بقلم: الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر
نائب رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر
نعم! كم هو مثير ومزعج عندما نتخيل أن قوى الشر والطغيان هي التي تتحكم في عالمنا، وننسى أن إلهنا كما قال دانيآل هو “متسلط في مملكة الناسِ” (دا4: 25). وكما قال يهوشافاط “يارب إله آبائنا، أما أنت هو الله في السماء، وأنت المتسلط على جميع ممالك الأمم، وبيدك قوة وجبروت وليس من يقف معك؟” (2أخ20: 6).
وكما قال الحكيم في سفر الجامعة “إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد، فلا ترتع من الأمر، لأن فوق العالي عاليًا يلاحظ، والأعلى فوقهما”(جا5: 8). وكما شدا المرنم: “الرب في العلى أقدر” (مز93: 4). ما أحوجنا أن نتطلع إلى إلهنا باعتباره الضابط الكل، كما نقول في قانون إيماننا المسيحي، والضابط الكل هو نفسه الله الآب، فهو لا يحميني بقوة اقتداره فقط، ولكنه في نفس الوقت يحيطني بدفء محبته الأبوية، هذه الحقيقة الساطعة كالشمس، والراسخة كالجبال، ترصدها عدسة الوحي المقدس في صور بديعة الجمال أذكر منها:
1- في يوم من الأيام قال القضاء كلمته، لكن الكلمة النهائية كانت للرب، كيف لا؟! ألم يتم القبض على يوسف بتهمة باطلة؟ وطرحوه في السجن؟! لكن الرب لم يكن قد قال كلمته الختامية بعد، لذلك رأينا يوسف ينتقل من الأسر إلى القصر، ومن القيد إلى القيادة. ومن المهانة إلى المهابة، فمكتوب “إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد، فلا ترتع من الأمر، لأن فوق العالي عاليًا يلاحظ، والأعلى فوقهما”(جا5: 8). وكما شدا المرنم: “الرب في العلى أقدر” (مز93: 4).
2- الشيطان يريد أن يحاربنا ويدمرنا، لكن إيماننا أن الأحداث التي يصممها الشيطان لأبناء الله لابد أن يعرضها أولاً على الله لكي يحصل منه على تصريح بها، وإذا لم يصرح له الله بها، فمن المستحيل أن ينفذ شيئًا منها، والمؤمن يعلم جيدًا أن الله قبل أن يعطي مثل هذا التصريح للشيطان، لابد أن يجري تعديلاته، ويضع لمساته الشخصية على الحدث، وهو الذي يحدد شكله وحجمه وأبعاده بدقة متناهية، حتى لا يفعل الشيطان بالمؤمن أكثر أو أقل مما حددته حكمة الله.
فالحدث قبل أن يأتينا لابد أن يمر على إلهنا أولاً ليأخذ تأشيرة جواز مروره ووصوله إلينا، أليس هذا ما حدث مع أيوب؟! فمكتوب “فقال الرب للشيطان: هوذا كل ما له في يدك، وإنما إليه لا تمد يدك” (أي1: 12؛ 2: 6). ولقد أدرك أيوب هذا بالرغم من قسوة التجربة فنراه يقول: “عريانًا خرجت من بطن أمي، وعريانًا أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركًا” (أي1: 21).
والجدير بالملاحظة هنا أن أيوب نسب العطاء للرب، ونسب الأخذ أيضًا للرب، لأنه أدرك بالإيمان أن الشيطان قبل أن يصدر له تجاربه وحروبه أخذ تأشيرة الموافقة من الله، وطالما أنها وصلت له فهذه هي إرادة الله.
3- لقد أصدر الملك نبوخذ نصر أمرًا بإلقاء الفتية الثلاثة في أتون النار المحمى سبعة أضعاف لعدم خضوعهم لأوامره… لكن الكلمة النهائية لم تكن للملك بل للرب الذي حفظهم، وشعرة واحدة من رؤوسهم لم تحترق… ورائحة النار لم تأت على ملابسهم. (دا3: 27). ولهذا رأينا شهادة الملك نبوخذ نصر وهو يقول: “تبارك إله شدرخ وميشخ وعبدنغو، الذي أرسل ملاكه وأنقذ عبيده الذين اتكلوا عليه وغيروا كلمة الملك… إذ ليس إله آخر يستطيع أن ينجي هكذا” (دا3: 28-30).
4- أصدر الملك داريوس حكمًا بالإعدام على دانيآل، فطرحوه في جب الأسود لأنه لم ينفذ أمر الملك، لكن الكتاب يخبرنا أن حكم الملك لم يكن الكلمة النهائية في القضية، وخرج دانيآل من الجب دون أن تمسه الأسود الجائعة المفترسة بأي أذى، وأخذ يشدو “إلهي أرسل ملاكه وسد أفواه الأسود فلم تضرني…”. (دا6: 22). وكانت النتيجة أن أصدر الملك داريوس بيانًا وفرمانًا يقول فيه عن إله دانيآل: “هو الإله الحي القيوم إلى الأبد، وملكوته لن يزول وسلطانه إلى المنتهى. هو ينجي وينقذ ويعمل الآيات والعجائب في السماوات وفي الأرض” (دا6: 26، 27).
5- ألم يحكم هيرودس على بطرس وألقاه في السجن؟! لقد ظن في حماقته أنه بإمكانه أن يعطل عمل الله، وأن يقيد كلمة الله من الذيوغ والانتشار، لكن الكلمة النهائية كانت للرب الذي فك قيود بطرس.. وفتح أبواب السجن أمامه (أع ص12)؟!. وأطلقه حرًا ليستخدمه بقوة لمجده، وكانت خاتمة القصة مأساوية بالنسبة لهيرودس فمكتوب في (أع12: 21-24) “… فصار يأكله الدود ومات، وأما كلمة الله فكانت تنمو وتزيد”.
6- ألم يُطرح بولس وسيلا في السجن، وكانت عليهم حراسة مشددة؟! ومع ذلك كانت الكلمة النهائية للرب الذي أحدث زلزلة عظيمة وفتح لهما أبواب السجن (أع16: 26). لكن قبل أن يخرجا من السجن كانا رسالة للسجان فمكتوب “ولما استيقظ حافظ السجن، ورأى أبواب السجن مفتوحة، استل سيفه وكان مزمعًا أن يقتل نفسه، ظانًا أن المسجونين قد هربوا. فنادى بولس بصوت عظيم قائلًا: “لا تفعل بنفسك شيئًا رديًا! لأن جميعنا ههنا!”. فقال لهما: “يا سيدي، ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟”. فقالا: “آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك”… وتهلل مع جميع بيته إذ كان قد آمن بالله” (أع16: 27-34).
7- لم نسمع إطلاقًا عن امرأة في سن التسعين قد أنجبت، أو مولودًا أعمى قد نال نعمة البصر، أو مريضًا بالبرص قد نال نعمة الشفاء بالتمام، والعديد من الأمراض التي وقف الطب عاجزًا عن شفائها لأن الكلمة الأخيرة لم تكن للطب إنما كانت للرب القدير، رب المعجزات (راجع تك21؛ يو9: 6؛ مت8: 3).
أليس هذا ما حدث مع الرسول بولس فلقد أصابته تجربة مريرة فنسمعه يقول: “ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات، أعطيت شوكة في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني، لئلا أرتفع. من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني”(2كو12: 7، 8).
لقد أدرك أن شوكته صناعة شيطانية لكنها بسماح من الله لأن جواز مرورها إليه يحمل توقيع الرب، ولو كان الله لا يريد هذا ما كانت قد وصلت إليه أبدًا، وفي نفس الوقت لم يتركه، بل وعده بالمزيد من النعمة، ليعرف كيف يتعامل مع الشوكة.
نعم! ما يطمئنا أن إلهنا هو صاحب السلطان.. صاحب الكلمة الأخيرة، الخير صناعته، والشر بإذن منه، ومهما كان مصدر الشر إنسانًا أو شيطانًا فهو دائمًا لخيرنا… وسيفاجأ ويُذهل الشرير عندما يرى أن شره بنا قد تحول لخيرنا.
8- ومع كل التقدم العلمي المذهل الذي أحرزناه، لازلنا عاجزين عن كبح جماح ثورات الطبيعة التي لازالت تهدد عالمنا، أما الإله الضابط الكل، ليس عسيرًا عليه أن يضبطها ويسيطر عليها ويتحكم فيها… ألم يشدو المرنم قائلاً: “أنت متسلط على كبرياءِ البحرِ. عند ارتفاعِ لججه أنت تسكنها”(مز89: 9).
وأليس هذا ما حدث في مواجهة العواصف العاتية، والأمواج الهائجة العالية على سفينة التلاميذ فقام الرب يسوع وانتهر الريح، وقال للبحر: “اسكت! ابكم!”. فسكنت الريح وصار هدوء عظيم” (مر4: 39).
نعم! إن إلهي العظيم قادر أن يحفظ قاربي الصغير في بحر ذي الحياة… وأنا في اطمئنان وهو يهمس لي قائلاً: “لا تخف لأني معك” فكيف أخاف وكانت كلمته النهائية والختامية وهو صاعد للسماء.
“سلامي أترك لكمي… لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب” (يو14: 1).
9- حتى الموت بكل سلطانه وصولجانه لم تكن، ولن تكون له الكلمة النهائية، فلقد أقام الرب يسوع شابًا وحيدًا لأمه محمولاً في نعشه إلى مثواه الأخير (لو7: 14)، وأقام ابنة وحيدة لوالديها بعد أن كانت قد ماتت، والجميع يبكونها (مت9؛ مر5)، وأقام آخر بعد أن أنتن في قبره (يو11)، وقام هو نفسه بعد أن صُلب ومات ودفن متحديًا الموت (مت27: 60)… فيومها بدا الموت وكأنه انتصر على الحياة، وبدا الظلام وكأنه أدرك النور، وبدا الوجود وكأنه قبر كبير… ووقتها قالوا مَنْ صلبوه: لقد وصلنا للنهاية، وتحققت الغاية، وانتهت الرواية، وأسدل الستار لكن لا يمكن أن تكون الكلمة الختامية للقوى الشريرة الغاشمة… إنما الكلمة النهائية لذاك الذي قال: “أنا الألف والياء، البداية والنهاية، الأول والآخر” (رؤ22: 13). لقد قام رب الحياة غالبًا منصورًا، وعاد جيش الموت مهزومًا ومقهورًا.
كيف لا ومكتوب عن إلهنا “عند الرب السيد للموت مخارِج” (مز68: 20). عندما أدرك صاحب المزامير أن البشر مهما علت مكانتهم وسلطاتهم لن تكون لهم الكلمة النهاية لذلك شدا قائلاً بأغنيته الجميلة “الرب لي فلا أخاف. ماذا يصنع بي الإنسان؟” (مز118: 6).
لأنه أصبح لا يخشى ما يقرره البشر، فمن ذا الذي يقول فيكون والربّ لم يأمر؟” (مرا3: 37).
يا له من أمر يُطمئنا عندما نعلم أن إلهنا هو الذي يقرر النهاية كيف تكون؟ ومتى تكون؟
نعم! قد يصرح الأطباء بخطورة المرض، ويرون استحالة الشفاء منه بحسب النظريات العلمية، وقد يصدر القضاء حكمه النهائي والبات في قضية ما، وقد يدبر الأشرار مؤامراتهم في الظلام مع سبق الإصرار والترصد، وقد يرى الناس الصورة ضبابية وهم يتابعون الأحداث، لكن الحقيقة أنه طالما الله لم يقل كلمته النهائية بعد، فلا يمكن أن تكون النهاية بعد، إذ أنه هو وحده صاحب الكلمة الأخيرة والنهائية والختامية.
10- وإذا كانت الشدائد والضيقات هي الطابع العام لحياتنا على هذه الأرض، لكن يبقى الرب هو المصدر الدائم الذي يمدنا بالتعزية والقوة التي تمكننا من مواجهة الحياة اليومية بمعنويات مرتفعة، والرب في سخاء نعمته المعهود يعزينا “تعزية ليست بقليلة” (أع20: 12) لنستطيع أن نجد متعة ولذة في حياتنا رغمًا عن همومنا فمكتوب: “عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذذ نفسي.” (مز94: 19). وفرحًا في ضيقاتنا فمكتوب: “احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة” (يع1: 2).
نعم! تعزيات الرب تعطينا قوة لمواصلة أعمالنا وتحقيق أهدافنا، وتعزياتنا لا تأتي من فراغ، ولكنها مبنية على مواعيد الله الأكيدة المطمئنة “إذا اجتزت في المياه فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك. إذا مشيت في النار فلا تلذع، واللّهيب لا يُحرِقُكَ” (إش43: 2) ووعده “تعالَوْا إلَيَّ ياجميعَ المُتعَبينَ والثَّقيلي الأحمالِ، وأنا أُريحُكُمْ. “(مت11: 28).
وحتى عندما يسمح الله في حكمته أن تمتد إلينا وتشتد علينا الآلام، فإننا نجد في رجاء المجد الأبدي السعيد تعزيتنا الكبرى وسلامنا العميق، ليس لأن آلام الزمان ستنتهى، ولكن بالأكثر لأن فرحتنا بلقاء مَنْ أحبنا وأسلم نفسه لأجلنا فرح فوق حد التصور، وهذا هو الرجاء الذي نعيش به في مسيرة غربتنا، والذي يجعلنا نشدو مرنمين “فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا” (رو8: 18).
وهذه هي كلمته النهائية والختامية لمسيرتنا في البرية.
عبرة في عبارة
الإحساس والشعور بالأمان
والخوف من غدر الزمان
لا يسكنان معًا في القلب العامر بالإيمان.