ملوك إسرائيل في العهد القديم(30)… (19) الملك مَنَحيمُ

8

الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر
نائب رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر

كان الملك مَنَحيمُ بنُ جادي ملكًا شريرًا، كان حاكمًا قويًا استطاع أن يثبت عرشه بيد من حديد، وملك لمدة عشر سنوات في السامرة… ملك في السنة التاسعة والثلاثين لعزريا (عزيا) ملك يهوذا أى حوالى سنة 744-735 ق.م

وكان الملك مَنَحيمُ ملكًا شرسًا وعنيفًا وقاسيًا، ارتكب جرائم وحشية وإرهابية بشعة بصورة فوق حد التصور

فهو الذي شق الحوامل فمكتوب في (2مل15: 16) “حينَئذٍ ضَرَبَ مَنَحيمُ تفصَحَ وكُلَّ ما بها وتُخومَها مِنْ تِرصَةَ، لأنَّهُمْ لم يَفتَحوا لهُ. ضَرَبَها وشَقَّ جميعَ حَوامِلِها”

لقد جاءت سيرة ومسيرة الملك مَنَحيمُ في كلمات محدودة وعبارات معدودة في (2مل15) ومع ذلك فهي حافلة بالعديد من الدروس الروحية، والمبادىء والقيم الإيمانية، أذكر منها:

أولاً: لا يصنع تاريخًا مَنْ لا يتعلم من التاريخ

تسطر ريشة الوحي المقدس عن الملك مَنَحيمُ “وعمل الشر في عيني الرب. لم يحد عن خطايا يربعام بن نباط الذي جعل إسرائيل يخطئ كل أيامه” (2مل15: 18).

يربعام استند على فهمه بدلاً من الاتكال على الحكمة الإلهية، فأقام أماكن للعبادة في إسرائيل وصنع عجلي ذهب… وضع واحدًا في بيت إيل والآخر في دان، بالرغم أن عددًا كبيرًا من الكهنة عارضوه باعتبار أن ذلك عبادة أوثان، وأسس يربعام أيضًا كهنوتًا جديدًا ليس لاويًا كهنوتًا باطلاً… هذه هي الخطية التي جعلت ملك إسرائيل يخطىء، ومن أسف انحرف الملك مَنَحيمُ في نفس التيار وسلك كما سلك يربعام بن نباط.

وفي عام 745 ق.م تولى عرش المُلك في أشور قائد حربي هو “بولو” ويشير إليه الكتاب المقدس (2مل15: 19) باسم فولَ وقد أطلق على نفسه “تغلث فلاسر” وملك من (745-727 ق.م) وقد كان مقاتلاً مغوارًا، أعاد تنظيم الجيش حتى أصبح لا يقاوم، وقاد أمته في فتوحات وغزوات ناجحة، ومن عهده اتبعت أشور طريقة أشد في التنكيل بالشعوب الخاضعة لها، وسلب أموالها وأقام ملوك عليها بمعرفته، مع تعمد ترحيل شعب الدولة الخاضعة، وتشريده إلى بلدان مختلفة، وإحلال شعوب أخرى محله.

وقد ساعدت هذه السياسية على كبح التمرد أو إيقافه، وقد طالب “تغلث فلاسر” في بداية ملكه من “مَنَحيمُ” ملك إسرائيل أن يدفع الجزية له وربما رفض، وفي عام 735ق.م “جاء فول ملك أشور على الأرض، فأعطى منحيم لفول ألف وزنة من الفضة لتكون يداه معه ليثبت المملكة في يده. ووضع منحيم الفضة على إسرائيل على جميع جبابرة البأس ليدفع لملك أشور خمسين شاقل فضة على كل رجل، فرجع ملك أشور ولم يقم هناك في الأرض” (2مل15: 19، 20).

لقد كانت سياسة أشور واضحة في معاملة الشعوب الخاضعة لها، إذ كانت تفرض على الدولة المهزومة الجزية دليلاً على خضوعها، وعلامة على أنها صارت تابعة لها، وأن أرضها ومالها وشعبها لم يعد ملكًا لها… وكان لملك أشور الحق في أن يطلب جيش هذه البلاد لتشارك في حروبه، وإذا شعر أن أي دولة تحاول التآمر ضده كان يغزوها ويؤدب ملكها بقسوة وعنف، وكانت سياستها أيضًا أن تأخذ أفضل رجال البلد التي تغزوها، وتسيطر عليها وتبدد شعبها، وتنقله إلى بلاد أخرى من المملكة، وتأتي بأناس من بلاد أخرى تسكنهم مكانهم حتى تضيع هوية البلد، ولا يستطيع شعب أي بلد أن يقوم بثورة أو مؤامرة ضد ملك أشور.

ثانيًا: الملك الذي جعل الفساد يتفشى في البلاد

الدارس المدقق لتاريخ مملكة إسرائيل (المملكة الشمالية) يرى بوضوح أنه منذ انقسام المملكة وحتى سقوطها سيجد أن كل ملوكها كانوا أشرارًا وقتله ومغتصبين كشعبهم وقد تنبأ هوشع وكذلك عاموس النبي عن إسرائيل، وكان يطلق عليها السامرة لأنها كانت العاصمة، وفي أحيان أخرى (أفرايم) لأن سبط أفرايم كان أكبر أسباط مملكة إسرائيل ومنه يربعام بن نباط أول ملوكها بعد انفصال المملكتين، وقد تنبأ هوشع بخراب إسرائيل بسبب الإنحلال الأخلاقي والديني والفساد بكل أشكاله وألوانه الذي ساد البلاد.

ومَنْ يدرس سفر هوشع سيجد كيف كان الشر والفساد قد استشرى في كل المملكة فيقول الرب عن شعب إسرائيل (سكان السامرة) في ذلك الوقت.

– في (هو4: 1-2) اسمعوا قول الرب يا بني إسرائيل؛ فإن للرب محاكمة مع سكان الأرض لأنه لا أمانة ولا إحسان ولا معرفة الله في الأرض… كل الموجود في السامرة هو لعن وكذب وقتل وسرقة وفسق.. ودماء تلحق دماء تشير إلى كثرة جرائم القتل.

– في (هو4: 4) “شعبك كمَنْ يخاصم كاهنًا”… أي توقف عن الذهاب إلى الهيكل وعن العبادة وعن تقديم الذبيحة.

– في (هو4: 12) “شَعبي يَسأل خشبهُ” فلقد كانوا يصنعون آلهه من الخشب ويعبدونها ويستشيرونها في أمورهم.

– في (هو4: 16) “قد جمح إسرائيل كبقرةٍ جامحةٍ” والبقرة الجامحة هي التي قطعت كل القيود، وتجاوزت كل الحدود، وتخطت كل السدود.

– في (هو4: 17) “أفرايمُ موثَقٌ بالأصنامِ”… أي مرتبط ومتعلق بها في ذلك الوقت كتب إشعياء يقول: “الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم” (إش1: 3).

– في (هو5: 3) “أنا أعرف أفرايم. وإسرائيل ليس مخفيًا عني. إنك الآن زنيت يا أفرايم. قد تنجس إسرائيل”. ويقصد بالزنى الروحي البعد عن الله، والزيغان بعيدًا عنه، وعدم الارتباط به وأيضًا الزنى الجسدي.

(انظر أيضًا هو7: 8-9؛ 8: 7؛ 10: 1)

نعم! لقد أرسل الله لهم مئات بل آلاف التحذيرات والنداءات للتوبة والرجوع دون جدوى… لكن باب محبة الله مفتوح على مصراعه ونعمته لا حدود لها… لا يرفض أي إنسان مهما كانت خطيته، فقط عليه بالرجوع فلقد كان الرب يرجو شعبه على لسان هوشع قائلاً: “هلم نرجع إلى الرب” (هو6: 1).

ولذلك لا عجب أن جاء اليوم الذى حصدت فيه السامرة ثمار مازرعت من شر وفساد.

ثالثًا: الله هو القاضي والديان العادل

“تُجازى السامرة لأنها قد تمردت على إلهها. بالسيف يسقطون. تحطم أطفالهم، والحوامل تشق” (هو13: 16). وقد جاء هذا النص في صيغة المبني للمجهول، بمعنى إذ لا يوجد أي أمر موجه لأي جهة محددة، أو أي شخص معين ليقوم بقتل الأطفال أو شق بطون الحوامل.

لقد كان هوشع النبي يتنبأ بما سيحدث للسامرة العاصية المتمردة على الرب كنتيجة طبيعية لشرهم وفسادهم وعدم رجوعهم للرب، فلابد أن تتحمل السامرة نتيجة خطيتها فهذه نبوه بما سيحدث للسامرة في المستقبل… إن هذا القضاء الإلهي الذي أخبر به الرب على لسان هوشع النبي يؤكد عدالته، فالقتل وسفك الدماء كان أحد ملامح مدينة السامرة لدرجة أننا نقرأ عن الملك مَنَحيمُ بنُ جادي… أنه دخل مدينة وشق حواملها فمكتوب: “حينئذ ضرب منحيم تفصح وكل ما بها وتخومها من ترصة، لأنهم لم يفتحوا له. ضربها وشق جميع حواملها”

(2مل15: 16).

فالسامرة قد شقت بطون حوامل مدينة تفصح وتخومها على يد ملكها الشرير مَنَحيمُ… لذلك كان الجزاء من جنس العمل فمكتوب “لا تضلوا! الله لا يُشمخ عليه. فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا” (غلا6: 7).

ولكن أرجو أن تلاحظ أن الرب لم يأمر أشور بشق بطون حواملها، ولكنهم فعلوا هذا بكامل حرية إرادتهم، وهذا ما شهدوا به من أنفسهم قائلين في (إش10: 13) “لأنه قال: “بقدرة يدي صنعت، وبحكمتي. لأني فهيم. ونقلت تخوم شعوب، ونهبت ذخائرهم، وحططت الملوك كبطل”.

لقد كانت أشور بمحض اختيارها وحريتها تريد أن تسبي الشعوب المجاورة لها، وتقوم بإذلالهم ونهب ممتلكاتهم، ولكن صاحب السلطان المطلق على كل الكون استخدمهم كقضيب غضب في يده، ثم بعد ذلك عاقبهم على شرورهم، لذلك نقرأ في (إش10: 5) “ويل لأشور قضيب غضبي، والعصا في يدهم هي سخطي”.

نعم! أليس حكمًا عادلاً من القاضى العادل أن يخبر هوشع بأن هناك مَنْ سيأتى ويجازى السامرة بذات الفعل الذي فعلوه مع جيرانهم”… فالله يمهل ولا يهمل… وسيجعل كل إنسان يحصد ما يزرعه وهذا هو القانون الذهبى الإلهي.

عبرة في عبارة

إذا عشنا على أرضنا  بحسب أهوائنا

تنتهي حياتنا       بإنتهاء أيامنا

أما إذا عشنا       لإلهنا ولغيرنا

يستمر تأثيرنا    بعد إنقضاء عمرنا

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا