كتابة التاريخ ودراسته وتفعيله

1

العدد 144 الصادر في سبتمبر 2017
كتابة التاريخ ودراسته وتفعيله

   لكتابة تاريخ الأفراد والأمم والممالك والبلاد، بكل دقة وموضوعية وأمانة وشفافية، أهمية قصوى في حد ذاتها، وهي أيضًا واحدة من أهم الركائز في حياة الشعوب وتقدمها، فكتابة تاريخها ودراسته وتفعيله للاستفادة منه ومن حقائقه في مستقبل الشعوب أمر لا غنى عنه بأي حال من الأحوال.  وترجع أهمية كتابة التاريخ الحقيقي المخلص المنصف غير المحرف أو الممسوخ للأفراد والشعوب إلى:

   (١) إنه وسيلة من وسائل تدوين الحقائق حتى لا تنسى، فمعروف أن كل ابن آدم نساي، وأن الحقائق التى لا تدون في وقتها قد ينسى جلها لو مضى يومًا واحدًا على حدوثها دون تدوين وتحليل ودراسة، ولذا جعل المولى القدير أنبياءه وقديسيه يدونون لنا ما أرسله إلينا من كلمته وتعاليمه ووصاياه في الكتاب المقدس، وكثيرًا ما طلب، تبارك اسمه، من أنبيائه ورسله بكل وضوح أن أكتب ما أمليه عليك وضعه في سفر أو أنقشه على ألواح، حجرية كانت أم جلدية، أكتبه في رقوق أو على أبواب بيتك وضعه عصابة بين عينيك، أوصى موسى كليمه الشعب قائلاً:  “ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك، وقصها على أولادك وتكلم بها حين تجلس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم، واربطها علامة على يدك ولتكن عصائب بين عينيك، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك (تث6: 6-9)، وغيره الكثير. فبالرغم من أن الوصايا التى أعطاها الرب لموسى كليمه ونبيه في القديم كانت عشر وصايا سهلة بسيطة يمكن لطفل صغير أن يحفظها في دقائق قليلة ولا ينساها العمر كله، إلا إنه سبحانه كتبها بأصبعه على ألواح حجرية لحفظها، وعندما كسر موسى لوحي الشريعة لغضبه من شعبه إسرائيل لزيغانهم عن الله وعبادتهم العجل أصعد الله  سبحانه موسى إلى الجبل مرة أخرى وأمره أن يكتب بيده هو نفس هذه الوصايا مرة أخرى على ألواح حجرية لتحفظ، وعندما أجاب المولى أسئلة نبيه حبقوق عن أسئلته المصيرية التى تتعلق بحال شعب الله في ذلك الزمان، أجابه المولى لطلبه وأوصاه قائلاً: “اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح ليركض قارئها”. وهكذا عندما أعلن الله -تبارك اسمه- مستقبل الأمم والشعوب لعبده دانيآل في القديم جعله يكتبه في سفر ويحفظه لنا ومازلنا نراجعه وندرسه ونراه يتحقق أمام أعيننا بعد مرور آلاف السنين على تدوينه، إلى جانب المئات من الأمثلة الأخرى التى يمكن أن تستخدم للتأكيد على أهمية كتابة التاريخ، فكتابة التاريخ لحفظه من الزوال والنسيان والتحريف أمر لا مفر منه.

   (٢) كتابة التاريخ لاستخدامه كنقطة مرجعية لقياس مدى تقدم الشعوب أو تأخرها وحجم هذا التقدم أو التأخر الذي أصاب هذا الشعب أو ذاك، فعلى سبيل المثال ليس إلا، إذا قال لنا أحدهم إننا نعيش اليوم كمسيحيين في أزهى عصورنا، فكيف يمكننا أن نتحقق من هذه المقولة إذا لم يكن لدينا نقطة مرجعية في الماضى نقيس عليها مدى دقة هذه المقولة، وكيف تتوفر لنا هذه النقطة المرجعية إن لم يكن لنا تاريخ موثق دقيق لما كنا عليه في الماضي وما أصبحنا عليه اليوم؟ وكثيرًا ما أتخذ القدير مصر كنقطة مرجعية ليجعل شعب إسرائيل العاصي يقارنوا بين ما كانوا عليه في مصر كعبيد من ذل وعبودية وقهر، وبين ما أصبحوا عليه كأسياد من حرية ونصرة في أرض تفيض لبنًا وعسلاً.

   (٣) ترجع أهمية كتابة التاريخ أيضًا لدراسته وتفعيله في حياتنا، فهذا أمر لا مفر منه إن أرادت الشعوب أن تغير أحوالها وتتخلص من أثقالها. ولذا دَوَّن لنا القدير تاريخ معاملاته مع شعبه القديم قبل أن يتجسد المسيح، ثم في حياته تبارك اسمه، على الأرض وكذلك في حياة رسله المكرمين وكنيسته بعد رفعه إلى السماء، فلولا أن دون لنا سبحانه أن المسيح كان يصنع المعجزات وأنه كان يجول يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس وأنه يظل كما هو أمسًا واليوم وإلى الأبد لما آمنا أنه مازال أمسًا واليوم وإلى الأبد، وهو مازال يشفي ويحرر ويخلص حتى اليوم. ولولا أنه دون لنا صفاته وكمالاته وإعلانه عن من هو الآب السماوي، لما عرفنا كيف نقبله ونخضع له ونخدمه ونحبه لأنه هو أحبنا أولاً.

   لكن الأمر لا ينبغي أن يتوقف عند كتابة التاريخ، فمع أهمية كتابته واتخاذه كنقطة مرجعية، إلا أنه إن لم نُفَعِّلْ التاريخ ونقوم بدراسته بدقة وتطبيق ما ندرسه وما نتعلمه من التاريخ ونستخدمه في تحقيق ما نصبوا إليه في الحاضر والمستقبل، لكان هذا انتقاصاً خطيراً من أهمية كتابته ودراسته.

   وفي رأيي أن هناك الكثير من الموضوعات الهامة الخطيرة التى حدثت على مر التاريخ والتي لابد من دراستها وتفعيلها والاستفادة منها في حل مشاكلنا الحاضرة والمستقبلة والتى لا يمكن دراستها وفهمها وتفعيلها إلا بالرجوع إلى التاريخ، وما دون عن هذه الموضوعات، فنحن نحتاج أن نبحث في التاريخ وندون وندرس على الأقل ثلاثة أمور خطيرة تتعلق بحياتنا المعاصرة وتساعدنا على وضع خطة طريق لتعامل مصر مع غيرها من البلاد، وتعامل الأقباط مع أنفسهم ومع من حولهم، وتعامل الأقباط مع المسلمين في مصر وخارجها. هذا بالرغم من علمي التام أنه ليس لنا ما يكفي لدراسته من تاريخ قديم حول هذه الموضوعات. وهذا يرجع لعدة أسباب:

   (أ) إن العقلية الشرق أوسطية على وجه العموم وخاصة العقلية العربية الإسلامية المستوردة من الجزيرة العربية لا تقدر أهمية كتابة التاريخ والاحتفاظ به وإلا لما قام الغازي الإسلامي بحرق مكتبة الإسكندرية بكل ما تحوي من كنوز أمهات الكتب والمخطوطات والوثائق وغيرها، ولكان قد دافع عنها بكل ما يملك من قوة بدل من تدميرها، ولما محا الغازي الفاتح المغوار تاريخ ستة قرون سابقة لدخولهم إلى مصر ضد مشيئة الله آمنين.

   (ب) ترى العقلية سابقة الذكر أن تدوين التاريخ بصدق ودقة سيكشف ما ارتكبته من جرائم ومآسٍ في حق الشعوب التى قامت بفتحها والاستيلاء على بلادها، وبالتالي سيصورها على حقيقتها وسيفضح نواياها ولذا فهي تتعمد إفساد القليل مما عرف من التاريخ ومحيه من ذاكرة الأيام والسنين وإخفاء ما يمكن إخفاؤه في كل الأحوال.

   (ج) ولعلم العقلية السابقة أيضًا إنه لن يمكنها على طول الخط أن تخفي الحقائق وتدفن الماضي في التراب وتغطيته إلى الأبد، فهي تتجه إلى تشويهه وتلوينه وإعادة كتابته بأكاذيب لا صلة ولا علاقة لها بالواقع من قريب أو بعيد بتاريخ ما حدث فعلاً على الأقل في مصر والبلاد التى أسموها البلاد العربية.

   مما سبق ذكره يتضح أنه ليس باستطاعتنا بأي شكل من الأشكال أو حال من الأحوال الحصول على تاريخ دقيق صادق متكامل لمنطقتنا العربية أو لمصرنا أو للأقباط في مصر مهما حاولنا واجتهدنا.

   قد يفهم البعض أن هذه دعوة لليأس والإحباط والتفشيل للمؤرخين العرب. ما دمنا لم  ولن نحصل على تاريخ دقيق، فلماذا كتابة التاريخ؟ إذا على أي حال، أقول إنني أدعو لكتابة ما تيسر من التاريخ القديم لكنني ألح في كتابة تاريخنا المعاصر على أقل تقدير، والاستفادة من علماء وباحثين وأقباط ومستشرقين وأجانب ومكتبات تضم كتبًا ومراجع كثيرة كتبها أصحابها لا كتاريخ مدون لهذا الغرض بالذات بل كتبوها كجزء من حياتهم المعاصرة، لكننا نستطيع أن نجمع منها قطع متناثرة وأن نضعها بجانب بعضها البعض لنحصل على الصورة كاملة، بقدر المستطاع لتاريخنا القبطي على الأقل.

   أما فيما يختص بتعامل مصر، كشعب أولاً ثم كحكومة، مع غيرها من البلاد وخاصة إسرائيل، فلابد من معرفة قصة أصل العداوة بين الإسرائيليين والمصريين من التاريخ المدون والمتوفر لنا اليوم. فإذا ما سألت رجل الشارع العادي عن سبب عدائه وكرهه لإسرائيل سيرجعها إلى الحرب الدائرة بين فلسطين وإسرائيل، وسيرجعها البعض الآخر من السلفيين لما دون بالقرآن من قول: “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود”، وإذا سألتني أنا وفريق معي من المسيحيين لأرجعنا أصل العداوة مع إسرائيل إلى ما عمله يوسف ابن يعقوب عندما أصبح المتحكم في مصر ومواردها وزرعها وأرضها وناسها واتخذ منهم عبيدًا له ولفرعون واشترى منهم أنفسهم وأموالهم وقام بتهجيرهم وترحيلهم وبعثرتهم في كل قرى مصر في الوقت الذي أشبع فيه إخوته العبرانيين بتعب وشقاء وعناء المصريين وأعطى لهم أفخر أرضهم وأفضل وظائفهم وثرواتهم. ولا بأس من وضع كل هذه الآراء وتتبع بدايتها من الأصل وكتابة التاريخ بصورة أمينة صادقة دقيقة كما ذكرت سابقاً. أما فائدة هذه الدراسة فستساعدنا أن نتناول ما يظهر من أصل هذه العداوة اليوم وسنحاول باستخدام التاريخ الدقيق المخلص في أن نتخلص من هذه العدواة لصالحنا وصالحهم ونوقف نزيف دماء أهلنا وتشريد أطفالنا وترمل نسائنا، وبالإجماع نجعل أرضنا مكاناً أفضل مما هي عليه الآن.

   الأمر الثاني، الذي نريد معرفته من التاريخ المخلص الدقيق هو: لماذا جاء المسلمون إلى مصر، وماذا كانت دوافعهم الحقيقة للمجئ إليها؟ هل جاءوا حقًا مخلصين لوجه الله لعرض دينهم الجديد على المصريين وهدايتهم إلى سواء السبيل كما يدعون أم جاءوا لأغراض أخرى، كفتح البلاد والحصول على مواردها وغنائمها ونسائها وما ملكت أيمانهم للتوزيع عليهم وعلى أوليائهم ورجال حروبهم وخلفائهم؟ هل جاءوا بخطة توسعية لكي يمتلكوا ويحكموا العالم كله وعلى رأسه مصر أفضل دولة في ذلك الوقت؟  فإن كانوا قد جاءوا فقط لنشر دينهم بالموعظة الحسنة، فلماذا القتل والسبي وحرق الكنائس وقطع الألسن لمن يتكلم القبطية والتعذيب والتشريد الذي عانى منه الأقباط منذ دخولهم إلى مصر آمنين؟ وإذا كانوا قد جاءوا لنشر دينهم فقط، وهذا من حقهم إن هم جاءوا بطريقة سلمية سليمة، فلماذا لم ينشروه ويتركوا أهل البلاد يؤمنون بما يؤمنون به دون إجبارهم على الدخول في الإسلام أو دفع الجزية عن يدهم وهم صاغرون أو القتل؟ ولماذا لم يعودوا إلى مكة والمدينة بعد نشر إسلامهم في مصر؟ وباتخاذ الماضي زمن الفتح كنقطة مرجعية يبقى السؤال: هل تغير الحال منذ مجيئهم يومئذ إلى مصر عن ما يحدث مع المسيحيين الآن أم لا؟ هل توقف الاضطهاد أم مازال كما هو أم تضاعف؟ هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها دون كتابة التاريخ ودراسته وتفعيله، ثم نريد أن نعرف الحقيقة الغائبة وهي: هل كانت مصر قبطية في وقت من الأوقات وخاصة بعد زيارة مرقس الرسول لها؟ هل كانت مصر حقاً قبطية عند الفتح الإسلامي لها؟ هل كان هناك ما يسمى بدين الدولة كما هو الحال اليوم؟ نريد أن نعرف من التاريخ إن وجد كيف تعاملت الكنيسة القبطية يومئذ مع الغزاة، هل حاربتهم وتصدت لهم بكل قواها، هل رفعت صلوات وأصوام ليوقف الله زحفهم إلى مصر؟ وبالطبع أنا لا أقصد الصلوات والأصوام والقداسات وغيرها مما نرفعه الآن والذي لا يصعد أغلبه فوق رؤوسنا ولا يخرج خارج كنائسنا، بل أتكلم عن الصلوات المقتدرة في فعلها للبقية التقية التى تدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة، وإن كانت قد رفعت الصلوات المخلصة، هل تجاهل القدير صلواتهم وسمح للغزاة بقهر وامتلاك مصر؟ من الواضح إنه فعلاً فعل، هل هناك تاريخ مسجل يمكن الاعتماد عليه يروي لنا لماذا سمح الله بفتح مصر من وجهة نظر أي من المؤرخين الأقباط إن وجدوا، كيف نتغنى نحن الأقباط بأن رسولاً واحدًا اسمه مرقص جاء إلى مصر فحولها إلى مصر القبطية الأرثوذكسية التى نراها اليوم؟ رجل واحد أعزل من السلاح ولا علم له بالحرب وفتح مصر للمسيح، فكيف لخلفائه على الأرض يومئذ، الذين يفتخرون بأنهم خلفاء مار مرقس، ويتوارثون عصاه وكرسيه كيف لهم مجتمعين بأعدادهم وإمكانياتهم وعتادهم أن لا يستطيعوا أن يوقفوا فتحًا آخر جاء ليمحو كل ما أسسه رسولهم من مسيحية؟ ماذا فعلت الكنيسة الأرثوذكسية يومئذ؟ هل فتحت لهم الأبواب ورحبت بهم أم قاومتهم حتى الدم؟ هل حقًا ما دونه محمد حسنين هيكل في كتابه “خريف الغضب” أن البابا الأرثوذكسي يومئذ رأى في أصحاب الدين الجديد المنقذ الذي سيخلصه من بابا روما الغربي وسينهي خلافهما معًا عن من يكون الأول فيهما؟ وعلى الصعيد الإسلامي هل من تاريخ يذكر لنا لماذا وضع حجر الأساس لجامعة الأزهر، وما هي الأسباب الحقيقية وراء إنشائها؟ هل كان من ضمن أسبابها أن تنهض بالطلبة المسلمين دون المسيحيين أو كانت لتخريج دفع من أنصاف المتعلمين ليصبحوا قادة البلاد على مر العصور والأزمان فتزداد نسبة المتعلمين والأطباء والصيادلة المسلمين عن المسيحيين، هل من كاتب أمين من المسيحيين أو المسلمين يمكن أن يلقي الضوء على إجابات هذه الأسئلة جميعها أو بعضها؟ ثم ما هى خطة الحكومات المتعاقبة منذ قيام ثورتنا المباركة على يد الضباط الأشرار للقضاء على الأقباط؟

   أعلم أننا في الوطن العربي لن يتوفر لنا بسهولة الحصول على المعلومات الدقيقة المؤكدة لا من سلطاتنا الحكومية أو حتى الكنسية، لكننا نستطيع أن نحزو حزو أسلافنا من تلاميذ المسيح، فبالرغم من حكم الأباطرة الرومان وتنكيلهم بالمسيحيين وإنهاء حياة رجال الله القديسين ورسله المكرمين بالقتل والرجم والنشر والنار والأسود، بالرغم من كل هذا، تركوا لنا أعظم تسجيل وأدق تأريخ لشعب الله في القديم والجديد وعن جميع ما ابتدأ يسوع، تبارك اسمه، يعمله ويعلم به.

   أما آخر ما نريد تأريخًا حقيقيًا مخلصًا واضحًا له من الكنيسة، أرثوذكسية كانت أم إنجيلية، هو كيف جاءت الكنيسة الإنجيلية إلى مصر والعالم العربي؟ وماذا كانت أغراضهم الحقيقية التى أرادوا تحقيقها بالمجئ إلى مصر؟ ثم كيف تأسست الكنائس الإنجيلية وكيف اعترفت بهم الحكومة يومها كطائفة وطنية مصرية بالرغم من انتماءاتها الأجنبية، وكيف كانت العلاقة الحقيقية المسيحية بين المستشرقين ومن أتبعهم من الأقباط وأصبحوا بنعمته من الإنجيليين؟ وكيف كانت وكيف أصبحت العلاقة بين الكنيسة الإنجيلية الوطنية والكنيسة الأرثوذكسية القبطية حتى يومنا هذا؟ وهل شجعت الكنيسة الأرثوذكسية المد الإنجيلي إلى مصر أو حتى قبلته واستسلمت له كما قبلت واستسلمت للمسلمين وفتحت لهم أبوابها حتى تمكنوا منها أم أنهم  اعتبروا المبشرين الأجانب ذئابًا خاطفة وإخوان الشياطين كما يعتبرونهم اليوم فقاوموهم بكل ما أوتوا من قوة ومن رباط الخيل؟ وماذا عن العلاقة الحقيقية بين الطوائف المختلفة في مصر، بعيدًا عن الأضواء والمجاملات والعناق؟ أليس هذا جزءًا من التاريخ القبطى المسكوت عنه والمتعمد إخفائه عن أعين حتى الأقباط أنفسهم؟ فأنا شخصيًا لم أسمع طيلة حياتي من مسئول إنجيلي أو أرثوذكسي واحد تأريخًا حقيقيًا أمينًا دقيقًا على الأقل للمائة سنة الماضية، المرة الوحيدة التى استمعت فيها لواحد من رجال الله القديسين الموثوق برواياتهم، على الأقل على حد علمه، مع أنه كثير الخبرة وغزير العلم، كان هذا  قبل أربع وعشرين ساعة فقط من كتابة هذا المقال عندما حدثنا الأب زكريا بطرس عن أن الكنيسة الأرثوذكسية كانت تخاف من التعاليم الإنجيلية، وخاصة من جمعيات خلاص النفوس ورسالتها وطريقتها في ربح النفوس للمسيح في بداية تأسيسها، مما دفعه أن يدرس تعاليمهم ويقارنها بتعاليم الآباء الأول للكنيسة القبطية المصرية حيث وجد تطابقًا في التعليم الكنسي إلى حد كبير، وفي جراءته المعهودة ونقده حتى لنفسه وطائفته تكلم عن أسباب ضعف الكنيسة الأرثوذكسية في تلك الأيام التى جاء بها المستشرقون إلى مصر وتلك التى تأسست فيها جمعيات خلاص النفوس. قال الأب زكريا إن المستشرقين والأجانب جاءوا إلى مصر لربح المسلمين للمسيح، وعندما لم يستطيعوا تحقيق أمالهم مع المسلمين اكتشفوا أن هناك كثير من الأرثوذكس وأن الكنيسة الأرثوذكسية ضعيفة في التعليم وقراءة الكلمة، فبدأوا نشاطهم للوصول إلى الأرثوذكسيين المصريين بدلاً من المسلمين. ويعدد الأب زكريا أسباب ضعف الكنيسة الأرثوذكسية يومها والتى كان أحدها هي أن في كثير من الأحيان، وخاصة في القرى كان الكهنوت يورث، وحكى عن قصة واقعية معاصرة حدثت في قرية في الصعيد المصرى حيث مات الكاهن المرتسم على كنيسة ما، فأراد روادها أن يرسموا ابنه كاهنًا عوضًا عنه كتكريم للأب المتنيح، كان ابنه الأكبر طبيبًا، فقالوا هذا لا يصلح لأنه طبيب ويتقاضى من عمله دخلاً كبيرًا وهكذا قالوا عن ابنه الثاني وقد كان مهندسًا، وفي النهاية لم يجدوا إلا ابنه الأصغر وكان هذا الابن منحرفًا ولا عمل له، ففتشوا عليه فوجدوه سكرانًا في الخمارة فأتوا به وطلبوا من البابا رسامته، فأصبح بين ليلة وضحاها كاهنًا لهم. وقال الأب زكريا حتى الرهبنة تأثرت في تلك الأيام، فكانت الأديرة تضم كثيرًا من المرضى نفسيًا والفشلة في حياتهم الشخصية والعائلية، أو أولئك الذين أخفقوا في علاقاتهم العاطفية، فقرروا عدم الزواج، فهربوا إلى الأديرة، وغيرها من الأسباب المماثلة الكثير. ويحكي الأب زكريا عن تجربته الشخصية كيف أنه بعد أن درس كتب الآباء دراسة جيدة وبدأ يعلم منها في كنيسته الأرثوذكسية التى كان يرعاها في مدينة طنطا والتى جذبت الكثير من الإنجيليين لسماع عظاته في كنيسته الأرثوذكسية اتهمته الكنيسة أنه أصبح بروتستانتيًا وأن تعاليمه إنجيلية ولهذا السبب تم وقفه عن الخدمة لفترة من الزمان، ثم بعدها أرسله البابا كيرلس ليكون واحدًا من كهنة كنيسة مارمرقس بمصر الجديدة. لقد كرر الأب زكريا أكثر من مرة في تلك الحلقة كلمة تاريخ، تاريخ، تاريخ. والحقيقة إنه ليس سراً أن الأب زكريا رجل في منتصف الثمانينات من عمره، أطال الله بقائه، فلماذا لا تستخدمه الكنيسة في أن يكون واحدًا من كتاب تاريخها  أو على الأقل الجزء الخاص بحياته وما عاصره؟ وكيف يرى مصر الآن ومدى اختلافها أو اتفاقها مع ما رآه يوم كان شابًا صغير السن، أما عن حياته الشخصية وهي جزء أيضًا مهم جدًا من تاريخ الكنيسة القبطية وما مرت به عبر العصور والسنين، وما يقال عن الأب زكريا يقال عن  الأب مكاري، والأب سمعان والمؤرخ نعيم عاطف والدكتور مفيد إبراهيم سعيد وكلهم كبار السن والمقام وأناس مشهود لهم بالأمانة والإخلاص والتفاني في خدمة المسيح والكنيسة.

   إن للأجيال القادمة حقًا علينا وعلى قادة كنائسنا على اختلاف طوائفها ومذاهبها أن نترك لهم تاريخ آبائهم وأجدادهم مكتوبًا ومفهومًا لهم، بكل أمانة وصدق وشفافية، فإن لم نكتب التاريخ وندرسه ونُفَعِّله في حياتنا وحياة أولادنا وفي حاضرنا ومستقبلنا سيظل الغش والزيف، الخداع والكذب هو السائد عليهم وعلى أذهانهم ولن يتمكنوا من تقييم كل ما يمرون به من مواقف وأحداث وسيظلون في احتياج ومعرفة، كيف يسلكون في طريقهم. ولذا فأنا أقترح أن يتولي مجلس الكنائس المصرى مشروع كتابة تاريخنا القبطي، مهما تكلف هذا المشروع من جهد ومال ووقت وعرق وضحى لأجله الكثيرون، اكتبوا لنا التاريخ وادرسوه ودرسوه وفعلوه حتى يشهد لكم التاريخ أنكم تركتم لخلفائكم ما هو حقيقي وأمين ودقيق من التاريخ.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا