القس رأفت رؤوف الجاولي
إن خدمة العطاء تُعد من أهم الخدمات التي لها مكانة كبيرة في فكرنا المسيحي استنادًا على ما جاء في كلمة الله، ولدي يقين أنه لا يوجد أحد على الإطلاق في كنائسنا يتصور أنها خدمة هامشية، بل على العكس تمامًا فقد يحلو لنا التأمل في معنى وقيمة وأهمية العطاء. لكن يا ترى هل التصور الفكري العميق لدينا يتماشى مع الممارسة الكنسية في اجتماعاتنا المختلفة؟!!! ونتأمل في هذا الموضوع من خلال فكرتين رئيسيتين:
أولاً: المفهوم الكتابي لخدمة العطاء: في الإصحاحين (8، 9) من الرسالة الثانية لأهل كورنثوس: يقدم بولس الرسول فلسفة العطاء في المسيحية وذلك من خلال أمرين رئيسيين:
1. نموذج العطاء في كنائس مكدونية: “ثم نعرفكم أيها الإخوة نعمة الله المعطاة في كنائس مكدونية أنه في اختبار ضيقة شديدة فاض وفور فرحهم وفقرهم العميق لغنى سخائهم لأنهم أعطوا حسب الطاقة أنا أشهد وفوق الطاقة من تلقاء أنفسهم ملتمسين منا بطلبة كثيرة أن نقبل النعمة وشركة الخدمة التي للقديسين وليس كما رجونا بل أعطوا أنفسهم أولًا للرب ولنا بمشيئة الله” (2كو8: 1-5)
ونعرض ما قصده الرسول باختصار: يتحدث الرسول هنا لأهل كورنثوس (إقليم إخائية) عن نعمة العطاء التي ظهرت في كنائس مكدونية نحو إخوتهم المؤمنين المحتاجين، وذلك ليحث أهل كورنثوس على أن يعملوا مثلهم. كان كل دافعهم في العطاء هو عمل نعمة الله في القلب، لذلك فقد أعطوا بفرح عظيم برغم كونهم في اختبار ضيقة شديدة. ونلاحظ أنهم شعروا بفرح عميق إذ أعطوا ففاض وفور فرحهم فهم أعطوا بإرادتهم الحرة وبأكثر من طاقتهم برغم ظروفهم القاسية وذلك لأنهم “أعطوا أنفسهم أولاً للرب” ثم أعطوا أنفسهم لاحتياجات الرسل “ولنا بمشيئة الله”.
2- قانون العطاء وبركاته: “هذا وأن مَنْ يزرع بالشح فبالشح أيضًا يحصد ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد. كل واحد كما ينوي بقلبه ليس عن حزن أو اضطرار لأن المعطي المسرور يحبه الله. والله قادر أن يزيدكم كل نعمة لكي تكونوا ولكم كل اكتفاء كل حين في كل شيء تزدادون في كل عمل صالح. كما هو مكتوب فرق أعطى المساكين بره يبقى إلى الأبد والذي يقدم بذارًا للزارع وخبزا للآكل سيقدم ويكثر بذاركم وينمي غلات بركم مستغنين في كل شيء لكل سخاء ينشئ بنا شكرًا لله لأن افتعال هذه الخدمة ليس يسد أعواز القديسين فقط بل يزيد بشكر كثير لله إذ هم باختبار هذه الخدمة يمجدون الله على طاعة اعترافكم لإنجيل المسيح وسخاء التوزيع لهم وللجميع وبدعائهم لأجلكم مشتاقين إليكم من أجل نعمة الله الفائقة لديكم فشكرًا لله على عطيته التي لا يُعبَّر عنها” (2 كو 9: 6-15).
ونعرض ما قصده الرسول باختصار: هنا يشبِّه العطاء بالزرع، فالذي يعطي بسخاء يكون له إيمان أن الله يمكن أن يغنيه جدًا، وأهم بركة هي الشعور بالاكتفاء والرضا والقناعة، فالله هو أصل النعم والبركات، مادية وروحية. لذا فكل عطاء يقود إلى تقديم الشكر الكثير لله. فشكرًا لله على عطيته التي لا يُعبَّر عنها (ع 15). أما العطية التي لا يُعبَّر عنها فهي ليست سوى المسيح يسوع، فليست عطية أعظم منه. إنها تلك المحبة التي لا يُعبِّر عنها التي ظهرت في التجسد وفي الصليب، فإن أعطينا كل أموالنا وأنفسنا وحياتنا وأرواحنا فإنها بكل تأكيد تعد لا شيء أمام العطية التي لا يُعبَّر عنها.
ثانيًا: الممارسة الكنسية لخدمة العطاء: عادةً في نهاية اجتماعاتنا الكنسية يقول الخادم أو راعي الكنيسة: “دعونا الآن نعبد الله بجمع عطايانا”. بالطبع خدمة “العطاء” هي خدمة هامة وأهميتها لا ترجع أبدًا لجمع المال أو قيمة المبالغ التي يتم جمعها بل ترجع قيمتها إلى مفهوم ومعنى “العطاء” كما سبق التأمل في ما جاء في (2كو8 و9).
وعادةً في فقرات العبادة المختلفة من تسبيح وصلاة ووعظ نعطي وقارًا كثيرًا، فهل خدمة العطاء نمارسها بنفس روح الوقار والخشوع؟!! إذا أردنا أن نتحدث بصراحة فنستطيع القول إننا بالفعل نطبق الجزء الثاني من العبارة السابقة، أي نقوم بجمع عطايانا أما الجزء الأول من ذات العبارة: “نعبد الله” فحدّث ولا حرج. إنها عبارة شكلية تأخذ شكلاً روتينيًا أكثر من أن يكون لها المعنى المقصود أو الغرض المنشود لممارسة أي نوع من العبادة. فالحقيقة أنه لا توجد أي ممارسة للعبادة أثناء جمع العطاء، فمع الوقت أصبح المهم هو الجمع المالي. لذا أصبحنا نحاول أن نضع أي أمر نعلنه أو نقوله خلال هذا الوقت لملء الفراغ، فهي الآن فقرة الإعلانات الرئيسية للكنيسة فغاب عن المشهد تمامًا لمن نعطي وأصبح كم نعطي، فتحول الهدف الروحي التكريسي العميق إلى عمل مالي بحت. وبالطبع فالمشروعات الكنسية هامة وتسديد الاحتياجات مهم للغاية. هذا أمر له كل التقدير، لكن “العطاء” هو معنى تكريسي عميق لذا نقرأ: “شكرًا لله على عطيته التي لا يُعبَّر عنها” (2كو9: 15). وأيضًا قول المسيح للسامرية: “لو كنتِ تعلمين عطية الله ومَنْ هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبتِ أنت منه فأعطاكِ ماءً حيًا.” (يو4: 10).
فالرب يسوع هو “العطية الثمينة الغالية” فلا يليق اعتبار “العطاء” مجرد فقرة في البرنامج الكنسي بل إن أردنا التطبيق الروحي الحقيقي لما سبق ذكره في: “أولاً”
– فيجب أن يكون هناك جزء من العبادة يُسمى “خدمة العطاء” يسبق العظة مباشرةً. والقصد هو القيام بخدمة فعلية تشير للعطاء وليس المقصود تقديم عظة بل تأمل مختصر عميق ثم وقت صلاة تكريسي مُركَّز لمراجعة تكريسنا للرب ومدى امتلاء قلبنا وفكرنا بعطية الله التي لا يُعبَّر عنها.
– وضع هذه الخدمة في الفقرات الأولى للاجتماع إنما يخلق وعيًا بأن لها أولوية وأهمية بعكس وضعها في نهاية وقت العبادة والذي يجعلها مهمشة أو مرتبطة بأن الاجتماع فعليًا قد انتهى.
– ثم أخيرًا في الممارسة السليمة لخدمة “العطاء” فإن “الجمع المالي” يجب أن يأخذ آخر وقت فيها ليس تقليلاً بل تطبيقًا عمليًا لما سبق، فيكون دفع الأموال مرتبطًا بذلك الفكر التكريسي العميق للعطاء.
وإذا اعترض البعض على ذلك فإننا نسأل ببساطة: وما البديل؟ فهل نستمر فيما نفعله دون وعي لمجرد أننا اعتدنا عليه أم نخلق تجديدًا عميقًا يغير المعنى السطحي الموجود إلى ما هو أعمق ليس فقط في فهم خدمة العطاء بل أيضًا في ممارستها أيضًا؟
مع تمنياتي بكل بركة ونعمة غامرة في ممارسة العطاء.