الجميع يهتفون بمظهرية الأمور –التدين- لكن بعكسهم كان يسوع الذي ذهب بفكره بعيدًا عن مظهرية التدين إلى قلب العمل الفدائي إلى هدف مجيئه إلى العالم إلى الموت إلى الصليب ففي الطريق إلى أورشليم، حدث هام تحركت له عقارب الزمن لتشير إلى ساعة جديدة في اختبار يسوع، ففي هذه الفترة وجه يسوع نظره إلى هذا الاتجاه الفكري الذي يصفه البشير لوقا في (9: 51) بالقول: وحين تمت الأيام لارتفاعه ثبت وجهه لينطلق إلى أورشليم لنلاحظ هذا التعبير”أيام ارتفاعه” إنها ليست أيام إعداده للموت، إذ أن كلمة ارتفاعه تعني صعوده لأن يسوع فكر في القوة التي ستسيطر على الجموع بعد صليبه، لقد كانت هناك قوة جذبت يسوع إلى أورشليم.
لقد كانت أورشليم غير موضوعة في جدول يسوع قبل أن يذهب إليها، فكل ما رأته أورشليم من يسوع كانت لمحات خاطفة في أوقات الفصح، لقد سكب يسوع نفسه على تلال الجليل ووهب رسالته إلى الأرض التي احتضنته في شبابه، لكن أورشليم مركز وكرسي المملكة، لم تحظ إلا بالفتات الساقط من مائدة تعليمه لهذا، ولكي يكتمل الأمر وجه يسوع وجهه نحو أورشليم. وبداخله الحزن العميق، لكن لنعلم أن حزنه لم يكن شخصيًا فهو، الذي قال: لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب، لم يكن له ما يجعل قلبه يضطرب، فهو لم يكن له سوى اهتمامات المحبة. لم يكن حزن وخوف يسوع ماديًا أو متاعب شخصية، بل كان حزنًا كهنوتيًا، ففي أورشليم سيواجه يسوع الموت، وبالرغم من أننا نعرف لماذا مات يسوع، ولماذا صلب، إلا أننا يجب أن نتأمل في فكر الذين أذاقوه الموت:
اتخذ يسوع لنفسه مركز ولقب مسيح الله، لكن هذا اللقب في حد ذاته لم يكن جريمة في عرف الناموس الموسوي يستحق عليها الموت، فأي إنسان يتخذ لنفسه لقب المسيا لم يكن عندهم هرطقة، ففي الإمكان إثبات صحة هذا الادعاء من كذبه، فالادعاء في حد ذاته لا يعتبر دليل عصيان وعندما قال يسوع عن نفسه إنه المسيح، هذا لم يقربه من صليب الجلجثة، لكن الذي اقترب بيسوع إلى صليب الجلجثة هو السلطان الذي نسبه للمسيا، حينما نادى في كفر ناحوم أن ابن الإنسان له سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا، هنا نادى يسوع بعقيده تناقض تعليم اليهود، لأن الذي له سلطان مغفرة الخطايا هو الله وحده، ثم يوم أن أعلن يسوع أنه ابن الله، معادلًا نفسه بالله، ولو كان يسوع قال هذا في أورشليم وليس في كفر ناحوم، للقي لساعته موت الصليب لأن أورشليم هي مدينة الهيكل والكهنوت.
كانت رحلة أورشليم بالنسبة ليسوع هي رحلة الموت ومعناها الموت. قلنا إن يسوع حزن، وهنا نتسائل: لماذا نظر يسوع إلى الموت بحزن واضطراب؟ وإن سلمنا بالفكر البشري، فالموت سيصل به إلى مكانه الأول عند الآب. ثم بالرغم من أن يسوع سيواجه الموت، إلا أنه له ثقة كاملة في الآب، فلماذا أذًا حزن يسوع واضطرب أمام الموت؟ وهناك من واجهوا الموت بكل حماسة وشجاعة مثل الشهداء في ساحة الاستشهاد والجنود في ميدان الحرب، فهل يسوع أقل منهم حماسة أو شجاعة؟ ألم يأت ليموت، ليقدم نفسه بديلًا عن البشر؟ أم يسلم إرادته للآب؟ الموت الذي يرهبه الآن هو الأمر الذي اختاره الآب وسر به، إن طبيعة وغاية عمله هي أن يرحب بساعة الموت لكن لنعلم أن الموت هو تجسيم لشرور البشر، فصليب المسيح يظهر لنا صورتين متناقضتين: الصورة الأولى: التسليم الاختياري الكامل لنفس بلا عيب. المحبة المتفاضلة، فالصليب يجتذب قلب البشر إلى الله. الصورة الثانية: خطية البشر –الأنانية المتزايدة– نفور قلب الآب من البشر، إذًا في صورة الموت والصليب وجد ما يحزن قلب يسوع شرور البشر وأنانيتهم. رغم هذا عندما يوجه يسوع وجهه نحو أورشليم، إنما يوجهه لأجل ملكوت الآب، ففي خضوع كامل يقبل يسوع الذهاب إلى أورشليم، لأن هذا سيسر قلب الآب، كما يسهل على يسوع تجرع كأس الصليب بمرارته. أمام الصليب سيقول الآب للابن: أنت ابني الحبيب الذي به سررت، أما لصالبيه يقول الآب: تباعدوا عني يا فاعلي الإثم، لهذا لا غرابة أن يطلب المسيح وهو على الصليب لأجلهم قائلاً: يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.
إن الذي دفع يسوع ليوجه وجهه نحو أورشليم هو نداء الواجب، هو نداء الطاعة والخضوع للآب، فإن كان في أورشليم شبح الموت وسلطان الظلمة إلا أنه هناك أيضًا الحب والتضحية، فإن كان الموت في جانب والمحبة في الجانب الآخر وأعطى ليسوع أن يختار، فسيختار محبته للبشر، لعمل الفداء، لهذا وجه يسوع وجهه نحو أورشليم.
عرفنا إذًا أن يسوع وجه وجهه نحو أورشليم ليواجه الموت من أجل ملكوت الله، فكانت أورشليم بالنسبة له مكان الموت والاستعداد لدخول أورشليم معناه الاستعداد للموت وكل خطوة يخطوها نحو أورشليم إنما يتقدم بها إلى الموت وهذا ما وضحه الرسول بولس في درجات سلمه عن يسوع، فيسوع هو الذي أخلى إرادته لكي تسيطر عليه إرادة الآب وهو الذي سار في شبه الناس وهو الذي وجد في الهيئة كإنسان وهو الذي وضع نفسه وهو الذي أخيرًا أطاع حتى الموت موت الصليب.
عندما واجه يسوع تلاميذه أنه ذاهب إلى أورشليم وهناك سيموت، حاولوا منعه عن متابعة الرحلة وقال له بطرس: حاشاك يارب لا يكون لك هذا، لكن يسوع قال له اذهب عني يا شيطان – نعم فالشيطان من البداية أراد أن يثنيه عن عمل الصليب عن الموت، ففي أورشليم جثسيماني والجلجثة.
أحبائي.. ربما شاركنا الجمهور الذي أحاط يسوع بالهتاف: أوصنا في الأعالي مبارك الآتي باسم الرب، لكن دعونا نوجه الفكر كما وجهه يسوع، نحو موت يسوع نحو صليب يسوع. إن يسوع لم يتجه إلى أورشليم ملكًا ولا لكي يملك إنما وجهه نحو أورشليم ليصلب ليموت نيابة عنا، لتكون لنا به وفيه الحياة، فشكرًا لك يا سيدي من أجل اتجاهك إلى أورشليم إلى الموت نيابة عني.. آمين
القس ماجد فخري ساويرس