أليستر ماجراث
أدى صعود تيار “الإلحاد الجديد” سنة 2006 إلى خلق اهتمام جديد بطبيعة الإيمان، وأصبح السؤال المطروح: لماذا نؤمن بالله إن كنا لا نستطيع إثبات هذا الإيمان بيقين مطلق؟ ومن أشد انتقادات الإلحاد الجديد وأكثرها شيوعًا هو القول بأن “الإيمان بالله غير منطقي”. حتى أن “ريتشارد دوكينز”، ذلك الملحد الذي يعتمد أسلوب المواجهة في دعم قضاياه، يرى أن الإيمان هروب من الأدلة بدفن الرؤوس في الرمال ورفض التفكير. وبالرغم من أن الكثير من المراقبين الإعلاميين أظهروا نوعًا من القبول لهذه الانتقادات في بادئ الأمر، فقد أظهر الفحص الدقيق مدى ضحالتها، لأن هذا الإلحاد الجديد نفسه له معتقداته وتعاليمه غير المثبتة، وغير القابلة للإثبات، مثل غيره من الأفكار.
يقول نقاد حركة التنوير من الفلاسفة، مثل “ألاسدير ماكينتاير” Alasdair Macintyre أو “جون جراي” John Gray، إن محاولة التنوير أن تضع أساسًا ومعيارًا واحدًا وشاملًا للمعرفة، قد ضعفت وتعثرت حتى انهار تمامًا تحت وطأة كمية ضخمة من الأدلة المضادة. فالنظرة القائلة بوجود عقل وحيد شامل لا يمكن الدفاع عنها ولا يمكن تحقيقها، وذلك لأننا باعتبارنا بشرًا محدودين ليس أمامنا خيار سوى أن ندرك أننا لا بد أن نعيش في غياب بعض الحقائق العقلانية الصرفة، الواضحة المطلقة التي لا تحتمل أي لبس. فمؤكد طبعًا أنه علينا أن نضع معايير تثبت صحة معتقداتنا، وعلينا أن ندافع عن هذه المعايير، ولكننا في الوقت نفسه لا بد أن ندرك أن تلك المعتقدات قد تستعصي على الإثبات. إلا أنها، على حد التعبير الذي أطلقه “وليم جيمس” William James، أحد علماء النفس بجامعة “هارفارد” Harvard، تُفهم على أنها “فرضيات مقبولة” “working hypotheses”.
مفهوم الإيمان في المسيحية
مفهوم الإيمان في المسيحية أعمق بكثير من مجرد الاعتقاد بصحة بعض الأفكار، لأن الإيمان عند المسيحيين ليس معرفيًا (“أنا أعتقد أنا هذا صواب”) فحسب، ولكنه في الوقت نفسه يحمل بعدًا علاقاتيًا ووجوديًا (“أنا أثق في هذا الشخص”). فالأمر لا يتوقف عند الاعتقاد بوجود الله، بل يمتد إلى اكتشاف حكمة هذا الإله ومحبته وصلاحه، مما ينتج عنه قرار إرادي بتسليم الحياة لهذا الإله، وهو ما عبَّر عنه “سي. إس. لويس” عندما قال إنك لا تواجه “حجة تطالبك بأن توافق عليها، بل شخصًا يطالبك بأن تثق فيه”.
ولذا، فالإيمان يعني الثقة في شخص، وليس مجرد الاعتقاد في وجوده. وقد أشار الكاتب الدنماركي “سورن كيركجارد” Soren Kierkegaard (1813-1855) إلى هذه الفكرة عندما أكد أن الإيمان الحقيقي بالله هو “قفزة نوعية” من وجود إلى وجود مختلف. فالإيمان المسيحي ليس مجرد إضافة بند الإيمان بالله لما نختزنه من أفكار عن العالم، ولكنه يعني إدراك واعتناق “النظام الوجودي” “mode of existence” الجديد الذي تتيحه هذه الثقة. وتجدر الإشارة إلى أن الفيلسوف النمساوي “لودفيج فيتجنشتاين” Ludwig Wittgenstein الذي يُعتبر عند الأغلبية من عباقرة القرن العشرين العظماء، كان يعاني من شكوك مضنية في فكرة “إثبات” وجود الله. وقد صرَّح بأنه لم يلتقِ بشخص واحد آمن بالله نتيجة للحجة العقلية!
وقد تنبأ “جوناثان إدواردز” Jonathan Edwards (1703-1758)، عالِم اللاهوت البيوريتاني الأمريكي العظيم، بهذا الموضوع في كتاباته حيث رأى أن الحجة العقلية لها قيمتها وأهميتها في الدفاعيات المسيحية، ولكنها قد تؤدي إلى مجرد الإيمان بوجود الله دون أي تأثير يغير الحياة. وكما يشير “إدواردز”، البعض “يخضع لحق الديانة المسيحية بناءً على البراهين أو الحجج العقلية التي تثبت صحته”، إلا أن هذا لا يؤدي بالضرورة إلى تغيير الحياة أو “الإيمان الحقيقي”.
وما يقصده “إدواردز” أن الشخص قد يؤمن بوجود إله دون أن يؤمن بهذا الإله، وهو موقف معروف من العهد الجديد. “أنت تؤمن أن الله واحد. حسنًا تفعل. والشياطين يؤمنون ويقشعرون!” (يع 2: 19)، فالفرق شاسع بين القبول العقلاني والتغيير الشخصي. ويصرح “إدواردز” بأن ما يغيّر الناس ليس الحجة، بل “إدراك” مجد الله، أي التقدير الواعي لهذا المجد، أو لقاء مباشر أو اختبار شخصي مع الله.
قد تلعب الحجج دورًا فعالًا في تنبيه غير المؤمنين وحثهم على التفكير بجدية، وفي تثبيت إيمان القديسين الحقيقيين. ولكنها لا تتمتع بالأهمية ذاتها في خلق الإيمان الخلاصي لدى الأشخاص. فالاقتناع الروحي لا ينتج عن الحكم العقلاني، بل
من إدراك مجد الأمور الإلهية وجمالها الروحي.
ولكن قيادة الناس للتحول إلى الإيمان هي في النهاية مهمة الكرازة. فالدفاعيات تمهد الطريق لهذا التحول بإظهار أن الإيمان بالله منطقي، إنها تزيل الأحجار والركام من طريق الكرازة. وقد لا يمكِّننا أن نثبت وجود الله بالمعنى الجامد والمطلق لكلمة إثبات. ولكن مؤكد أنه يمكننا أن نبيّن أن الإيمان بوجود هذا الإله منطقي تمامًا من حيث إنه يعطي معنى أعمق للحياة وللتاريخ وللخبرة الإنسانية على نحو يتفوق على غيره من البدائل، وبعدها يمكننا أن ندعو الشخص ليتجاوب مع هذا الإله المحب ويثق في مواعيده.
ما أهمية منطقية الإيمان المسيحي؟
لماذا تمثل هذه النقطة أهمية كبرى؟ لماذا يجب علينا أن نُظهِر أن العقيدة المسيحية منطقية؟ لماذا لا نكتفي بإعلان هذه الفكرة وحسب؟ من النقاط الدفاعية التي يجب تأكيدها هنا أنه من الصعب أن ندافع عن الأفكار التي تسير في اتجاه مضاد لطرق التفكير السائدة في الثقافة. وقد أشار “أوستين فارر” إلى أن نجاح “سي. إس. لويس” المبهر في عمله بالدفاعيات يرجع في جانب منه لقدرته على “عرض قوة الأفكار المسيحية على المستوى الأخلاقي، والخيالي، والعقلاني عرضًا إيجابيًا.” ويرى “فارر” أن منهج “لويس” في الدفاعيات أظهر أن المسيحية تعطي معنى لأعمق انطباعات العقل البشري والقلب والخيال.
إلا أن “فارر” كان معنيًا بوجه خاص بتأكيد أهمية إظهار منطقية الإيمان. ولكنه لم يقصد بذلك أن المنطق يخلق الإيمان، أو أن الناس يؤمنون بالله بفضل الحجج العقلانية، إلا أنه أراد أن يؤكد مدى صعوبة الدفاع عن الإيمان المسيحي علنًا إن كان المجتمع يراه غير منطقي. ولذلك، فإن أعظم إنجازات “لويس”، من وجهة نظر “فارر”، أنه أظهر منطقية الإيمان بشكل يسر قبوله على المستوى الثقافي.
رغم أن الحجة لا تخلق قناعة، غيابها يضرب
الإيمان في مقتل. فما يُثبَت، قد لا يُعتنق، ولكن
ما لا يستطيع أحد أن يدافع عنه سرعان ما يتخلى
الناس عنه. وإن كانت الحجة العقلانية لا تخلق
الإيمان، فهي تحافظ على مناخ ملائم يسمح له بالنمو.
وإظهار منطقية الإيمان لا يعني إثبات كل عنصر فيه، بل يعني القدرة على إظهار أن الاعتقاد في مصداقية هذه العناصر وصحتها يقف على أسس سليمة. ومثال على ذلك تبيان أن الإيمان المسيحي يعطي معنى لملاحظاتنا وخبراتنا. ومن ثَمَّ، يمكن تشبيهه بعدسة تضع كل شيء في البؤرة، أو بضوء يسمح لنا بالرؤية على مسافات أبعد وبشكل أوضح مما تتيحه لنا قدرتنا العادية.
وقد أكدت هذه الفكرة الفيلسوفة والناشطة الاجتماعية الفرنسية “سيمون فيّ” Simone Weil، وهي مفكرة يهودية آمنت بالمسيحية في شبابها. فقد استخلصت بعد إمعان النظر فيما يتضمنه إيمانها الجديد من معانٍ أن الإيمان بالله ينير الواقع على نحو أفضل البدائل العلمانية الأخرى بكثير. وإن كانت طريقة تفكير بعينها قادرة على وضع الأشياء في البؤرة أو إنارة ما هو مظلم وملتبس، فهذا يُعد دليلًا على مصداقيتها.
إن أنرت كشافًا كهربائيًا في شارع مظلم، لن أحكم
على قوته بالنظر إلى المصباح الموجود بداخله، بل بعدد
الأشياء التي مكنني من رؤيتها. فقوة مصدر الإنارة تُقَيَّم
بالنور الذي يسلطه على الأجسام المظلمة. وقيمة أي
منهج ديني، أو روحي، بوجه عام، تُقَيَّم بكمية النور الذي
يسلطه على ما في هذا العالم من أمور.
إن قدرة النظرية على إنارة الواقع ووضعه في بؤرة التركيز تُعتبر في حد ذاتها مقياسًا مهمًا لمصداقيتها. وهنا نرى موضوعًا جوهريًا في الدفاعيات المسيحية، ألا وهو أن الإيمان بصحة المسيحية له أسباب وجيهة، ومنها مدى قدرته على خلق معنى منطقي لما نراه حولنا وبداخلنا. وقد علَّق “برايان لفتو” Brian Leftow الفيلسوف بجامعة أكسفورد على اختباره المسيحي الذي مكَّنه من رؤية الأشياء على حقيقتها قائلًا: “إن كنت ترى الأشياء على حقيقتها من الموقع الذي تقف فيه، فأنت في المكان الصحيح.”
فماذا عن العلوم؟ إن “جون بولكينجهورن” John Polkinghorne (المولود سنة 1930) الفيزيائي الذي ترك المجال العلمي وتخصص في اللاهوت يثير نقطة وثيقة الصلة بهذا الموضوع:
إن البحث عن الحق مهما كان شكله لا يمكنه الوصول إلى استنتاجات يقينية مطلقة. ولكن الشخص الواقعي في تطلعاته هو مَنْ يطمح إلى الوصول لأفضل شرح ممكن للظواهر المعقدة، وهو هدف يمكن تحقيقه بالبحث عن فهم شامل مدفوع بدوافع طيبة ليوفر أساسًا للقبول العقلاني. فلا العلم ولا الدين يمكنه أن يأمل في بناء برهان قاطع تجبر منطقيته على قبوله حتى أنه لا ينكره إلا الحمقى.
إن كلًا من العلم والعقيدة المسيحية ملتزمان بإيجاد أفضل تفسير مدعوم بالدليل لما نلاحظه ونواجهه فعليًا في هذا العالم. ومن وجهة نظر المسيحي، تمثل الدفاعيات في جزء منها تأكيدًا للتوافق المفاهيمي بين الإطار النظري للمسيحية والأنظمة العميقة للعالم كما تكشفها العلوم الطبيعية.
هل الإيمان بالله منطقي؟
هل الإيمان بالله منطقي؟ أم أنه مجرد وهم، ونموذج أليم للتفكير الرغبوي عند بشر يعانون مشاعر الوحدة والتعطش؟ لقد قال “سي اس لويس” نفسه معلقًا على معتقداته الإلحادية قبل الإيمان: “كنتُ أؤمن أن كل ما أحبه تقريبًا وَهم، وتقريبًا كل ما آمنتُ بأنه حقيقي رأيته منفرًا وبلا معنى.” لقد اكتسبت هذه القضية أهمية في الآونة الأخيرة نتيجة للمناقشات السائدة حاليًا في ثقافتنا. وبالرغم من أن الإلحاد الجديد الذي انفجر سنة 2006 فقد الكثير من الجاذبية التي تكسو أي شيء جديد، فالأسئلة التي يطرحها ما زالت موضع مناقشة، ومنها هل الإيمان بالله يُعبِّر عن حالة من التجاوب العقلاني مع الواقع، أم أنه ضلالة قديمة الطراز تتفشى بين الجماهير بفعل فيروسات عقلية تعيش على منطق هش ساذج وتفرضها مؤسسات وأفراد سلطويون؟
وهناك طبعًا نظرة أكثر تشددًا تقول: إن المحاولات البشرية لتكوين معنى أو تأسيس قيم تتساوى في أنها جميعًا ضلالات، سواءً أكانت تؤمن بوجود الله أم كانت إلحادية. وهي نظرة للواقع شديدة التشاؤم وتنعكس بكثرة في كتابات “ريتشارد دوكينز” كما في تصريحه الشهير بأن “خواص هذا الكون الذي نراه هي ذات الخواص التي يمكن أن نتوقعها في كون هو أساسًا بلا تصميم ولا غرض ولا شر ولا خير، ولا أي شيء سوى حالة من الحياد القاسي الأعمى حيث يكون كل شيء عاديًا، لا هو بالجيد ولا بالرديء.” وترى هذه النظرة أننا نفرض معنى وقيمة على عالم بلا معنى، فيصبح المعنى مخترعًا، وليس شيئًا أصيلًا يكتشفه الإنسان. وهذه الفكرة على قدر اتساقها، إلا أنها شديدة القسوة على نحو يجعل الكثيرين يرونها لا تطاق.
ونحن في هذا الموضوع نبحث قدرة الإيمان المسيحي على إضفاء معنى على الأشياء. وتركيزي على مسألة منطقيته لا يعني اختزال المسيحية إلى تفسير عقلاني للأمور، ولا يعني أنه القيمة العليا في اللاهوت المسيحي. ولكن الغرض من ذلك توضيح أن المحيط الثقافي الحالي تشكّل بصعود تيارات عدائية تؤكد أن الإيمان في الأساس غير عقلاني، ومن ثَمَّ وجب الرد على هذه الادعاءات بشكل واعٍ ومحسوب.
وقد شهد القرن العشرون طاقة فكرية جديدة تم حقنها في الدراسات الفلسفية للأدلة العقلية والتجريبية التي تتعلق بالله، وكان ظهور تفاسير علمية جديدة لنشأة الكون من العوامل التي حفزت هذه الطاقة الجديدة. وأكد فلاسفة الأديان، مثل “ألفين بلانتينجا” وكذلك “ريتشارد سوينبرن” Richard Swinburne، مجددًا على منطقية الإيمان وأحيوا الحجج القديمة التي تشرح أسباب الإيمان بالله، وهناك تزايد في الاتفاق على أن الإيمان بالله عقلاني تمامًا، إلا إذا عرَّفت “العقلانية” على نحو يتعمد إقصاء هذا الإيمان.
والأمر الذي يزداد وضوحًا أن العقلانية يمكنها فعليًا أن تسجن البشرية في نظرة جامدة متحجرة تحصر الواقع فيما يمكن إثباته عقلانيًا وحسب. وكما أشار “أيزيا برلين” فمن اللافت للانتباه أن التيار السائد في الثقافة الغريبة منذ أواخر القرن التاسع عشر وما بعده يتمثل في “رفض العقل والنظام باعتبارهما سجنًا للروح.” فحصر الإنسان لنفسه فيما يمكن إثباته بالعقل والعلم هو عبارة عن الأخذ بالقشرة السطحية للواقع والعجز عن اكتشاف ما يكمن تحتها من أعماق.
أما الكُتَّاب المسيحيون فيرون أن الإيمان الديني ليس تمردًا على العقل بل ثورة على سجن البشرية بين جدران الجمود العقلاني الباردة. فالمنطق والحقائق لا يمكنهما إلا أن “يصلا بنا إلى نقطة معينة في الرحلة، بعدها يجب علينا أن نكمل المسيرة حتى نصل للإيمان. فقد يكون المنطق البشري كافيًا على المستوى العقلاني ولكنه قاصر على المستوى الوجودي، والإيمان يعلن عما هو أعمق من العقل، ولا يتعارض معه، بل يفوقه. فالإيمان يستخلص الموافقة العقلانية، ويدعو إليها، ولكنه لا يفرضها، وهو يصل إلى حيث يصل العقل ولكنه لا يحد نفسه عند نقطة توقف العقل بل يتجاوزها.
وليم جيمس: المعتقدات قد تستعصي على الإثبات. إلا أنها تُفهم على أنها “فرضيات مقبولة”
جوناثان إدواردز: الحجة العقلية لها قيمتها وأهميتها في الدفاعيات المسيحية، ولكنها قد تؤدي إلى مجرد الإيمان بوجود الله دون أي تأثير يغير الحياة.