأتمن غيره على نقلها عنه إلينا مهما كان صدقه وأمانته ومكانته أو صلته براحلنا إلا إنه كان ولا يزال وسيظل القس منيس مدرسة تُدْرَس وتُدَرَّس. وإلى لقاء قريب على سحاب المجد.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا