19.4 C
Cairo
الخميس, مايو 22, 2025
الرئيسيةفكر مسيحيمعضلة الشر… قضية الجميع

معضلة الشر… قضية الجميع

جافين أورتلوند

إذا كان الله كلي الصلاح وكلي القدرة، فلِمَ يوجد الكثير جدًّا من الشر والألم في العالم؟

هذا السؤال حول “معضلة الشر” قديم الأزل، وهو على الأرجح أقوى حجة في كل عصر ضد وجود الله. ولهذا السؤال بُعد “عام” و”خاص” على حد سواء. فهو معضلة منطقية تحير الفلاسفة بشأنها، كما أنه صراع عاطفي يواجه كل متألم. فإن هذا سؤال أكاديمي وعملي على حدٍّ سواء.

عندما نكون برفقة شخص متألم، يكون من الأفضل عادة أن نتجنب الكلمات تمامًا، ونكتفي بالدموع، والصمت، والصلاة. بسبب عملي الرعوي، كثيرًا ما يُتاح لي امتياز الوجود مع أشخاصٍ يعانون من حزن عميق. وفي تلك اللحظات، قد يتسبب تقديم تشجيع، أو حتى مبررات في ضرر يفوق المنفعة. فببساطة، من الأفضل أن نجلس مع المتألمين في ظلمتهم.

في بعض الأحيان، يكون علينا أن نقدم جوابًا عن سؤال “لماذا”، سواء لأنفسنا أو لشخص آخر. فعندما نقاسي ألمًا عميقًا، هل يعني ذلك أن الله غير مكترث، أو غير قادر، أو غير موجود على الإطلاق؟ واحدة من أفضل الإستراتيجيات للإجابة عن هذا السؤال ليس هو أن نقدم إجابة مباشرة له، بل أن نلفت الانتباه إلى مفتاح موجود في السؤال نفسه.

خطوط معوجة وخطوط مستقيمة

بعدما تحدث ريتشارد دوكينز (Richard Dawkins) عن كثرة القسوة والعنف والألم الموجودين في العالم الطبيعي، قدم تعبيرًا فصيحًا عن معضلة الشر، قائلًا: في اليوم الذي كتبت فيه هذه الفقرة، كانت الصحف البريطانية جميعها تنشر قصة بشعة عن حافلة مليئة بالأطفال، تابعة لمدرسة كاثوليكية، تعرضت لحادث اصطدام لسبب غير معروف، مما أدى إلى خسارة جسيمة في الأرواح. ولأن تلك لم تكن المرة الأولى، صارع رجال الدين للإجابة عن السؤال اللاهوتي الذي طرحه أحد الكتاب في إحدى صحف لندن (The Sunday Telegraph)، وصاغه كالتالي: “كيف يمكن أن تؤمن بإله محب وكلي القدرة قد يسمح بوقوع مأساة كهذه؟” ثم استطرد هذا المقال الصحفي مقتبسًا إجابة واحد من القساوسة عن هذا السؤال كالتالي: “الإجابة البسيطة هي أننا لا نعلم لمَ قد يوجد إله يسمح بوقوع مثل تلك البشاعات. لكن هول حادث الاصطدام يؤكد، بالنسبة لأي مسيحي، حقيقة أننا نعيش في عالم من القيم الحقيقية، سواء الإيجابية أو السلبية. فلو كان الكون مجرد إلكترونات، لن نواجه معضلة شر أو ألم. بل على العكس، لو كان الكون مجرد إلكترونات وجينات منفصلة، فإن المآسي التي بلا معنى، مثل حادثة اصطدام هذه الحافلة، هي تحديدًا ما يجب أن نتوقعه، بالإضافة إلى أمور حسنة وجيدة هي بلا معنى بالقدر نفسه.

لهذا المقطع تأثير بلاغي قوي، لكنه يحوي أيضًا بعض الاختيارات للكلمات التي تصيبنا بالحيرة. فما الذي قصده دوكينز عندما وصف حادث اصطدام الحافلة بأنه “المآسي التي بلا معنى”؟ كان دوكينز هنا يحتكم إلى ما يتعدى مجرد استيائه الشخصي من حوادث اصطدام الحافلات، بل إن وصفه إياها بأنها “بشعة” و”مأساوية” يحتكم إلى معيار أوسع نطاقًا. فعلى أي أساس أدرج دوكينز في كلامه تلك الألفاظ الأخلاقية والتقييمية؟ رفض دوكينز الرد الذي قدمه القس، لكن يبدو أنه قد فاته المعنى المقصود من وراء هذا الرد: فالقضية التي أثارها هذا القس لم تكن تتعلق بما إذا كان من الممكن أن نتوقع وقوع المآسي أم لا، بل تتعلق بالسبب الذي لأجله تمثل هذه المآسي معضلة بالنسبة لنا.

قدم سي. إس. لويس تعبيرًا كلاسيكيا عن تلك المعضلة، قائلًا: “إن حجتي ضد الله هي أن الكون يبدو شديد القسوة والظلم، لكن من أين جاءتني الأفكار عن الفرق بين العدل والظلم؟ فالإنسان لا يستطيع أن يصف خطا بأنه معوج ما لم تكن لديه فكرة عن شكل الخط المستقيم”.

فلا يمكن أن نعرف ما “ينبغي” أن يكون من خلال ما هو “كائن” بالفعل. فإن حادث اصطدام الحافلة لن يكون “مأساة” ما لم يكن من المفترض ألا تصطدم الحافلات، تمامًا كما أن الخط المعوج لن يكون معوجًا ما لم يوجد خط مستقيم. لكن إذا لم يوجد شيء وراء هذه الطبيعة –وإذا كان ابتلاع القوي للضعيف هو الطريقة التي أتينا بها جميعًا إلى هذا العالم، ومن ثم فإن العالم لطالما كان بهذا الشكل- فلمَ من المفترض ألا تتحطم حافلات المدارس؟

أو لنأخذ مثالًا للشر أشد بشاعة، كالإبادة الجماعية. فأي شخص عقلاني سيقر بأن مثل تلك الأحداث ليست مجرد أحداث مؤلمة أو مزعجة، لكنها فعليا أحداث خاطئة وغير سليمة. لكن لو كان سبب وجودنا الحقيقي هو مجرد عمليات عشوائية داخل نظام مغلق، فإن مثل تلك الأحداث لن تختلف من حيث الكيف عن ابتلاع سمكة قرش لفقمة، أو عن تحلل حشرة ما بفعل النباتات صائدة الحشرات. فإن هذا سيكون ببساطة الكيفية التي يمارس بها الكون عمله الطبيعي. مثل هذا الكون قد يثير استياءنا، لكن لن تكون لدينا أية أسس تدفعنا إلى أن نرى “مشكلة” في الطريقة التي يعمل بها.

عش ومت اليوم

وصلت إلى إدراكٍ قوي لهذه الفكرة مؤخرًا عندما شاهدت فيلم The Grey، الذي عرض في عام 2011، والذي يروي قصة عدد من رجال التنقيب عن النفط كانوا يحاولون الصمود والبقاء على قيد الحياة في مواجهة قطيع من الذئاب بعدما سقطت طائرتهم وتحطمت. هذا الفيلم، بحسب فهمي، هو استعراض لمفهوم العدمية والموت: فإن الحوار بين الشخصيات، والحبكة الدرامية، بل وبيئة الفيلم نفسها (صحراء ألاسكا الوعرة) تشدد جميعها على حتمية الموت الساحقة. ويبدو أن رسالته الرئيسية هي: “الموت هو كل ما هو موجود، ولذلك اخرج من العالم بطريقة مثيرة”.

تردد الشخصية التي أداها ليام نيسون (Liam Neeson) في هذا الفيلم تلك القصيدة طوال الفيلم، ثم مرة أخرى أخيرة في نهاية الفيلم وهو داخل إلى عرين الذئب. ففي لحظة مؤثرة في الأحداث، وقبل موت البطل مباشرة، وبعدما مات جميع أصدقائه، صرخ إلى الله، ملتمسًا إشارة منه، لكنه لم يتلق أي رد.

هذا محرك للمشاعر، بل ومأساوي (بلغة دوكينز). لكن، يفاجئني السؤال التالي: لمَ أرى أن هذا أمر محزن؟ فداخل حدود العدمية، ليس سهلًا أن ندرك لم قد يحدث تصوير الموت مثل هذا التأثير العاطفي.

فبحسب العدمية البحتة، لمَ كان ينبغي أن يتوقع بطل الفيلم أن يأتيه أي رد على الإطلاق من الله؟ فلو كان الموت هو كل ما هو موجود بحق، فلمَ نتوق ببساطة إلى أن “نعيش ونموت اليوم”؟ أو إذا كانت “تلك الليلة السعيدة” (أي الموت) هي كل ما هو موجود، وإذا كانت تلك الليلة سعيدة بحق، فلمَ لا ندخلها في هدوء ورفق واستسلام؟ فإن حقيقة أن العدمية تثير التوتر والإزعاج هي نفسها تدفعنا إلى أن نتساءل عما إذا كانت العدمية هي الإجابة كاملة عن أسئلتنا. فإن الخطوط المعوجة تصرخ مطالبة بتفسير.

معضلة الخير

إن معضلة الشر قضية عامة. فإذا كان الله موجودًا، سيكون علينا أن نفسر سبب وجود الشر. لكن لو لم يكن الله موجودًا، فسيكون علينا أيضًا أن نفسر سبب اعتراضنا على “الشر”. يمكن للمؤمن أن يصارع مع الشر، ويمكن للشكوكي أيضًا أن يصارع مع الخير. يمكن للمؤمن أن ينوح على الخطوط المعوجة، لكن على الشكوكي أن يفسر سبب كونها معوجة.

بالنسبة للمؤمن، ينبع تفسير الشر من الأفكار عن الخلق والسقوط، وصولًا للصليب تلك “المأساة البشعة” المطلقة، والخط المعوج المطلق، و”المعركة الأخيرة” المطلقة.

ومع ذلك، لا تبدد هذه الإجابات كل الغموض، ولا تمحو شوكة الشر. فيمكن للمؤمن أن يخوض مع الشر الصراع عينه الذي يخوضه الشكوكي. فإننا نشعر بأن الشر أمر مربك، وغير وارد، ومحير، وظالم. وربما يروق لنا ذلك العزم الكئيب الذي به دخل ليام نيسون إلى عرين الذئب. بل وربما نقدر الشعور الكامن وراء الكلمات القائلة: “لا تدخل برفق إلى تلك الليلة السعيدة”.

لكن، لدينا بعض الإدراك أيضًا لسبب كون الموت مأساويا إلى هذا الحد. فإننا نعلم سبب وقوفنا جميعًا في صف نيسون ضد الذئب، ولدينا القدرة أن نؤكد كلًا من الظلمة المرعبة والجمال المؤثر لهذا العالم. والأكثر من ذلك أنه بفضل القبر الفارغ، لدينا رجاء بأنه يومًا ما سيهزم الشر إلى الأبد، وكل خط معوج سيستقيم.

مقالات أخرى

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا