17.4 C
Cairo
الإثنين, نوفمبر 25, 2024
الرئيسيةفكر مسيحيمن هو يسوع المسيح؟ سجلات أتباع يسوع المسيح بين الأسطورة والحقيقة؟ ومدى...

من هو يسوع المسيح؟ سجلات أتباع يسوع المسيح بين الأسطورة والحقيقة؟ ومدى موثقيتها

د. وليم لين كريج

حين كنتُ طالبًا في كلية ترينيتي في منتصف سبعينيات القرن العشرين، رأيتُ مقالة معلقة على لوحة إعلانات عن كتاب سيظهر قريبًا، وقتها، بعنوان “خرافة الله المتجسد” (The Myths of God Incarnate)، والذي يصف كيف كان الأستاذ جون هِك في جامعة بيرمنجهام قد جمع فريقًا من سبعة علماء يقولون إن المسيح الإلهي الذي نقرأ عنه في الأناجيل هو خرافة. وقالوا أيضًا إن يسوع الناصري، في الحقيقة، لم يدع قط أنه ابن الله أو الرب أو أنه شخصية إلهية من أي نوع، وبناءً على ذلك نحتاج إلى التخلص من هذه المعتقدات الكاذبة والبالية.

أتذكر شعوري بالغيظ وبالإحباط بسبب المقالة، وقلتُ في نفسي: لماذا لا يجيب علماء العهد الجديد عن هذه الأشياء؟ ولماذا لا يُعترض على هذه الأمور في الصحافة؟ لم أكن أدرك حينها إلا القليل بشأن ثورة حقيقية في علم العهد الجديد، وأنها ستنتشر بعد وقت قصير من ذلك الحين مثل هذا التشكيك، وستؤكد أن الأناجيل موثوق بها تاريخيًا بوصفها مصادر عن حياة يسوع المسيح وما قاله. لا يزال النقاد الراديكاليون يحصلون على تساهل من صحافة اليوم لما لديهم من كلام يستفز اهتمام الجماهير، لكنهم يُهَمَشون بصورة متزايدة في الوسط الأكاديمي إذ وصل العلم إلى تقدير جديد للموثوقية التاريخية لوثائق العهد الجديد. ونريد في الفصلين التاليين أن نلقي نظرة على بعض من الأدلة التي ستمكِّنك من تكوين حُجة تؤكد تصريحات يسوع الشخصية الراديكالية وقيامته، ومن ثَمَّ تأييد الإيمان به.

سجلات أتباع يسوع وثائق لمعرفة حياته وتعليمه

نواجه في الحال مشكلة، فحيث إن يسوع نفسه لم يترك وراءه أية كتابات وضعها بنفسه، فنحن معتمدون على سجلات آخرين لمعرفة ما قاله يسوع وما فعله، وهذا الموقف ليس بغريب فيما يخص شخصيات قديمة، فمثلًا، لم يخلِّف الفيلسوف الإغريقي الشهير سقراط وراءه أيضًا أية كتابات وضعها بنفسه، ونعتمد على تلميذه أفلاطون في معظم معرفتنا عن حياة سقراط وتعليمه. وبالطريقة نفسها، نعتمد على سجلات أتباع يسوع لمعرفة حياته وتعليمه.

ومع أن الموقف غير مستغرب، فإنه يثير سؤالًا: كيف نعرف أن هذه السجلات دقيقة؟ فقد يكون أتباع يسوع قالوا إنه قال وفعل أمورًا معينة لم يكن قد فعلها حقًا، فما دام المسيحيون الأوائل قد آمنوا بأن يسوع هو الله، فربما ألفوا أقوالًا وقصصًا بشأن تصريح يسوع بأنه إلهيٌّ، وبذلك لا ينبغي أن نُدهش أن يسوع التاريخي الذي عاش حقًا كان مختلفًا جدًا عن الشخصية الإلهية التي نقرأ عنها في الأناجيل، فكيف يمكننا معرفة ما إذا كانت هذه السجلات دقيقة تاريخيًا؟

حتى في الحقبة المعاصرة، كان هذا النوع من الأسئلة غير قابل للإجابة أساسيًا، ولكن مع ظهور النقد النصي والدراسة المعاصرة للتاريخ، بدأ المؤرخون يطورون أدوات لحل هذه الأسئلة، ولم يُعد يسوع اليوم مجرد شخصية في نافذة من زجاج ملون، لكنه شخص تاريخي حقيقي من دم ولحم، تمامًا مثل يوليوس قيصر أو الإسكندر الأكبر، ويمكن أن تُفحص حياته بوسائل التاريخ القياسية، ويمكن أن تُدرس الكتابات التي يحويها العهد الجديد باستخدام الضوابط التاريخية نفسها التي نستخدمها في فحص مصادر تاريخية قديمة مثل “الحرب البيلوبونيسية” (Peloponnesian War) لثوسيديديس (Thucydides) أو “الحوليات” (Annals) لتاسيتس (Tacitus).

والآن أول ما نحتاج إلى فعله للفحص التاريخي عن يسوع هو تجميع مصادرنا، فقد أشير إلى يسوع الناصري في نطاقٍ من المصادر القديمة في العهد الجديد وخارجه، بما في ذلك مصادر مسيحية ورومانية ويهودية. ونجد أنه كانت لديه حياة عامة مدتها ثلاث سنوات بوصفه معلمًا جليليًا متجولًا، ومع ذلك لدينا معلومات عن يسوع أكثر من المعلومات التي لدينا عن معظم الشخصيات العظيمة القديمة. أهم هذه المصادر التاريخية جُمع إلى العهد الجديد، وتميل الإشارات إلى يسوع خارج العهد الجديد إلى تأكيد ما نقرأه في الأناجيل، لكنها لا تخبرنا بأي شيء جديد حقًا، ومن ثَمَّ يجب أن يكون التركيز في استقصائنا على الوثائق الموجودة في العهد الجديد.

أجد أن الكثير من العامة لا يفهمون هذه العملية، إذ يطنون أنه إذا فُحصت كتابات العهد الجديد نفسها بدل النظر إلى مصادر من خارج العهد الجديد تكون بصورة ما تحتج في إطار منطق دائري، مستخدمًا الكتاب المقدس لتُثبت الكتاب المقدس. وإذا اقتبست فقرة من العهد الجديد، فيظنون أنك بشكل ما تخلص إلى ما هو حاجة إلى إثبات، مفترضًا موثوقية العهد الجديد.

لكن ليس ذلك ما يفعله المؤرخون بتاتًا عن فحص العهد الجديد، إذ لا يتعاملون مع الكتاب المقدس بوصفه كتابًا مقدسًا موحى به محاولين إثبات صحته بالاقتباس منه، بل يتعاملون معه تمامًا مثل أية مجموعة أخرى من الوثائق القديمة، فاحصين ما إذا كانت هذه الوثائق محل ثقة تاريخيًا.

من المهم فهم أنه لم يكن هناك في الأصل كتاب يُدعى “العهد الجديد”، بل كانت هناك فقط هذه الوثائق المنفصلة التي سُلمت وانتقلت من القرن الأول، مثل إنجيل لوقا وإنجيل يوحنا وأعمال الرسل ورسالة بولس إلى أهل كورنثوس المدينة اليونانية.. الخ، إلى أن جمعت الكنيسة رسميًا بعد قرنين كل هذه الوثائق ضمن غلاف واحد، صار يُعرف بالعهد الجديد.

اختارت الكنيسة فقط المصادر الباكرة، والتي كانت الأقرب ليسوع وللتلاميذ الأصليين لتضمها إلى العهد الجديد، تاركة المصادر اللاحقة والتقارير الثانوية مثل أناجيل الأبوكريفا المنحولة، والتي كان الجميع يعلمون أنها ملفقة. ومن ثَمَّ ضُمّنت أفضل المصادر التاريخية في العهد الجديد. أولئك الذين يصرون على البرهان المأخوذ فقط من كتابات من خارج العهد الجديد لا يفهمون ما يسألوننا لنفعله، إذ يطالبون بأن نتجاهل المصادر الأولية الأبكر عن يسوع لمصلحة مصادر لاحقة ثانوية وأقل موثوقية، الأمر الذي يمثِّل جنونًا فيما يتعلق بالمنهجية التاريخية.

هذا مهم لأن كل عمليات إعادة البناء الراديكالية ليسوع التاريخي التي نراها في أخبار اليوم مبنية على كتابات لاحقة خارج العهد الجديد، ولا سيما ما يُسمى بأناجيل الأبوكريفا، فما المقصود بأناجيل الأبوكريفا؟ إنها أناجيل منحولة، أي انتحل مؤلفوها أسماء الرسل، مثل إنجيل توما وإنجيل بطرس وإنجيل فيلبس وما إلى ذلك، وقد بدأت في الظهور في النصف الثاني من القرن الثاني للميلاد، ويدّعي بعض المراجعين أن هذه الكتابات من خارج الكتاب المقدس هي المفتاح لإعادة بناء يسوع التاريخي بصورة صحيحة.

يشير الأستاذ لوك جونسون (Luke Johnson)، وهو عالم بارز من علماء العهد الجديد في جامعة إيموري (Emory University)، إلى أن كل الفيض الحديث من الكتب التي تدّعي أنها تكشف يسوع الحقيقي تتبع النموذج المتوقع نفسه:

1- يبدأ الكتاب بالتبويق بشأن المؤهلات العلمية للكاتب وبحثه المعجزي الفائق.

2- يدّعي الكاتب أنه يعرض تفسيرًا جديدًا، وربما مقموعًا، عمن كان يسوع حقًا.

3- يُقال إن الحقيقة عن يسوع مُكتشفة بواسطة مصادر من خارج الكتاب المقدس تمكِّننا من قراءة الأناجيل بطريقة جديدة على خلاف معناها الظاهري.

4- هذا التفسير الجديد استفزازي، بل مثير أيضًا، فمثلًا يقول إن يسوع تزوج بمريم المجدلية، أو كان قائدًا لعبادة مُهلوسة، أو كان فيلسوفًا ريفيًا ساخرًا.

5- ومن ثَمَّ، يفهم ضمنًا أن المعتقدات المسيحية التقليدية معتقدات مقوَّضة، وتحتاج إلى إعادة النظر فيها.

إذا سمعت عن كتب تتبع هذا النموذج المألوف، فينبغي لك إيقاظ عقلك الناقد! فأنت على وشك أن تُخدع، لأن الحقيقة هي أنه ليس هناك مصدر تاريخي ذو مصداقية ومن المصادر خارج العهد الجديد يشكك في صورة يسوع التي رسمتها الأناجيل؛ فأناجيل الأبوكريفا هي كتابات لاحقة مشتقة تشكلت من لاهوت القرن الثاني وما بعده. ومعنى ذلك أنه رغم كل هذا الهرج والمرج فالوثائق التي يحتويها العهد الجديد هي مصادرنا الأولية عن حياة يسوع.

لذا حاول ألا تفكر في العهد الجديد بوصفه كتابًا واحدًا، بل بصفة ما كان عليه في الأصل: مجموعة من الوثائق المنفصلة والتي جاءتنا من الإخبار بهذه القصة الرائعة في القرن الأول عن يسوع الناصري. وينبغي أن يكون السؤال إذًا: ما مدى موثوقية هذه الوثائق تاريخيًا؟

هل الأناجيل بريئة إلى أن تثبت إدانتها؟ أم مدانة إلى أن تثبت براءتها

نواجه هنا السؤال الحيوي نفسه عن عبء الإثبات: فهل يجب أن نفترض موثوقية الأناجيل ما لم تثبت عدم موثوقيتها؟ أم يجب أن نفترض عدم موثوقية الأناجيل ما لم تثبت موثوقيتها؟ هل الأناجيل بريئة إلى أن تثبت إدانتها؟ أم مدانة إلى أن تثبت براءتها، بمعنى أنهم يفترضون عدم موثوقية الأناجيل إلى أن تثبت صحتها فيما يخص حقيقة معينة. ولا أبالغ هنا، فهذه فعلًا طريقة النقاد المشككين.

لكن أود هنا أن أسرد خمسة أسباب لاعتقادي أن هذا الافتراض التشكيكي خاطئ:

1- لم يكن هناك وقت كافٍ كي تزيل التأثيرات الخرافية الحقائق التاريخية المحورية. يقول بعض العامة: “كيف يمكن أن تعرف أي شيء حدث منذ ألفي عام؟” وما يخفقون في فهمه هو أن الفجوة الزمنية الحرجة ليست هي الفجوة ما بين البرهان واليوم، بل ما يهم هو الفجوة ما بين البرهان والأحداث الأصلية التي يتعلق بشأنها البرهان. فإذا كانت الفجوة ما بين الأحداث والبرهان قصيرة، لما كان من المهم مدى بُعد الحدث والبرهان في الماضي، إذ لا يصبح البرهان الجيد برهانًا فقيرًا لمجرد مرور الزمن! ما دامت الفجوة الزمنية ما بين الحدث وبرهان ذلك الحدث قصيرة، تصير المدة الزمنية إلى يومنا هذا أمرًا غير مرتبط بالموضوع.

السؤال إذًا هو: ما مدى قُرب مصادر حياة يسوع من الزمن الذي عاش فيه؟ وسأقول أمرًا بشأن هذا في غضون دقيقة.

2- لا تُقارن الأناجيل، بالحكايات الشعبية أو “الأساطير الشعبية” المعاصرة. فمثلًا حكايات كحكايات بول بنيان (Bunyan) وبيكوس بل (Pecos Bill) أو الأساطير الشعبية المعاصرة مثل “المسافر المختفي” (Vanishing Hitchhiker) نادرًا ما تتعلق بأفراد تاريخيين فعليين، لذا فهي ليست مثل روايات الأناجيل، والتي هي عن أناس حقيقيين عاشوا بالفعل، وأحداث حقيقية وقعت حقًا، وأماكن حقيقية كانت موجودة، فهل تعلم أن في وسعك أن تقرأ عن أناس مثل بيلاطس البنطي ويوسف بن قيافا، بل حتى يوحنا المعمدان في كتابات المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس؟

3- كان النقل اليهودي للتقاليد المقدسة متطورًا وموثوقًا به بدرجة عالية. في ثقافة شفهية مثل تلك الثقافة في أمة العهد القديم القرن الأول، كانت القدرة على حفظ قطع كبيرة من التقليد الشفهي واستبقائها مقدَّرة جدًا، وكانت مهارة متطورة جدًا، ومنذ الصغر كان الأطفال في المنزل والمدرسة الابتدائية وفي المجمع يتعلمون أن يحفظوا التقليد المقدس بأمانة، ومن المتوقع أن التلاميذ مارسوا حرصًا مماثلًا مع تعاليم يسوع، ومقارنة النقل اليهودي للتقاليد بلعبة الأطفال “التليفون الخربان” هي تشويه جسيم.

4- كانت هناك قيود كبيرة على تجميل التقاليد بشأن يسوع، مثل وجود شهود عيان وإشراف الرسل، إذ كان أولئك الذين قد رأوا يسوع وسمعوه لا يزالون في المشهد وكان من الممكن سؤالهم بشأن ما قد قاله يسوع وفعله. والأكثر من ذلك، ظلت التقاليد بشأن يسوع تحت إشراف الرسل الأصليين، وكانت تلك العوامل أشبه بالمراجعة الطبيعية ضد الميل إلى الاستفاضة في حقائق في اتجاه معاكس للاتجاه الذي حُفظ بواسطة أولئك الذين كانوا قد عرفوا يسوع. في الحقيقة، في حالة الأناجيل، سيكون من الأدق أن يكون الحديث بشأن “التاريخ الشفهي” لا عن “التقليد الشفهي”، إذ كان شهود العيان والرسل الأحياء لا يزالون موجودين.

5- لدى كُتَّاب الأناجيل سجل رفيع في الموثوقية التاريخية. فحين يراجع كُتَّاب الأناجيل، نجد أن التناقضات هي الاستثناء لا القاعدة، والنتيجة الطبيعية لمراجعة كهذه هي ظهور موثوقية الأناجيل.

ولما لم تكن لديَّ المساحة لمناقشة كل هذه النقاط الخمس، فلأقل شيئًا ما بشأن النقطتين الأولى والخامسة.

وقت غير كافٍ لإزالة الحقائق المحورية

أولًا: لم يكن هناك وقت كافٍ لكي تزيل التأثيرات الخرافية الحقائق التاريخية المحورية. لا يظن أي عالم معاصر أن الأناجيل هي أكاذيب وقحة ونتيجة لمؤامرة ضخمة؛ فالأماكن الوحيدة حيث تجد نظريات المؤامرة مثل هذه هي المواقع الإلكترونية للملحدين وفي الكتب والأفلام التي تهدف إلى الاستفزاز. فحين تقرأ صفحات العهد الجديد، لا تجد أي شك أن هؤلاء الناس آمنوا بإخلاص بحقيقة ما كانوا ينادون به. ولكن منذ القرن التاسع عشر، فسَّر العلماء المشككون الأناجيل بوصفها أساطير؛ فمثلما حدث مع قصص “روبن هود” أو الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة، انتقلت القصص عن يسوع على مر العقود، وفي أثناء انتقالها تشوشت وضُخّمت وأخذت شكل الأسطورة، إلى أن فقدت الحقائق الأصلية، وتحول المعلم اليهودي إلى ابن الله القدوس. غير أن إحدى المشكلات الكبرى مع فرضية الأسطورة، والتي لا يتناولها النقاد المشككون تقريبًا، هي أن الفجوة الزمنية ما بين موت يسوع وكتابة الأناجيل هي أقصر من أن يكون أمر مثل هذا قد حدث.

شرح هذه النقطة جيدًا إيه. أن. شيروين-وايت (A. N. Sherwin-White) في كتابه “المجتمع الروماني والقانون الروماني في العهد الجديد” (Roman society and Roman Law in the New Testament). والأستاذ شيروين-وايت ليس لاهوتيًا، بل هو مؤرخ محترف متخصص في التاريخ اليوناني-الروماني لأزمنة ما قبل المسيح والأزمنة المعاصرة له. وبحسب شيروين-وايت، فإن مصادر التاريخ اليوناني والروماني هي منحازة عادةً وتبعد جيلًا أو جيلين، بل قرونًا عن الأحداث التي تسجلها. ومع ذلك، فهو يقول إن المؤرخين يعيدون بثقة بناء مسار التاريخ الروماني واليوناني. فمثلًا، كتب السيرتين الأوليتين للإسكندر الأكبر آريانوس (Arrian) وبلوتارخس (Plutarch) بعد أكثر من أربعمائة سنة على موت الإسكندر، ورغم ذلك، فلا يزال المؤرخون الكلاسيكيون يحسبونهما محل ثقة، ولم تتطور الأساطير الخرافية بشأن الإسكندر الأكبر إلا في القرون ما بعد هذين الكاتبين. وبحسب شيروين-وايت، تمكِّننا كتابات هيرودوت من تحديد المعدل الذي تتراكم وفقه الأسطورة، وتُظهِر الاختبارات أنه حتى لو كانت المدة الزمنية الفاصلة هي جيلين، فهي مدة قصيرة جدًا لا تسمح بالميول الخرافية لأن تزيل اللب الأساسي للحقائق التاريخية.

حين يتحول البروفيسور شيروين-وايت إلى الأناجيل، يجد أن تشكيك النقاد المتطرفين هو تشكيك لا مسوغ له، إذ يتفق كل المؤرخين أن الأناجيل دُونت وانتشرت إبان الجيل الأول بعد الأحداث، بينما كان شهود العيان لا يزالون على قيد الحياة. وحتى تكون الأناجيل أسطورية في صلبها، كان هناك احتياج إلى أجيال أكثر بين الأحداث التي تسجلها وتاريخ تأليفها.

في الحقيقة، إضافة فجوة زمنية من جيلين إلى موت يسوع سنة 30 ميلادية تصل بك إلى القرن الثاني حين بدأت أناجيل الأبوكريفا في الظهور، وهي تحتوي على كل أنواع القصص الخرافية عن يسوع في محاولة لملء السنين ما بين صباه وبداية خدمته مثلًا، لذلك فإنها هي التي تُعد مرشحًا أفضل للأساطير التي يسعى إليها النقاد، لا أناجيل الكتاب المقدس.

موثوقية كتّاب الأناجيل

والآن إلى نقطتي الخامسة: لدى كُتَّاب الأناجيل سجل مؤكد من الموثوقية التاريخية. مرة أخرى فلننظر إلى مثال واحد، وهو البشير لوقا الذي كان كاتب العمل المكون من جزأين: إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل.

لوقا يكتب بوصفه مؤرخًا، ففي مقدمة عمله يكتب:

“إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدامًا للكلمة، رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي عُلمت به” (لوقا 1: 1-4).

وهذه المقدمة مكتوبة باليونانية الكلاسيكية والتي كان يستخدمها المؤرخون اليونانيون العظماء. وبعد ذلك يتحول البشير لوقا إلى يونانية أكثر شيوعًا، لكنه ينبِّه القارئ أن في وسعه، إذا أراد، أن يكتب بصفة مؤرخ مثقف، ويتحدث بشأن استقصائه الطويل عن القصة التي هو بصدد أن يحكيها، ويؤكد لنا أنها مبنية على معلومات من شهود عيان، وأنها بذلك هي الحقيقة.

والآن، مَنْ هو هذا الكاتب الذي نسميه البشير لوقا؟ من الواضح أنه هو شخصيًا لم يكن شاهد عيان عن حياة يسوع، لكننا نكتشف حقيقة مهمة عنه من سفر أعمال الرسل. فبداية من الإصحاح السادس عشر من هذا السفر، حين يصل بولس إلى ترواس، وهي في تركيا اليوم، يبدأ الكاتب فجأة في استخدام ضمير المتكلم: “فأقلعنا من ترواس وتوجهنا بالاستقامة إلى ساموثراكي”، “فأقمنا في هذه المدينة أيامًا”، “خرجنا إلى خارج المدينة عند نهر، حيث جرت العادة أن تكون صلاة”… إلخ. والتفسير الأوضح هو أن الكاتب كان قد انضم إلى بولس في رحلته التبشيرية إلى المدن المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط. وفي النهاية، يذهب بصحبة بولس عائدًا إلى أورشليم. ومعنى هذا أن كاتب إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل هو في الواقع شخص على اتصال مباشر بشهود عيان شهدوا على حياة يسوع وخدمته في أورشليم.

لقد حاول النقاد المشككون فعل كل ما يمكنهم فعله لتجنب هذه الخُلاصة؛ إذ يقولون إنه لا ينبغي لاستخدام ضمير المتكلم في سفر أعمال الرسل أن يؤخذ حرفيًا، فقد كان أسلوبًا أدبيًا شائعًا في قصص الرحلات البحرية القديمة، رغم أن الكثير من الفقرات في سفر أعمال الرسل ليست عن رحلات بولس البحرية، بل على اليابسة! الأهم من ذلك أنك حين تختبر هذه النظرية يتضح أنها محض خيال، فلم يكن هناك أسلوب أدبي في عالم الرحلات البحرية القديم يُستخدم فيه ضمير المتكلم، فقد ظهر أن الأمر كله ليس سوى خيال في شكل علم! لا يمكن تفادي خلاصة أن إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل كتبهما مرافق سفر كان مع بولس الرسول، وكانت لديه الفرصة ليجري مقابلات مع شهود عيان عن حياة يسوع بينما كان في أورشليم.

إذًا مَنْ كان شهود العيان هؤلاء؟ ربما يمكننا الحصول على بعض الأدلة باستبعاد كل شيء موجود في الأناجيل الأخرى بخلاف إنجيل لوقا لنرى ما هو فريد بشأن هذا الإنجيل. وحين تفعل هذا ستكتشف أن الكثير من الروايات الفريدة للبشير لوقا لها علاقة بنساء كن يتبعن يسوع – نساء مثل يونّا وسوسنة، وبصورة كبيرة أيضًا نقرأ قصصًا من المطوبة مريم العذراء.

هل كان الكاتب محل ثقة في الحصول على الحقائق؟ يمكِّننا سفر أعمال الرسل من الإجابة عن هذا السؤال إجابة حاسمة؛ فسفر الأعمال يتداخل مع التاريخ العلماني للعالم القديم، والدقة التاريخية لسفر أعمال الرسل ليست محل جدل، حيث ثبت هذا حديثًا من جديد بواسطة كولين هيمر (Colin Hemer)، وهو عالم كلاسيكي اتجه إلى دراسات العهد الجديد. ففي كتابه “سفر الأعمال في مشهد التاريخ الهلنستي”، يتناول هيمر سفر أعمال الرسل بدقة شديدة مستخرجًا ثروة من التفصيل التاريخي، يتراوح ما بين ما كان يُعد معلومات شائعة، مرورًا بتفاصيل معروفة فقط لدى شخص محلي. ومرة أخرى، تظهر دقة لوقا من إبحار سفينة الإسكندرية حاملة الحنطة، إلى التضاريس الساحلية لجزر البحر الأبيض المتوسط، إلى الألقاب الغريبة للمسئولين المحليين – وكان لوقا مُصيبًا في جميعها. وبحسب البروفيسور شيروين-وايت: “إن تأكيد تاريخية سفر الأعمال هو تأكيد غامر، وأي محاولة لرفض تاريخيته حتى في أمور متعلقة بالتفصيل تبدو محاولة عبثية الآن.” ويظل حكم السير وليم رامزي (William Ramsay) قائمًا حيث قال: “لوقا هو مؤرخ من الطراز الأول… هذا الكاتب يجب أن يوضع في مصاف أعظم المؤرخين.”

وإذا وضعنا في الحسبان عناية لوقا والموثوقية الظاهرة، علاوة على تواصله مع شهود عيان إبان الجيل الأول بعد الأحداث، فإن هذا الكاتب يُعد محل ثقة.

استنادًا إلى الأسباب الخمسة التي سردتها، أعتقد شخصيًا أنه من الواجب علينا افتراض الموثوقية التاريخية لما تقوله الأناجيل بشأن يسوع إلا إذا ثبت أنها مخطئة. وعلى أية حال، لا يمكننا على الأقل أن نفترض أنها خاطئة إلى أن تثبت صحتها، فالواجب هو تبنّي موقف محايد.

علامات معايير الأصالة التاريخية والأناجيل

والآن إذا تبنينا بالفعل موقفًا من الحياد في تناولنا للأناجيل، كيف ننتقل إلى ما وراء الحيادية لتأكيد أن حدثًا ما هو تاريخي بالفعل؟ لقد طور العلماء عددًا مما يسمى “معايير الأصالة” لتمكِّننا من فعل ذلك.

إنه أمر غاية في الأهمية أن تُذكر هذه المعايير وتُفهم جيدًا، فقد أُسيء استخدامها بشكل هائل في الكثير من الأحيان. والمعايير هي حقًا مؤشرات الموثوقية التاريخية. فإذا أظهرت قصة في الأناجيل أحد هذه المعايير، بافتراض ثبات كل العوامل الأخرى، تكون هذه القصة على الأرجح تاريخية أكثر من احتمالية كونها تاريخية دون هذه المعايير. وبكلمات أخرى، يزيد وجود أحد هذه العلامات من احتمالية أن يكون الحادث المسجل تاريخيًا.

ما هي علامات الأصالة التاريخية تلك؟ إليك قائمة ببعض أهم هذه العلامات:

1- الملاءمة التاريخية: يلائم الحادث الحقائق التاريخية المعروفة للزمان والمكان.

2- مصادر باكرة ومستقلة: الحادث متصل بمصادر متعددة قريبة من الزمن الذي يُقال إن الحادث وقع فيه، ولا يعتمد بعضها على بعض أو على مصدر مشترك.

3- الإحراج: الحادث غير ملائم أو له نتائج عكسية على الكنيسة الأولى.

4- التباين: لا يماثل الحادث أفكارًا يهودية سابقة أو أفكارًا مسيحية لاحقة أو لا يماثل أيًا منهما.

5- السامية: تظهر في القصة آثار من اللغة العبرية أو الآرامية (التي كان يتكلمها أبناء البلد الذين عاصروا يسوع).

6- التماسك: يلائم الحادث الحقائق المؤكدة بالفعل بشأن يسوع.

لاحظ بعض الأمور فيما يتعلق بهذه “المعايير”: أولًا، كلها علامات إيجابية للمصداقية التاريخية، أي أنه يمكن استخدامها فقط لتأييد تاريخية حادث ما، وليس لنفيه، فإذا لم تكن القصة مُحرجة أو متباينة أو موجودة في مصادر باكرة مستقلة (مثلًا)، فذلك بالتأكيد لا يعني أن الحادث ليس تاريخيًا.

الطريقة الوحيدة التي يمكنك بها استخدام المعايير استخدامًا مبررًا لنفي المصداقية التاريخية هي الافتراض المسبق أن الأناجيل غير موثوق بها إلى أن تثبت موثوقيتها، فهنا نعود ثانية إلى أمر عبء الإثبات! إذا تبنينا موقفًا من الحيادية في تناول الأناجيل، فإن الإخفاق في إثبات تاريخية حادثًا ما يتركنا في موقف من الحيادية، حيث إننا سنعرف فقط ما إذا كان الحادث تاريخيًا أم لا.

ثانيًا، لا تفترض المعايير مسبقًا الموثوقية العامة للأناجيل، إذ تنطبق المعايير على حوادث معينة لا على السفر كله، فيمكن أن تكتشف هذه المعايير شذرات تاريخية من المعلومات في أي مصدر، حتى في أناجيل الأبوكريفا، وذلك يعني أنه من أجل الدفاع عن المعقولية التاريخية لحدثٍ ما في حياة يسوع، لنقُل مثلًا دفنه، لا تحتاج إلى الدفاع عن المعقولية التاريخية لأحداث أخرى مثل ميلاده في بيت لحم، وإطعامه للخمسة آلاف، ودخوله أورشليم في أحد الشعانين وهكذا، إذ يمكن تقييم أحداث محددة بمفردها باستخدام هذه المعايير.

لذا إذا كان نقاشك على أساس المعايير أن يسوع قال تصريحًا راديكالية معينًا، وأشار غير المؤمن إلى أقوال أخرى يظن أنها غير أصلية، فذلك لا يهم، لأنك لا تحاول إثبات عصمة الكتاب المقدس في هذه اللحظة، بل تحاول فقط إظهار أن يسوع صرَّح بهذا التصريح الراديكالي المحدد، وما إذا كان صرَّح بتصريح آخر هو ببساطة أمر غير ذي صلة.

قبل أن نطبق هذه المعايير على أحداث عن يسوع وعلى أقواله في الأناجيل، تجدر الإشارة إلى مشكلة عامة تواجه النقاد الذين ينكرون أن يسوع صرَّح أصلًا بأي من هذا، فنحن نعلم من رسائل بولس أنه في أول عشرين سنة من موت يسوع كان يُعد الله المتجسد، وكان معاصروه يعبدونه على هذا الأساس (فيلبي2: 5-7). ومن المتعذر تفسير كيف كان يمكن أن ينسب يهود موحدون إلوهية إلى إنسان كانوا قد عاصروه إن لم يكن قد صرَّح هو نفسه بأمر مثل هذا، فالتوحيد هو قلب الإيمان اليهودي، وقد كان القول إن إنسانًا هو الله تجديفًا، ورغم ذلك فهذا بالضبط ما أعلنه المسيحيون الأوائل وآمنوا به بشأن يسوع! فلا بد أن تصريحًا مثل هذا كان متأصلًا في تعليم يسوع نفسه. وفي الواقع، نجد بالفعل في تعاليم يسوع وأنشطته تصريحات شخصية بنوعيها واضحة وضمنية توحي بإلوهيته.

الحقيقة هي أنه ليس هناك مصدر تاريخي ذو مصداقية ومن المصادر خارج العهد الجديد يشكك في صورة يسوع التي رسمتها الأناجيل

سفر الأعمال يتداخل مع التاريخ العلماني للعالم القديم، والدقة التاريخية لسفر أعمال الرسل ليست محل جدل

مقالات أخرى

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا