الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر
نائب رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر
يخلط البعض بين الطموح والطمع، ولكن الحقيقة شتان الفرق بينهما، فالطموح طاقة إيجابية مقدسة وضعها الله في داخل الإنسان حتى تستمر عجلة الحياة في تقدم مستمر.
أما الطمع فهو طاقة سلبية مدمرة، عندما يترك الإنسان نفسه لها يهدر كرامته، ويخسر أبديته لأن الطمع يجعل الإنسان يتمركز حول ذاته ولذاته بأنانية ونرجسية بغيضة…
والطموح يتطلع دائمًا لمزيد من النجاح والتميز في إطار من القيم والمبادىء.
أما الطمع يفكر دائمًا في الأخذ، وإشباع الغرائز والشهوات مهما كانت النتائج دون اكتراث بأية قيم أو مبادىء أو أخلاق.
والطموح يعرف المنافسة الشريفة من خلال الإتقان والتفوق والإبداع في الدور الذي يقوم به الإنسان.
أما الطمع لا يعرف سوى الصراع المرير، ومحاولة الوصول للمطمع حتى ولو على حساب تدمير الآخر بأي ثمن، وبأي إسلوب.
هذا وعندما نعود لكلمة الله نكتشف أن هناك حقائق كثيرة عن الطموح والطمع فى مقابل حياة القناعة أذكر منها الآتي:
أولاً: الطموح لا يتعارض مع القناعة
جدير بالذكر أن أول وصية أعطاها الله للإنسان نجدها في قوله لآدم وحواء (تك1: 27، 28): “أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوانٍ يدب على الأرض”، ويأتي الفعل “أثمروا” بمعنى “أنمو.. تقدموا.. تطوروا ” ولا تتحقق هذه الرغبة الإلهية إلا بتفعيل وزنة الطموح التي غرسها الله في أعماقنا، فلولا طموح الإنسان ما وصلت البشرية لما هي عليه الآن من تقدم وتطور في كل المجالات العلمية والطبية والثقافية والفنية، ولولا الطموح لظل الإنسان إلى اليوم يعيش في العصر الحجري، ولولا الطموح الروحي، ما كنا نرى عمل الله يمتد هنا وهناك، وما كنا نرى التلاميذ يفتنوا المسكونة، ويغيروا وجه التاريخ.
هذا وتدعونا كلمة الله بكل صراحة ووضوح إلى حياة القناعة والإكتفاء فعلى سبيل المثال يكتب الرسول بولس إلى تيموثاوس قائلاً:” وأما التقوى مع القناعة فهي تجارة عظيمةٌ. لأننا لم ندخل العالم بشيءٍ، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيءٍ. فإن كان لنا قوتٌ وكسوةٌ، فلنكتف بهما”(1تي6: 6- 8).
هذا وفى الوقت نفسه نجد الإيمان يحفز فينا روح الطموح، ويولد فينا أسمى الأماني، ويخلق فينا العزيمة والإرادة والتحدي لتحقيق الأمنيات التي نتوق إليها، فالإيمان لا يعرف المستحيل بل شعاره “أستطيع كل شيءٍ في المسيح الذي يقويني”(في4: 13).
وهنا نجد أنفسنا أمام علامات استفهام كبيرة ومثيرة للحوار والنقاش؟! فهل من تعارض أو تناقض بين القناعة والطموح؟!.
إن الدارس لكلمة الله يكتشف أن الطموح والقناعة فضيلتان لا تناقض بينهما، بل يمكن أن يسيرا جنبًا إلى جنب، يساند كل منهما الآخر.. القناعة فضيلة نقيضها الطمع والجشع، والطموح أيضًا فضيلة نقيضها الكسل والتواكل.
هذا وعلى صفحات الوحي المقدس نرى العديد من النماذج الإنسانية المضيئة المشهود لها بحياة الإيمان والقناعة والرضى، وفي نفس الوقت مليئة بالطموح على سبيل المثال لا الحصر:
نرى شخصية يوسف الذي لقبوه إخوته بأنه “صاحب الأحلام” (تك37: 19) ولا شك لقد كانت أحلامه هي الدافع لجهاده واجتهاده وصبره ومثابرته حتى حقق الانتصار على الأزمات التي مر بها.
وفي (يش14: 11) نقرأ عن كالب وهو يقول: والآن فها أنا اليوم ابن خمس وثمانين سنة فلم أزل اليوم متشددًا كما في يومَ أرسلني موسى. كما كانت قوتي حينئذٍ، هكذا قوتي الآن للحرب وللخروج وللدخول”. إنه كما يصوره البعض من المفسرين “رجل الشباب الدائم”. لقد كان ممتلئًا بالطاقة والحيوية والنشاط والإرادة والطموح فنراه يطلب من يشوع بعد ذلك قائلاً: “فالآن أعطني هذا الجبل، وكان هذا الجبل هو جبل حبرون حيث يسكنه بني عناق العمالقة، وكانت مدنهم حصينة ومنيعة وعصية على إقتحامها، ورغم ذلك فتحها ودخلها وانتصر وصارت حبرون ملكًا له” (راجع خر14: 10- 15).
وفي (1أخ4: 9) تصور لنا عدسة الوحي المقدس يعبيص وهو يصلي قائلاً:” ليتك تباركني، وتوسع تخومي” (التخوم هي الحدود). ” تكون يدك معي، وتحفظني من الشر حتى لا يتعبني” كان يتطلع ويطمح أن تتسع بقعة الأرض التي يمتلكها، وبالفعل إستجاب له الله.
ونقرأ في كلمة الله عن طموح اليشع حتى أن إيليا عندما سأله: “ماذا أفعل لك قبل أن أوخذ منك، كانت إجابته: “ليكن نصيبُ اثنين من روحك عليَّ”(2مل2: 9).
ومن منا ينسى قصة داود وهو في مقتبل حياته عندما سمع عن المكافأة المرصودة لمن يقتل جليات، وكيف دفعه طموحه عندما عرف أن من يقتله سوف يغنيه شاول الملك، ويزوجه ابنته، ويجعل بيته حرًا (راجع 1صم17).
ويعوزني الوقت إن أخبرت عن أبطال الإيمان الذين بطموحهم سطر الوحي عنهم قائلاً: “بالإيمانِ: قَهروا ممالك، صنعوا برًا، نالوا مَواعيدَ، سدوا أفواهَ أسودٍ أطفأوا قوة النارِ، نجوا من حد السيف، تقووا من ضعفٍ، صاروا أشداء في الحرب، هزموا جيوش غرباء” (عب11: 33-34).
ثانيًا: الطموح يلزمه رؤيا واضحة وخطة مدروسة
يقول الحكيم “بلا رؤيا يجمح الشعب” (أم29: 18). والرؤيا هي الهدف الواضح المحدد المعالم، المبني على إمكانيات وقدرات قادرة على تحقيق الهدف، وهي تصور لما يجب أن يكون عليه المستقبل.
والطموح يتحقق عند الإنسان صاحب الرؤيا الواضحة، فالإنسان الذي يسير بأسلوب عشوائي، يستنزف جهده، ويبدد طاقته دون أن يصل إلى أي شيء، فمن لا يعرف إلى أين هو ذاهب سوف يصل إلى المجهول.
في يقيني أن سر نجاح نحميا أن الرؤيا كانت واضحه لديه… فلقد وضع في قلبه أن يبني الأسوار المنهدمة، فأيقظ همه وعزيمة الشعب، وقام بتعبئة الناس بالفكرة، وحفزهم ودفعهم لتحقيق حلمه وطموحه وقال لهم: “هلم فنبني سور أورشليم ولا نَكون بعد عارًا” (نح2: 17). وبخطة حكيمة، وبروح الفريق الواحد قاموا ببناء السور.
ثالثًا: الطموح يدفع إلى الإقدام والمغامرة
إن الإنسان الطموح لابد أن يكون واثقًا بنفسه، فالثقة بالنفس تدفع الشخص ليقتحم مجالات جديدة، دون أن يعبأ أو يكترث بأية مخاطر أو مخاوف، ودون أن يتخاذل أو يتراجع أمام أي ترغيب أو ترهيب.
نعم! إن الشخص الذي يود أن يحقق طموحاته لابد أن يتحلى بروح المغامرة والإقدام ببسالة وجسارة، والحقيقة أن الإيمان في جوهره مغامرة، لعل هذا يذكرنا بشعب الرب وهو في طريقه إلى الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً، عندما وصل إلى شاطىء الأردن، وكان ممتلئًا للنهاية، وكان لابد من عبوره، فأراد الله أن يدرب شعبه على المغامرة فقال لهم: “ويكونُ حينما تستقر بطون أقدام الكهنة حاملي تابوت الرب سيد الأرض كلها في مياه الأردن، أن مياه الأردن، المياه المنحدرة من فوق، تنفلق وتقفُ ندًّا واحدًا”(يش3: 13).
كان لابد أن تنزل أرجلهم إلى الماء بل وتستقر في المياه حتى تقف المياه ندًا واحدًا، وقد حدث… هذه هي المغامرة التي تحقق الطموح… فمن يخاف الفشل لا يحقق شيئًا ينشده، واليد المرتعشة لا يمكن أن تُصيب هدفًا.
رابعًا: الطموح يتحقق بالصبر والمثابرة
من يريد أن يحقق طموحاته لابد أن يستغل وقته، ويكرس جهده، ويتفاني ويبدع في عمله، “فما نيل المطالب بالتمني”… “ومن جد وجد”… “ومن طلب العلا سهر الليالي”.
إن كلمة الله تدين الكسل، وتحذرنا من التراخي فيقول الحكيم في (أم10: 4) “العامل بيدٍ رخوةٍ يفتقر، أما يد المجتهدين فتغني”. (اقرأ أيضًا أم12: 27، 20: 13).
نعم! إن رجال الله العظماء الذين حملوا لواء الخدمة، وأصبحوا نجومًا مضيئة في سماء المجد… بل وكل شخص حفر اسمه في التاريخ الإنساني، وأضحى علمًا وعلامة، وقيمة وقامة، لم يأت هذا من فراغ، ولكن بالسهر والتعب والكفاح الصلب الذي لا يلين.
عبرة في عبارة:
(أفقر الناس من ليس لديه قناعة بما عنده.. وأغنى الناس من لا يشتهي شيئًا، ولا ينتظر من أحد أي شيء)