عجز العلم وهمس الإيمان

2

أشرف ونيس

كمن السر قابعًا ومتواريًا خلف مزيج من الإبهام وعدم الإفصاح حين احتفظ بكينونته العصماء داخل غرفة الأسرار المطبقة والموصدة بكل إحكام، مر عليه زمان وأزمان، حقبة بل أحقاب، وظل متواريًا وغير معلن لكائن مَنْ كان. وحين شخصت إليه الأعين مناجيةً إياه أن يكشف للملأ عن سبب وجوده، أخذه قيظ حميته ولفح حرارته بأن يختم بخاتمه الأبدي، صادحًا بصوته الصارخ إلى علياء الوجود في أماكنه غير الظاهرة بأنه سيظل كما هو معانقًا الغموض والحيرة والالتباس مفتخرًا بصيرورته لغزًا بل لغز الألغاز… أصل الحياة والوجود!!!!

لم تكن نسمة الحياة الكائنة في قلب الخلية الأولى والتي صار منها اللاموت ومن ثَمَّ الكائنات المتنعمة بتلك الحياة هي الحل الكافي والترياق الشافي لمن بحث عن أصل الحياة واستجدى الحقيقة في ثوبها الناصع اللامع، ولم يكن الانفجار الأعظم في محيط ذي الكون الفسيح هو الجواب الشافي لمن نبش عن الحق في صورته لا الرثة البالية بل اللامعة الواضحة القشيبة، إذ استتبعهما سؤال الأسئلة الذي ظل شامخًا طوال عهوده بلا رد أو إجابة له: من أين جاءت نواة الحياة القاطنة بذرة وحدة بناء الكائن القائم الحي؟ ومن أين برزت المادة إلى حيز الوجود قبل تناثرها وانتثارها إلى قطع وأجزاء كانت وما زالت وستظل هائمة في فراغ غير مدركة نهايته؟

فسيظل إدراك الإنسان متقلقلًا بين الجهل وعدم المعرفة ما دامت العلة الأولى للموجودات وكنهها ما زالت ساكنة بين ثنايا الغموض ومتخفية داخل طيات المجهول، فكثيرون ممن يمتلكون أطراف العلم وأغواره ترنحوا في دياجير الظلام متخبطين حين طلوا إطلالًا، مائلين بأجسامهم المثقلة بمراكز إحساسهم لمشاهدة مصدر ومنبع الانبثاق حين أمر فبرز فتكون فتشكل فصارت المادة الخاضعة للترائي والتلامس بما تشغله في الفراغ من حيز ومساحة ومكان، أخذت المعاناة منهم قسطًا ثم أقساطًا لعلهم يصلون فيدركون مأربهم وما يصبون إليه، لكن ها هي فيزياؤهم وعلومهم الباحثة في الفلك بما يحويه ويحتويه ما زالت جاثمة صوب أقدام النقص والقصور، وقت أن بات العلم عاجزًا عن معرفة السببية في ماهية الأشياء قبل أن تتراءى للأعين وتمسي صرحًا للتأمل والتحديق والأبصار.

 أصبح العجز للمعرفة الصحيحة هو القوة الضاربة لكل صواب مرتكزًا على الحقيقة الكاشفة الظاهرة والواضحة ، فأمست القوانين المنظمة لكل ما تكون صائرًا كونا وكأنها العقل الأسمى -من وجهة نظر أصحاب العلم- في ذي الوجود، فجعلوها المُسيِّرة والمصيِّرة للكل تحت ما لا مناص للحيدان عنه قيد أنملة، كما أضحى النظام الخاضع له دنا الأجرام ومحيط الأفلاك وكأنه المدبر الأعظم الذي به ومنه تستمد تلك الأجرام وهذه الأفلاك إجلالها وهيبتها أمام مَنْ تأمل فيها مبهورًا مذهولًا ومتعجبًا، فبها الأزل ومنها الزمان الحاضر وما بينهما وحدات جمة لقياس الأزمان بما لا عدد له أو حتى إحصاء، وهكذا أخذ منهم الاعتقاد -الخاطئ- قدرًا لا بأس به بأن العشوائية عبر ملايين السنين والسنوات خلقت النظام و شكلت السنن وأبدعت القوانين! وهكذا الكل بها صار ومنها الكل يسير ومن خلالها الكل سيكون، وكان هذا مما ظنوه وقدروه وتوقعوه ونادوا به.

لم يُظهِر الله نفسه لقلب اعتلاه داء التكبر والكبرياء، كما لم يتنازل لأناس زائلًا حُجب عدم الفطنة لمعرفته وهم في وهم الإحاطة بأطراف الموجودات علمًا وكشفًا وإظهارًا؛ فلطالما بقوا خادعين ومخدوعين من الكثيرين والكثيرات ممن حسبوا أنفسهم الأول والآخر، وبأن ما يعلموه ويعلِّموه حاصلين عليه من علم هو البداية والنهاية، جاعلين من غير المنطق منطقًا للفكر، ومن غير المعقول مرجعاً للتفكر، وهو ما لا يقبله العاقل ذو الفطنة العاقلة والعقلانية الفطنة للتمييز والإفراز والفصل بين الأشياء وبعضها.

لكنه اصطفاهم حين أعلن عن نفسه منتخبًا ومنتقيًا مَنْ تدثروا بثوب التواضع ملبسًا ومَنْ اكتفوا بلباس الوداعة زينة، فنراهم وقد قبلوا إعلان الله عن نفسه بأنه الباري والموجد والمسبب للأشياء وأن به الكل وله الجميع، فهو الذي يؤول ويرجع إليه مَنْ حمل بداخله الحياة نسمة، كما منه وبه ما ليست له الحياة طبيعة ومثوى ومسكنًا.

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا