21.4 C
Cairo
الخميس, ديسمبر 12, 2024
الرئيسيةفكر مسيحيالإيمان وعلاقته بالبرهان والدليل

الإيمان وعلاقته بالبرهان والدليل

داني سمارنة

يحسب الكثيرون البرهان (Proof) ادعاء أقوى من الدليل (Evidence) على المستوى اللغوي. ويخلط كثيرون البرهان والدليل، حاسبين أن كلا الاصطلاحين مترادفان للمعنى نفسه، وهو ما أحاول فحصه بالتدقيق وصولًا إلى فهم أعمق لتلك المفاهيم المتشابكة مثل الإيمان والاعتقاد والحُجة والبرهان والدليل، وذلك لتكوين تصورات معقولة (Reasonable) من نحو الإنسان والحياة والكون.

ويختلف مفهوم المعقولية (Reasonable) من حيث التركيب والمضمون وسياق الحديث؛ فالمعقولية العلمية تختلف عن المعقولية الإيمانية. لكننى أعتقد أن هناك شروطًا ينبغي توافرها في الخطاب الفكري كي يتصف بالمعقولية، سواء كان علميًا أو إيمانيًا.

– الشرط الأول: امتلاك الخطاب للحد الأدنى من الافتراضات التي يمكن التحقق منها بحسب المبدأ الأوكامي.

– الشرط الثاني: عدم تعارض الخطاب مع الخبرات الإنسانية العامة والخاصة.

– الشرط الثالث: عدم تعارض مكونات الخطاب في ذاتها.

– الشرط الرابع: قابلية التحقق من المكونات الأساسية للخطاب.

وأي انتهاك لتلك الشروط الأربعة يجعل الخطاب غير مؤهل من جهة المعقولية.

وحتى نقدم إدراكًا منتظمًا حول ماهية البرهان والدليل، يجب علينا التطرق إلى ماهية البرهان على المستوى الفلسفي والمنطقي.

فالبرهان، بحسب المفهوم الفلسفي، هو عملية استدلال تهدف إلى تأكيد صدق قضية ما أو كذبها. ولاحقًا، يطلق على الاستدلالات المتراكمة والمتماسكة والمترابطة ما بينها اسم الحُجج. وتتضمن الحُجج بدورها مقدمات صحيحة تختلف عن الاستدلالات التي تنوي الحُجة إثباتها، وإلا صارت حُججًا دائرية لا يمكن الوثوق بنتائجها.

أما البرهان بحسب المفهوم المنطقي فهو القياس المؤلف من يقينيات لاستنتاج يقيني بالضرورة. وقد أطلق أرسطو لفظ برهان على الاستنتاج العقلي الذي تكون فيه النتيجة ضرورة بحسب المقدمات الأولى. ويُعرّف بعض الأشخاص البرهان على أنه قياس منتظم من مقدمات أولية صادقة سابقة في العلم على النتيجة. وتُعد العلوم الهندسية أقوى العلوم برهانًا، في حين يُعد البرهان الرياضي هو أكمل أشكال البراهين.

ويمكن تقسيم البرهان إلى قسمين على المستوى الوظيفي:

الأول هو البرهان التحليلي المباشر

وينتقل من المقدمات إلى النتائج بأُطر صريحة مباشرة، حيث تستند صحة النتائج مباشرةً إلى صحة المقدمات.

الثاني هو البرهان التحليلي غير المباشر

ويتميز بمنهجه الاستدلالي العقلي للوصول إلى نتائج أكثر ترجيحًا في قضية ما. وبخلاف البرهان المباشر، يُستدل على صدق القضية المراد برهنتها بطريقة غير مباشرة، وذلك بإظهار خطأ مقدمات معينة وثيقة الصلة بها، بحيث يتضمن الخطأ بالضرورة صدق القضية موضوع البحث.

وهكذا، فإن البرهان التحليلي غير المباشر يتحرك في محورين رئيسين: الأول يعمل فيه البرهان على إثبات صحة قضية ما بإبطال نقيضها، والثاني يعمل فيه البرهان بتقديم افتراض ما، ثم يجري إثبات صدق المطلوب بإثبات كذب باقي الافتراضات المقترحة. وجدير بالذكر هنا أن البرهان التحليلي غير المباشر بمحوريه يُعد برهانًا إلزاميًا يُرغم العقل على التسليم بنتائجه بمعقولية محترمة حُكمًا وشكلًا ومضمونًا.

وفي سياق متصل، فإن الدليل هو الحادثة الحقيقية، أو الجملة الخبرية، أو المعادلة الرياضية، أو الاكتشاف العلمي، وهو ما يمكن للمُتلقي أن يترجمه في عقله كيفما شاء.

ويوضع في الحسبان أن الطريقة التي سيتعامل معها المتلقي مع ذلك الدليل قد تقوده إلى استنتاج أو استدلال صحيح إذا فهمه وترجمه بصورة صحيحة، أو إلى استنتاج أو استدلال خاطئ إذا أخطأ الفهم أو الترجمة. فالأدلة يمكن استخدامها بأشكال مختلفة، ومن قِبل كل الأطراف، وهي لا تمتلك في ذاتها أي توجه ذاتي.

مثلًا، حينما يُقال: “إن هناك تشابهًا جينيًا ما بين الإنسان والحيوان”، يمكن فهم هذا الدليل أنه تأكيد صريح أن الداروينية استدلال محتمل وصحيح وسليم، حيث بدأت الحياة بأصل مشترك تعرض لطفرات عشوائية انتقلت بالانتخاب الطبيعي، في حين يفهم آخرون هذا الدليل البيولوجي على أنه تأكيد صريح أن هناك تصميمًا متشابهًا ما بين الإنسان والحيوان، بحسب ما جاء في (رسالة كورنثوس الأولى 15): “يُزرع جسمًا حيوانيًا ويُقام جسمًا روحانيًا”، يوجد جسم حيواني وجسم روحاني، وهو ما يستدعي بالضرورة وجود مصمم واحد لكليهما.

فالدليل هو عنصر يمكن استخدامه بتوجهات مختلفة، وإن كانت متناقضة في مضمونها.

أما البرهان فهو تقنية ذهنية تستخدم فيها كل الأدلة بترتيب ما وصولًا إلى استدلال نهائي. بكلمات أخرى، يُعد البرهان منهجًا ذهنيًا منظمًا تُستخدم فيها أدلة لتوكيد غاية ما.

لذلك يجب على المفكر والباحث أن يتحرى الدقة في تفسير كل ما يظنه دليلًا، وأن يبذل جهدًا لإسناد بحثه بأدلة أخرى، وأن يتأنى في تقديم برهانه.

ويمكن استعلان هذا بصورة موضوعية في الإطارات الجنائية. فعندما يُدلي شاهد بشهادة فحواها أنه رأى المتهم في مسرح الجريمة، قد تأخذ هيئة المحلفين هذه الشهادة على أنها “شهادة عيان”، وأنها دليل قاطع ضد المتهم، أو قد لا تحسب تلك الشهادة دليلًا، من باب أن وجود المتهم في مسرح الجريمة لا يعني بالضرورة أنه المنفِّذ الوحيد للجريمة.

فالبرهان هو الطريقة المنهجية التي يجري فيها استخدام مجموعة الأدلة للوصول إلى غاية ما.

ومن ناحية أخرى، يميل معظم العلماء إلى حسبان الرياضيات منهجيًا قويًا لكافة العلوم. فالبرهان الرياضي يُعد أسمى نموذج لليقين تسعى إليه العلوم الطبيعية والإنسانية على حد سواء، وذلك باعتماد الكميات بدل الكيفيات، باستخدام وحدات القياس وصولًا إلى تكميم نتائجها وترميزها وصولًا إلى يقينية مطلقة كالتي تتمتع بها الرياضيات.

وفي حين أن الاستقراء يُعد انتقالًا من الخاص إلى العام، فإن بعض الاستدلالات الرياضية (البراهين) تُعد استقراءات عقلية حقيقية، لكن الاستقراء الرياضي ليس اختباريًا، كما هي حال العلوم الطبيعية، بل هو استقراء ضروري مبني على برهان استنتاجي. فمن الواضح إذًا عدم جدوى تعميم الاستقراء الرياضي على العلوم الأخرى.

الإيمان وعلاقته بالحُجة

ننتقل الآن إلى معالجة من نوع آخر: طبيعة الحُجة، وكيفية وصفها بأنها حُجة جيدة أو سيئة. أو بأي معنى يمكننا الحكم على حُجة ما بأنها جيدة أو سيئة؟ فعند الحديث بشأن الحُجة، فإننا لا نتحدث بشأن شجار وجدل حاد أو مشادة كلامية ما بين طرفين، ولا بد أن ينتصر أحدهما على الآخر بالضربة القاضية، بل هي في مضمونها الأساسي تركيب ذهني قائم في سلسلة من الأطروحات البيانية المنظمة التي يكون مضمونها جملة من الافتراضات والمقدمات التي تصل إلى نتيجة يريدها صاحب الحُجة.

وثمة بعض المبادئ التي لا يمكن تجاوزها عند الحديث بشأن الحُجة بصيغتها المثالية، وهي على النحو التالي:

أولًا: على الحُجة أن تراعي كل القوانين المدرَكة بالعقل البشري، وألا تكون منسوخة من مفاهيم المنطق المادي والصوري بقوانينه الثلاث، أي يجب أن تكون النتيجة التي سنصل إليها بناءً على المقدمات متسقة مع قوانين المنطق دون تناقض.

ثانيًا: يجب أن تكون المقدمات صحيحة (True) وليست مزيفة (False). فلا يكفي تقديم منطق قوي، بل يجب أن يكون منطقًا قائمًا على أساس مقدمات صحيحة. وليس الحديث هنا بشأن مقدمات يقينية بنسبة 100%؛ لأننا لا نعلم شيئًا في الحياة بنسبة يقينية. لكنها يجب أن تكون صحيحة بنسبة ما. وكلما زادت نسبة صحة المقدمات، زادت مصداقية النتيجة التي تنتهي بها.

ثالثًا: يجب أن تكون المقدمات التي ستقود إلى تلك النتيجة مدعمة بأدلة وإثباتات.

رابعًا: يجب أن تكون الحُجة قابلة للفحص والتدقيق والمراجعة للتحقق من صحتها وصلاحيتها. وهذا ما سيجعل الحُجة سليمة (Sound argument). ولا بد أيضًا أن تكون الحُجة مدار البحث حُجة استدلالية (Inductive argument) في صيغتها الأساسية، لا استنتاجية، بمعنى أن النتيجة هي أكثر الاحتمالات اتساقًا، وليس لأنها النتيجة الوحيدة الصحيحة، والتي لا تقبل الخطأ، كما هي الحال في علم الرياضيات.

أنواع الحُجج المنطقية

ثمة نوعان من الحُجج المنطقية ينبغي التمييز بينهما على مستوى البنية المنطقية التي تستخدمها الحُجج عمومًا.

النوع الأول: هو الحُجة الاستنتاجية أو الاستنباطية (Deductive)

وهي الحُجج التي تستمد صحة استنتاجها من صحة معطياتها الأولية أو مقدماتها. بكلمات أخرى، إن كانت معطيات الحُجة أو مقدماتها الأولية صحيحة، كانت استنتاجاتها صحيحة على وجه اليقين، أو يجب بالضرورة أن تكون صحيحة. فتوافر شروط سلامة الحُجة يجعل الحُجة الاستنتاجية جيدة، في ضوء المقدمات الأولى السليمة، والتي ستؤول في النهاية إلى تلك النتيجة الحتمية بالضرورة. وإليكم هذا المثل:

المقدمة الأولى:

كل البشر يموتون،

هذه حقيقة أكيدة لا يمكن إنكارها.

داني من البشر،

هذه حقيقة أكيدة لا يمكن إنكارها، ويمكن فحصها بطرق مختلفة، والتحقق من مدى سلامتها.

الاستنتاج

إذًا داني سيموت يومًا ما بالتأكيد.

ويستحيل الخروج بغير هذا الاستنتاج بوضوح ومنطقية بعد وضع تلك المقدمات على طاولة البحث. وصحة الاستنتاج قائمة في هذه الحُجة المنطقية على أساس سلامة المقدمات الأولية المستخدمة.

النوع الثاني: الحجة الاستقرائية أو الاستدلالية (Inductive argument)

وهي الحُجج التي يكون استدلالها النهائي أقرب إلى الصواب منه إلى الخطأ، إن كانت معطياتها ومقدماتها الأولى صحيحة. بكلمات أخرى، ليست النتيجة التي تقودنا إليها الحُجج الاستدلالية صحيحة بالضرورة، ولا صحيحة على وجه اليقين، بل هي استدلالات محتملة فقط، وليست صحيحة حُكمًا بالضرورة. وإليكم هذا المثل:

المقدمة الأولى:

كل تصميم يحتاج إلى مُصمم واعٍ.

وهذا تصوُّر يتفق عليه كثيرون، إذ يمكن إثباته من وحي الحياة اليومية في إطار المصنوعات التي لابد لها من مخترع ومُصمم.

المقدمة الثانية:

يحتوي الكون على تصميم دقيق.

يمكن التعامل مع هذه المقدمة في إطار البديهيات العلمية مع تطور الاكتشافات. لكن قد نجد مَنْ يرفض هذا التصريح معتقدًا أن الكون وعناصره ليس سوى حالة عشوائية تبدو منتظمة وليست مصممة تصميمًا دقيقًا، بل هي عبثية من نوع ما.

الاستدلال وليس الاستنتاج:

احتمال أن يكون هناك كيان واعٍ صمم الكون الدقيق، والذي يمكن تسميته “المسبب الأول”، هو احتمال ممكن، وليس احتمالًا اعتباطيًا فاقدًا للموثوقية تبنَّاه المؤمنون بسبب غياب الأدلة الكافية. إن هذا ليس استنتاجًا يقينيًا، بل استدلال منطقي محتمل بحسب منهج الاستدلال. فنحن لا ندَّعي أن الله هو المُصمم والاحتمال الوحيد لوجود الله، لكنه الاحتمال الأقوى لوجود الكون كما أسلفنا. فالاستدلال القائم في هذه الحُجة هو أن هذه النتيجة هي الأكثر احتمالًا، أو الاحتمال الأقوى المتاح.

ويعني هذا بالضرورة أننا لا نستطيع الجزم بأن هذه النتيجة استنتاج يقيني قاطع، بل هي احتمال قوي وممكن. ويختلف هذا تمامًا عن الحُجج المنطقية الاستنتاجية التي تكون فيها النتيجة صحيحة على وجه اليقين، ولا يمكن إلا أن تكون صحيحة، في حين أن “نتيجة” الحُجة الاستدلالية هي “نتيجة” قابلة للشك فيها، أي تخلو من اليقين الرياضي إن جاز التعبير. لذلك لا بد من تأكيد هذه النتيجة الاستدلالية وتوثيق مصداقيتها بواسطة حُجج أخرى على مستويات مختلفة.

بكلمات أخرى، لا تكون أمامنا استنتاجات قاطعة، كما هي الحال في الرياضيات، والتي يكون فيها الاستنتاج حُكمًا لازمًا لا يقبل الشك فيه، وهكذا يكون الأمر لمختلف العلوم الأخرى التي لا تكون النتيجة يقينية، بل يؤخذ بأقوى الاحتمالات.

ويقود هذا إلى مفهوم تراكم الحُجج واتساقها. فكلما تراكم الدليل بفعل الحُجج المتسقة، صارت تلك النتيجة هي الاحتمال الأقوى (دونًا عن النتائج الأخرى المحتملة).

قد يثير استخدام الحُجج الاستدلالية ذات الاحتمالية الأقوى جدلًا من نوع ما حول الوجود الإلهي، من حيث إن وجود الله هو مجرد احتمال لا يمكن التحقق منه، في حين أن النظريات العلمية تُعد استنتاجات أكيدة غير قابلة للشك فيها. وهكذا تصبح النظريات العلمية يقينية، في حين أن وجود الله يبقى احتمالًا استدلاليًا. لكن هذا تضمين خاطئ شكلًا ومضمونًا. فالمجال العلمي عمومًا يستعمل الحُجج الاستدلالية الاستقرائية حاسبًا إياها طريقة تفكير أساسية وصولًا إلى تكوين النظريات العلمية التي يصعب التيقن منها، بل يستحيل القيام بهذا. وعليه فالحُجج الاستدلالية تُستعمل على مستوى البحث في الوجود الإلهي وعلى مستوى النظريات العلمية الأصيلة على حد سواء، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها في إطار هذا البحث الموضوعي.

فكلما تراكم الدليل بفعل الحُجج المتسقة، صارت تلك النتيجة هي الاحتمال الأقوى (دونًا عن النتائج الأخرى المحتملة).

يجب أن تكون النتيجة التي سنصل إليها بناءً على المقدمات متسقة مع قوانين المنطق دون تناقض.

مقالات أخرى

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا