ذاعت آراء كانط وغيره من الفلاسفة في وقت الثورة الفرنسية وانتشرت في ألمانيا على التخصيص، وكانت ألمانيا وقتئذ ممثلة في الأمراء والنبلاء ورجال الدين، ومن التمزق الداخلي بين الولايات وضعف الطبقة البرجوازية الصاعدة. وانحاز أهل الفكر من التقدميين في ألمانيا للثورة الفرنسية. غير أن السلطة السياسية لم تلبث أن وجهت إليهم اضطهادًا عنيفًا إذ صدر أمر من الحكومة في بلغاريا في عام 1784 بحل جماعة حركة التنوير التي كانت تطالب بالقضاء على النظام الملكي، وعلى طبقة النبلاء المساندة لها في سياق العقل. وكان في صدارة هذه الحركة فيلسوف ألماني على التخصيص كانط وفيلسوف الإنسانية على الإطلاق كانط (1724-1804). درس في جامعة كينجزبرج في بروسيا الشرقية وأصبح أستاذًا في عام 1770 إلى أن تقاعد في عام 1796. أما تطوره الفلسفي فمر بثلاث فترات: الفترة الأولى تكمن في الانشغال بالمسائل الأساسية في العلم والميتافيزيقا. والفترة الثانية هي الفترة الصامتة، لأنها كانت خالية من إصدار الكتب. والفترة الثالثة وهي الفترة النقدية التي أصدر فيها الطبعة الأولى من كتابه المعنون «نقد العقل الخالص» في عام 1781 ثم كتاب «مقدمات لأي ميتافيزيقا مستقبلية» (1783) و«أسس ميتافيزيقا الأخلاق» في عام 1785 و«أسس العلم الطبيعى» و«العقل العملى» (1788) و«نقد ملكة الحكم» (1790) و«الدين في حدود العقل وحده» (1793) و«ميتافيزيقا الأخلاق» (1797). والكتاب العمدة من بين هذه الكتب هو «نقد العقل الخالص» وفيه يتساءل عن إمكانية تأسيس الميتافيزيقا التي تتجاوز حدود التجربة. والرأي عنده أن القضايا التحليلية مثل الله هو ضابط الكل وكذلك القضايا الرياضية التي تستند إلى المعاني المقبولة والاعتبارات المنطقية. وفي المقابل ثمة قضايا تركيبية قبلية وهي التي في حاجة إلى توضيح، لأنها كيف تكون مركبة وخالية من أي عنصر تجريبي مثل قضية الكون التي تنطوي على إشكالية أي على تناقض فتقول إن الكون له بداية في الزمان ومحدود في المكان أو أنه علة أولى ولا متناه. فهذا القول ينطوي على تناقض وإذا أضفت أقوالًا أخرى مماثلة فكانط يسميها «نقائض العقل» التي يواجهها باعتبار أن حلها وارد في الثورة الكوبرنيكية والنتيجة الحتمية تكمن في رفض قضايا الميتافيزيقا التقليدية وعددها ثلاث: وجود الله وخلود الروح وحرية الإرادة. ومغزى الرفض هنا مردود إلى عدم إمكان تناولها استنادًا إلى التجربة مع أن التجربة ضرورية لأي معرفة غير أنها ليست كافية لأنها في حاجة إلى تنظيم والذي ينظم هو العقل بما لديه من معانٍ يسميها كانط «المقولات» غير المستمدة من التجربة ومع ذلك فإنها لا تنطبق إلا على التجربة وليس في إمكانها مجاوزة التجربة. والسؤال إذن: لماذا هي كذلك؟ لأنها جوفاء إذ هي مجرد قوالب تُصب فيها المادة الآتية من التجربة. وبفضل هذين العنصرين: المقولة الجوفاء والمادة الحسية أو التجريبية تتألف الأحكام العلمية، وهذه تتميز بأنها كلية وضرورية. والمقولة هي السبب في أن تكون هذه الأحكام كذلك. مثال ذلك: ضوء الشمس يسخن الحجر. هذا الحكم علمي لأنه كلي وضروري، وهو كذلك بفضل مقولة العلية، وهذه المقولة ليست في ضوء الشمس كما أنها ليست في الحجر وإنما هي في العقل. غير أنه لا يمكن استخدامها استخدامًا مشروعًا إلا في نطاق التجربة. وهذه المشروعية لها نتيجة حتمية وهي أن البرهان الذي يعتمد على مبدأ العلية لإثبات وجود الله هو برهان زائف لأن الله ليس موضوع تجربة.
وهنا يثير كانط سؤالًا مهمًا: أليس من طريق آخر لاثبات وجود الله؟ جواب كانط بالإيجاب والطريق الآخر هو طريق الأخلاق. وهذا هو موضوع كتاب «نقد العقل العملي». ويقصد كانط بالعقل العملي الإرادة. والإرادة قد تكون صالحة وقد لا تكون. هي صالحة عندما نفعل بمقتضى الواجب دون ابتغاء أي منفعة. والواجب من هذه الوجهة هو أمر مطلق، والأمر المطلق كلي بالضرورة وخاصية القانون الكلية. والأمر المطلق يصيغه كانط في صيغ ثلاث: الصيغة الأولى: اعمل كما لو كنت تريد أن تقيم الحكم الصادر عن فعلك قانونًا كليًا. وهذه الصيغة تفيد بأن الفعل الأخلاقي يتميز بإمكان تعميمه. مثال ذلك: هل يجوز للذي يضيق بالحياة أن ينتحر؟ إن هذا الإنسان يريد أن يختصر حياته لأن آلامها تفوق لذاتها. فهو إذن يصدر هذا الحكم لأنه محب لذاته. ولكن هل حب الذات يصلح أن يكون قانونًا كليًا؟ إن هذه الصلاحية من شأنها أن تكون الحياة مناقضة لذاتها، إذ إن هذه الحياة تختصر ذاتها بالانتحار في حين أن طبيعتها الاستطالة. الحكم بالانتحار إذن مناقض لذاته إذ لايمكن تصوره على نحو كلي. الصيغة الثانية: اعمل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي أي شخص آخر كغاية لا كوسيلة. مثال ذلك: هل يجوز اقتراض المال والوعد برده مع العلم بعدم القدرة على رده. كلا إذ إن الانسان عندئذ يعتبر الغير وسيلة لتحقيق أغراضه. الصيغة الثالثة: اعمل كما لو كنت مشرعًا للقانون.
وهذه الصيغة مؤلف بين الأولى والثانية فتنتهي إلى استقلال الإرادة لأن هذا الاستقلال هو الخاصية التي تجعل من الإرادة قانونًا لذاتها ومن ثم تكون حرة. غير أن هذه الحرية ليست متوافرة في العالم الحسي المحيط بنا لأن الظواهر الحسية يحكمها مبدأ العلية، أي تحكمها الضرورة، والضرورة منافية للحرية ويبقى أن تقرير الحرية يفضي إلى إمكانية انتماء الانسان إلى عالم آخر غير حسي، أي عالم معقول. الحرية إذن تفترض وجود عالم معقول. وهذا الافتراض هو المبرر لإثبات وجود الله وخلود الروح.