بقلم الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر
تتميز الحياة المسيحية بإقامة علاقة حميمة بين الله والإنسان، ولعل ما يؤكد على ذلك هو ما جاء في (يو1: 14) [عن التجسد الإلهي] “والكلمة صار جسدًا وحل بيننا، ورأينا مجده، مجدًا” وهذا يعني أن للإنسان قيمة كبرى عند الله، فلقد تنازل الله من علياء سمائه لكي يرفع من قيمة وشأن الإنسان.
يظن البعض أنه إذ قللنا من قيمة الإنسان فنحن نعظم الله، وكأن الله منافس للإنسان… بالطبع هذا التفكير ليس له أي سند أو دليل في كلمة الله، وإنما العكس هو الصحيح، فالله يريد الإنسان ناضجًا وناجحًا ومتكاملًا أمامه حتى يتمجد الله فيه، ولعل أقوى برهان على ذلك هو ما صورته عدسة الوحي المقدس للإنسان في مواقف وعلاقات متميزة مع الله أعرض منها الآتي:
(1) صورة الإنسان مع الله ناقدًا
كما حدث مع أيوب وهو يوجه نقده في حيرة إلى الله قائلًا:
“لماذا تحيا الأشرار” (أي21: 7).
وإرميا يسأل نفس السؤال قائلاً: “لماذا تنجح طريق الأشرار؟” (إر12: 1).
وآساف يقول في (مز73: 3): “غرت من المتكبرين، إذ رأيت سلامة الأشرار”.
وحبقوق يرفع شكواه إلى الله متسائلاً: “عيناك أطهر من أن تنظرا الشر، ولا تستطيع النظر إلى الجور، فلِمَ تنظر إلى الناهبين، وتصمت حين يبلع الشرير مَنْ هو أبر منه؟” (حب1: 13).
نعم! هذا هو السؤال الذي يسأله شعب الرب على مر الأجيال والعصور. لكن عندما يدخل المؤمن مقادس العلي، يرى نهاية كما رأى آساف وكتب تقريره الذي يقول فيه: “حتى دخلت مقادس الله، وانتبهت إلى آخرتهم. حقًا في مزلق جعلتهم. أسقطتهم إلى البوار. كيف صاروا للخراب بغتة! اضمحلوا، فنوا من الدواهي” (مز 73: 17-19).
هذا ومن ناحية أخرى مَنْ يدرس كلمة الله سوف يجد أن الله قد ينتظر على الأشرار ليعلن لهم عن محبته وإمهاله وطول أناته وانتظاره لعودتهم ورجوعهم إليه، فهو كما يقول بطرس: “فهو لا يشاء أن يهلك أُناس، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة” (2بط3: 9). ولذلك يقول الرسول بولس: “واحسبوا أناة ربنا خلاصًا” (2بط 3:15). ويحذّر قائلاً: “أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة؟” (رو 2: 4).
(2) صورة الإنسان مع الله مصارعًا
لقد صارع ملاك الله يعقوب (تك32: 24، 26-28) “فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر… وقال: أطلقني، لأنه قد طلع الفجر. فقال: لا أطلقك إن لم تباركني. فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب. فقال: لا يدعى اسمك في ما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت”.
لقد سمح الله ليعقوب بهذا الصراع ليدربه حتى يواجه يعقوب التحدي ويكتشف احتياجه لله، ثم يكتشف قدراته وقيمته. ولقد شبّه البعض من المفسرين هذا المشهد بالأب الذي يصارع ابنه وهو يداعبه ويمثل الأب أن الابن قد غلبه، والأب في منتهى السعادة بذلك.
إن هذا الصراع يبرهن على مكانة الإنسان عند الله، فهذا معناه أن الله يريد للإنسان أن يقف قويًا متكاملًا، فالله يرفع الإنسان لمستواه ولا يقبل أن يظل الإنسان على مستوى بقية المخلوقات.
ويبقى السؤال هل وصلت في منسوب إيمانك، ومستوى الحميمية مع الله لدرجة هذا الصراع الذي عاشه يعقوب؟!.
(3) صورة الإنسان مع الله رافضًا ومعاندًا
عندما دعا الله موسى لقيادة الشعب نقرأ في (خر3: 10-12) “فالآن هلم فأرسلك إلى فرعون، وتُخرج شعبي بني إسرائيل من مصر. فقال موسى لله: مَنْ أنا حتى أذهب إلى فرعون، وحتى أُخرج بني إسرائيل من مصر؟ فقال: إني أكون معك”.
وبعد حوار طويل نقرأ في (خر4: 10-15) “فقال موسى للرب: اسمع أيها السيد، لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس، ولا من حين كلمت عبدك، بل أنا ثقيل الفم واللسان. فقال له الرب: مَنْ صنع للإنسان فمًا؟ أو مَنْ يصنع أخرس أو أصم أو بصيرًا أو أعمى؟ أما هو أنا الرب؟ فالآن اذهب وأنا اكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به. فقال: اسمع أيها السيد، أرسل بيد من ترسل. فحمي غضب الرب على موسى وقال: أليس هارون اللاوي أخاك؟ أنا أعلم أنه هو يتكلم، وأيضًا ها هو خارج لاستقبالك. فحينما يراك يفرح بقلبه، فتكلّمه وتضع الكلمات في فمه، وأنا أكون مع فمك ومع فمه، وأعلمكما ماذا تصنعان.”
لقد سمح الله لموسى بالنقاش والاعتراض، وهو يسمح لنا بالتساؤل وإبداء الرأي ليُشكل إرادتنا وفق إرادته، المهم أنه في النهاية استخدم الله موسى خير استخدام في قيادة شعبه.
هذا يذكرني أيضًا بدعوة الرب إلى إرميا عندما رفض في البداية دعوة الرب، وشعر بعدم إمكانيته للقيام بالمهمة، لكن الرب في النهاية أقنعه، لهذا تسمع إرميا يقول: “فكانت كلمة الرب إليّ قائلاً: قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيًا للشعوب. فقلت: آه، يا سيد الرب، إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد. فقال الرب لي: لا تقل إني ولد، لأنك إلى كل مَنْ أُرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما أمرك به. لا تخف من وجوههم، لأني أنا معك لأنقذك، يقول الرب. ومد الرب يده ولمس فمي، وقال الرب لي: ها قد جعلت كلامي في فمك. انظر! قد وكّلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك، لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس”. (إر 1: 4-10).
(4) صورة الإنسان مع الله متشككًا
كان الرب يسوع يتحدث للتلاميذ قائلًا: “في بيت أبي منازل كثيرة، وإلا فإني كنت قد قلت لكم. أنا أمضي لأعد لكم مكانًا، وإن مضيت وأعددت لكم مكانًا آتي أيضًا وآخذكم إليّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا، وتعلمون حيث أنا أذهب وتعلمون الطريق”. (يوحنا 14: 2-4).
أغلب الظن أن التلاميذ لم يفهموا المعنى المقصود عن الذهاب والطريق وصمتوا في حيرتهم، وتظاهروا بفهم ما قاله السيد: لكن توما كان صريحًا وهو يقول: “يا سيد، لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟” (يو14: 5).
لقد كان مخلصًا لفكره وذهنه، فهو لا يدّعي علمًا لا يستطيع الوصول إليه، ولا يتظاهر بمعرفة تبدو في الحقيقة بعيدة عنه. إن الله يسر كثيرًا بمثل هذا الإنسان الذي لا يعرف الالتواء أو يتحدث بالرياء. وفي قصة القيامة نرى أنه عندما أخبروه التلاميذ بالقيامة كان جوابه “فقالَ لهُ التلاميذُ الآخَرونَ: قد رأينا الرب! فقال لهم: إن لم أبصر في يديه أثر المسامير، وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه، لا أومن”. (يو 20: 25).
لكن الحقيقة التي نشدو بها هي معاملة المسيح لتوما بكل رقة وحنان، فقد ظهر خصيصًا له وقال له: “هات إصبعك إلى هنا وأبصر يديَّ، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا” (يو 20: 27).
لقد كان سوداوي المزاج، يرى الظلام في قلب النهار، ولقد احترم الرب يسوع توما وتعامل معه.
لا شك إن الله يتعامل مع كل إنسان حسب شخصيته وبفكره، ويحترم مشاعره وآماله وآلامه وشكوكه وتساؤلاته، حتى يصل إلى الشخصية السوية النافعة.