34.4 C
Cairo
الثلاثاء, يوليو 8, 2025
الرئيسيةفكر مسيحيالإيمان وعلاقته بالعقل

الإيمان وعلاقته بالعقل

داني سمارنه

هل من سبيل لعقلنة الإيمان أو الاعتقاد الروحي؟ أم أن العقلانية والخطاب الإيماني في حالة تنافر وتناقض؟ أم أنهما في حالة اختلاف وتميُّز دون تناقض؟

لقد عارض فلاسفة كثيرون عقلنة اللاهوت، وكل محاولة لعقلنة الأخلاق. ويعني هذا رفض كل محاولة لتبرير الاعتقاد الروحي بالمعطيات التجريبية، سواء كانت تاريخية أم علمية. فتبنّى كثيرون مبدأ أغسطينوس عندما قال: “أؤمن بذلك لأنه عبثي”، رافضين في الوقت ذاته مبدأ أنسلم القائل: “أؤمن لذلك يمكن أن أفهم”.

ويرى هؤلاء مَنْ يرفضون عقلنة الخطاب الروحي، أن ما يجعل النص المقدس صادقًا هو أن الإنسان تلقى إيمانه ببساطة وتواضع ممن سبقوه، وليس لأنه نص بُحث موضوعيًا بالتدقيق كما ينبغي. ويعتقد هؤلاء أن المؤمن لا يستطيع أن يُقيم علاقة موضوعية بهذا النص كالتي يقيمها عادة بالحقيقة التاريخية أو العلمية أو الفلسفية؛ فمضمون قول إن “الله موجود” ليست منطوقًا حول شيء يمثل جزءًا من العالم، مثل باقي الأشياء الطبيعية الأخرى، بل هو يقين وجداني عميق في الإنسان يعيشه بحدسه لا بعقله.

عقلنة الإيمان: تكون أو لا تكون

قرأت قصة ذات مرة، وهي واقعية، وأعتقد أنها لا تزال تحدث في سياقات مختلفة. وتروي القصة حادثة وقعت مع عائلة فيها ابن مريض بداء السكري. وفي أحد الأيام، قرر الوالدان إيقاف إعطاء الإنسولين عن طفلهما؛ أنهما آمنا بأن الله سيشفيه. والمؤسف أن الطفل دخل في غيبوبة جراء ذلك، وتُوفي في وقت لاحق.

حوكم الوالدان وأُدينا بتهمة القتل والإساءة المتعمدة إلى الطفل. لكن لماذا؟ أليس هذا هو الإيمان بأن الله قادر على فعل ذلك، وأنه يريد شفاء ابنهما؟ أعتقد أن السبب الأساسي هو اعتقادهما الخاطئ عن الإيمان، وهو اعتقاد كلفهما حياة ابنهما.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل من سبيل لعقلنة الإيمان أو الاعتقاد الروحي؟ أم أن العقلانية والخطاب الإيماني في حالة تنافر وتناقض؟ أم أنهما في حالة اختلاف وتميُّز دون تناقض؟

يرى بعض الأشخاص أن لا خلاف ولا تناقض ما بين العقلانية والخطاب الإيماني، وذلك إذا وُظف العقل توظيفًا صحيحًا، وفُهم الإيمان فهمًا سليمًا.

في حين يؤكد آخرون أن العقلانية والخطاب الروحي مختلفان في المنهجيات، ما يعني ضمنيًا إمكانية الاختلاف حول القضايا المطروحة.

وعلى جانب آخر، يرفض بعض الأشخاص، لا سيما أولئك المنتمين إلى الفلسفات الحديثة كالوضعية المنطقية (Logical Positiveness)، أن يكون الإيمان وحده قادرًا على إصدار الأحكام المختلفة في كل المجالات الإنسانية، ويدَّعون أن الوصول إلى كل الأفكار ذات المعنى ممكن فقط بواسطة الفحص العقلاني الشامل، وليس على سبيل الانفعال الوجداني؛ فالعقل عندهم يمكن فهمه بأنه مبادئ الاستقصاء المنهجي (Methodological) في الإطارات الوجودية والأخلاقية والجمالية، وغيرها. في حين يرون الإيمان بأنه ذو طبيعة مختلفة قائمة في موقف تجاه بعض الادعاءات التي لا تمتلك أدلة مادية تجريبية قاطعة.

وفي هذا السياق، من المهم ذكر أن الخطاب الإيماني ينقسم إلى قسمين من حيث المضمون، وطبيعة التركيب: يتميز القسم الأول بحساسيته المفرطة للأدلة والإثباتات، فيكون منسجمًا ومتسقًا في ذاته، ومع الواقع والحقائق في العالم. في حين أن الثاني يتميز بأنه لا يعتمد على إعمال العقل، أو على منهجية عقلية بعينها في عملية الاستقصاء.

طروحات علاقة العقلانية بالخطاب الإيماني

وبناءً على ما سبق، قدَّم كثير من الفلاسفة والمفكرين علاقات مقترحة لضبط الارتباط ما بين العقلانية والخطاب الإيماني. وإليكم عددًا من هذه الطروحات:

الأطروحة الأولى: يعتقد بعض الأشخاص أن العلاقة التي تربط ما بين العقل والإيمان هي علاقة صراع. فالعقل والإيمان في حالة تناقض واختلاف وخلاف وتناحر بشأن القضايا المحورية في الحياة. وتظهر هذه العلاقة المتناحرة بصراحة في قناعات الأصولية الدينية (Fundamentalism) والتي ترفض كل محاولة لعقلنة الإيمان وضبط مبادئه في إطارات ذهنية، ويمثلها على الجانب الآخر من الطيف، المذهب الطبيعي المادي والذي يتخذ من المنهجية العلمية المادية التجريبية أساسًا لكل قرار واعتقاد.

الأطروحة الثانية: يرى بعض الأشخاص أن العلاقة بين العقل والإيمان هي حالة من عدم توافق (Incompatilism) أكثر منها صراعًا وتناحرًا. فالعقلانية عندهم تتحرك في إطارات تجريبية نحو تلك الحقائق المادية، في حين يتحرك الخطاب الإيماني في أطر وجدانية نحو تلك الحقائق غير المادية، من ثم لا تنافس بينهما ولا تناقض ولا تناحر، بل ثمة اختلاف جليّ في المنهجيات والتوجهات.

في هذا السياق، يمكننا أن نعاين عدم التوافق بين العقل والإيمان في ثلاث محطات:

– المحطة الأولى: تظهر في الذي يريد أن يُعلي الخطاب الإيماني على حساب الخطاب العقلاني في إصدار الأحكام المختلفة.

– المحطة الثانية: تظهر في الذي يعتقد أن الخطاب الإيماني هو خطاب لا يحتكم إلى المنهجية العقلية، ومن ثم فهو لا يخضع للتقييم العقلاني.

– المحطة الثالثة: تظهر في مذهب الإيمانية الصرف، والذي يعتقد أن الإيمان يفقد مضمونه متى توافق مع أي تبرير أو توضيح عقلانية وتُسلب صلاحيته وقدسيته.

الأطروحة الثالثة: يعتقد بعض الأشخاص أن العلاقة ما بين العقل والإيمان هي علاقة توافق ضعيف. أي أن ثمة إمكانية للحوار ما بين العقل الإيمان، رغم تمايزهما بعضهما عن بعض.

الأطروحة الرابعة: يعتقد جانب آخر وجود علاقة توافق قويّ ما بين العقل والإيمان، وهذا ما يُعرف باسم اللاهوت الطبيعي، وهو نظام إيمان يمكن إثبات صلاحيته وموثوقيته بواسطة أحكام العقل.

ويُرى هذا النموذج التوافقي القوي على مستويين:

– المستوى الأول: يبدأ بادعاءات علمية مبررة، تليها ادعاءات لاهوتية صحيحة خارج الإطار العلمي. وهذا ما يُرى في الحُجة الكونية.

– المستوى الثاني: يبدأ بادعاءات وإعلانات لاهوتية تجري عملية صقلها ومنطقتها (أي دراستها في إطار أحكام المنطق) باستخدام العقل، ومنهجيات عقلية موضوعية محكمة.

الخط الزمني لعلاقة العقلانية بالخطاب الإيماني

والآن سنحاول تتبُّع تطوُّر تلك العلاقة ما بين العقلانية والخطاب الإيماني، أو ما بين العقل والإيمان، على مر العصور على أمل أن تمنحنا نظرة أشمل.

الحقبة الكلاسيكية

يبرز من هذه الحقبة أفلاطون وأرسطو والرواقيون والأبيقوريون. حيث ازدهر الفكر اليوناني الذي كان يركز على نشأة الكون، وتبرير وجوده في سياقات عقلانية. فعمل الفلاسفة باجتهادٍ على استخلاص الحقائق الميتافيزيقية من الادعاءات الأسطورية المنتشرة في تلك الأوساط.

الحقبة المسيحية

اختلفت المسيحية عن كل الديانات اليونانية القديمة. فحسبت أن الكون مخلوق من العدم (Ex-Nihilo)، ولا يمكن أن يكون أزليًا. وأكدت أن الله واحد في الجوهر قائم في ثلاثة أقانيم، وأن يسوع المسيح هو الله الظاهر في الجسد. فكانت تلك العقائد اللاهوتية وغيرها خروجًا عن النص السائد في ذلك العصر، لا سيما عقيدة القيامة التي لا تزال تمثل المحور الأساسي للإيمان المسيحي.

وكان موقف المسيحية عمومًا هو التوافق ما بين العقل والإيمان منذ العصور الأولى. فنرى بولس الرسول في سفر أعمال الرسل يدخل في نقاش حاد مع بعض الرواقيين والأبيقوريين، ويدافع فيه بطريقة عقلانية عن وحدانية الله بوصفه خالق العالم وكل ما فيه، مستشهدًا بآدابهم وتماثيلهم، وفي إطار حُجة متسقة تقوم على العقلانية في مضمونها ومنهجيتها. ونقرأ عن تلك الحادثة في (سفر أعمال الرسل 17: 18-34).

ونرى بولس الرسول أيضًا في رسالته إلى أهل رومية يحاج بأنه يمكن الاستدلال على وجود الله بطريقة موضوعية قائمة على العقلانية عند التعاطي مع الكون بكل مفرداته، من قانون وانتظام ونظام وغاية وتصميم يستدعي وجود مصمم. إذ يقوم في (رسالة رومية 1: 20) “لأن أموره المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدركة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته، حتى إنهم بلا عذر”. ومع أن الخطاب الإيماني المسيحي يحترم العقلانية، فإن المنهج الذي تنادي به المسيحية لمعرفة الله في ذاته هو ليس بالعقل، بل بالإعلان العام والإعلان الخاص.

وهكذا يرى التصور المسيحي أن دور العقل الإنساني ليس استنتاج من هو الله في طبيعته، بل استقبال الإعلان الإلهي، ووضعه في أطر موضوعية. فالله هو المبادر الذي يعلن عن ذاته.

بكلمات أخرى، نحن لا نستنتج الله بواسطة نشاط عقلاني حكيم، لكننا نستقبل ذلك الإعلان بإعمال العقل، ثم نمنطقه بأساليب مختلفة في استدلالات متسقة ما بينها، وصولًا إلى حالة من الإدراك الواعي لوجود الله العام.

بهذا تكون المسيحية قد قدَّمت أنماطًا مختلفة من العلاقة التي تربط ما بين العقل والإيمان. ونحن هنا لا نتحدث بشأن العلم المادي التجريبي الاختزالي في معرض إشارتنا إلى العقل وإعماله؛ فإعمال العقل شيء، والعلم المادي التجريبي شيء آخر، حيث يُعد العلم بصيغته المادية التجريبية وسيلة مهمة من ضمن الوسائل الكثيرة التي تمتلكها الإنسانية للوصول إلى المعرفة، وليس الوسيلة الوحيدة للمعرفة كما يُعتقد. كما أن العلم المادي التجريبي ليس الإطار الوحيد الذي ينبغي استخدامه لاستبيان الحقيقة، وإلا سقطنا في مفهوم العلموية القاضي بتفسير كل شيء من وجهة نظر مادية تجريبية فقط، بحيث يكون كل ما هو خارج تلك المنهجية غير حقيقي وغير جدير بالبحث والتدقيق.

إلا أن التاريخ المسيحي كان حافلًا بالتنوع المفاهيمي لعلاقة العقل بالإيمان. وأهم من تناولوا هذا (العلامة كوينتس سبتيموس فلورنس ترتليانوس – القديس يوستينوس – إكليمندس السكندري – القديس أغسطينوس – توما الأكويني – القديس أنسلم – وليم الأوكامي)

عصر النهضة والتنوير

حل عصر النهضة والتنوير، ومعه ظهرت استقلالية ذاتية للعلم المادي التجريبي. لتبدأ معها حالة من عدم التوافق الصريح ما بين الادعاءات العلمية والمزاعم الدينية. لتبدأ من بعدها حقبة متوترة ما بين العقل والإيمان نتج منها صراع صريح ما بين الإيمان ومذهب العلموية.

وبحلول القرن السابع عشر، تطورت تلك العلاقة المتوترة لتصبح نقدًا صريحًا لسلطة الكنيسة. وهنا يظهر (جاليليو – بطليموس – إيراسموس – مارتن لوثر – جون كالفن – رينيه ديكارت – جوتفريد ليبنتز – باروخ سبينوزا – بليز باسكال – جون لوك – ديفيد هيوم – إيمانويل كانط – هيجل – سيجموند فرويد).

الداروينية

وكان لظهور الداروينية، التي تعبّر عن نظرة تشارلز داروين للتطور، تأثيرها العميق في الفكر الإنساني. إذ لم يعد هناك أي مبرر للعقل الجمعي في القرن التاسع عشر للقول بضرورة وجود وعي كوني عاقل يحرك كل شيء في إطار الغايات. وبذلك استُبدلت بهذه الفكرة الكلاسيكية في مضمونها فكرة أن كل ما نراه من تنظيم ونظام وتصميم جاء بمحض الصدفة العشوائية العمياء وغير الموجهة، وفي إطار الأصل المشترك والطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي، أو ما يُصطلح على تسمية الدراوينية.

ثم ظهرت بعض الآراء المعاصرة لكل من (فردريك شليرماخر – كارل ماركس – لودفيج فويرباخ – سورين كيركيجارد – فريدريك نيتشه – برتراند رَسِل)

القرن العشرون

رأينا حتى اللحظة في محاولة مراجعة علاقة العقل بالإيمان أن الارتباطات تنوعت ما بين مد وجزر؛ فأحيانًا نراها توافقية وأحيانًا أخرى نراها غير توافقية. فنادى بعضهم بإمكانية التعايش ما بين العقل والإيمان، واعتقد آخرون باستحالة التعايش ما بينهما. في حين حاول بعض الأشخاص المناداة بعلاقة إمبريالية للعقل على الإيمان أو للإيمان على العقل. لكن القرن العشرين كان متأثرًا برؤية داروين للبشرية، وفلسفة فرويد الإسقاطية عن الله. فكانت العلاقة ما بين العقل والإيمان علاقة عدائية صاخبة على مستويات عدة، لا سيما المستوى العلمي. وهنا يظهر (أنتوني فلو ولودفيج فتجنشتاين – جون هيك – كارل بارت – بول تيليش ريتشارد دوكنز – ألفين بلانتينجا).

مقالات أخرى

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا