د. جابسن ليزل
هناك انطباع لدى الكثير من الناس بأن المؤمنين المسيحيين يعيشون في “عالمين” – عالم الإيمان، وعالم المنطق. عالم الإيمان هو العالم الذي يعيشون فيه يوم الأحد صباحًا، أو العالم الذي يشيرون إليه عندما تسألهم عن الأمور الروحية أو الأخلاقية، أما عالم المنطق فهو العالم الذي يعيشون فيه باقي أيام الأسبوع، في تعاملهم مع المسائل العملية اليومية. ففي النهاية، لن نحتاج إلى الإيمان بالكتاب المقدس لتزويد سيارتنا بالوقود، أو لموازنة دفتر شيكاتنا.
المفاهيم الخاطئة عن الإيمان
إن مفهوم “الإيمان مقابل المنطق” هو مثال على الانقسام الزائف، فالإيمان لا يُنافي العقل والمنطق. على العكس، الإيمان الكتابي يتماشى مع المنطق. لكن المشكلة تكمن في حقيقة أن كثيرين أساؤوا فهم الإيمان، فالإيمان ليس هو الاعتقاد بأمور غير منطقية، أو تصديق أمر ما لمجرد الاعتقاد به، إنما الإيمان هو الثقة بأمور لا نستشعرها بحواسنا. هذا هو التعريف الكتابي للإيمان كما ورد في (عبرانيين 11: 1). كلما وثقنا في ما لا نقدر أن نراه، أو نسمعه، أو نتذوقه، أو نشتمه، أو نلمسه، فنحن نمارس نوعًا من الإيمان. كل الناس لديهم إيمان، قد لا يكون بالضرورة إيمانًا مُخلصًا بالله.
على سبيل المثال، يؤمن الناس بقوانين المنطق، رغم أن قوانين المنطق ليست مادية ولا ملموسة. إنها أفكار مجردة لا يمكن استشعارها بحواسنا. قد نكتب قانون منطق مثل قانون عدم التناقض (لا يمكن للشيء أن يتصف بصفة ونقيضها في آن واحد ومن جهة واحدة ويرمز له بالرمز “أ”، فلا يمكن أن يكون “أ” ولا يكون “أ” في الوقت نفسه وفي العلاقة نفسها)، ولكن هذه الجملة ليست سوى التمثيل المادي للقانون، وليست القانون نفسه. عندما يستخدم الناس قوانين المنطق، فإنهم يسلِّمون بصحة شيء لا يستطيعون فعليًا استشعاره بحواسهم، فهذا نوع من الإيمان.
عندما نثق بأن الكون سيسير في المستقبل كما سار في الماضي، فنحن نتوقع هذا بإيمان. على سبيل المثال، نفترض جميعًا أن الجاذبية ستعمل يوم الجمعة المقبل تمامًا كما عملت اليوم. إنما في الواقع ليس بيننا من استطاع رؤية المستقبل. لذا نحن جميعًا نؤمن بشيء بعيد عن متناولنا ولم نختبره حسيًا. من المنظور المسيحي، هذا الاعتقاد منطقي جدًا. فقد وعد الله (الذي هو خارج إطار الزمن) بأن يحمل الكون كي يعمل بشكل منتظم (على سبيل المثال، تكوين8: 22). وبالتالي لدينا سبب وجيه لنؤمن بانتظام عمل الطبيعة. بالنسبة للمسيحي الثابت، يتماشى الإيمان مع المنطق.
إنه لمن المناسب والكتابي أن يكون لدينا سبب وجيه لإيماننا (1بطرس3: 15). في الواقع، يشجعنا الله على التفكير بمنطق (إشعياء1: 18). تحدث الرسول بولس بمنطق مع الحاضرين في المجمع وفي السوق (أعمال17: 17). وبحسب الكتاب المقدس، فإن الإيمان المسيحي ليس “إيمانًا أعمى”، بل يستطيع أن يدافع عن نفسه بشكل عقلاني. وهو منطقي ومنسجم مع نفسه، يستطيع أن يُعطي معنى لما نختبره في العالم. وعلاوة على هذا، إن المسيحي ملزم أخلاقيًا بأن يفكر بعقلانية ومنطق. يجدر بنا أن نكون مشابهين لله (أفسس5: 1)، ونشكل فكرنا بحسب وحيه (إشعياء55: 7 و8؛ مزمور36: 9).
هناك مَنْ يتحدون منطق المنظور الكتابي. يقول البعض إن المنظور المسيحي يبدو غير منطقي ظاهريًا، فالكتاب المقدس يتحدث في النهاية عن أحداث عجيبة، إذ يروي قصة رأس فأس يطفو على وجه المياه، وشمس تسير بالاتجاه المعاكس، وكون خلق في ستة أيام، وأرض لها زوايا وأساسات، وأشخاص يمشون على وجه المياه، ونور وُجد قبل الشمس، وحية تتكلم، وحمار ينطق، وتنانين، ورجل متقدم في السن يحمل زوجين من كل حيوان إلى قاربه الكبير! يوحي الناقد أنه ما من شخص عاقل يستطيع أن يصدق مثل هذه الأمور في عصرنا الحديث المستنير علميًا، ويدّعي أن الاعتقاد في مثل هذه الأمور غير منطقي.
يُدلي الكتاب المقدس ببعض الإفادات غير العادية. ولكن هل هي حقًا غير منطقية؟ هل تخترق قوانين المنطق؟ رغم أن الأمثلة الكتابية المذكورة أعلاه تفوق اختباراتنا العادية اليومية، إلا أنها ليست متناقضة. إنها لا تنتهك أيًا من قوانين المنطق. تسيء بعض انتقادات الكتاب المقدس من تناول اللغة وتفسيرها: فقد تأخذ الصور المجازية (مثل: “أعمدة الأرض”) كما لو كانت حرفية، في حين أنها ليست هكذا. هذا خطأ الناقد، وليس خطأ النص. فالمقاطع الشعرية في الكتاب المقدس، كالمزامير والصور المجازية، ينبغي أن تُعامل على أنها مجازية. نكون غير أمناء أكاديميًا إن فسرناها بطريقة مغايرة.
يتضح أن معظم الانتقادات ضد قانونية الكتاب المقدس ليست سوى رأي شخصي عما هو ممكن. يؤكد الناقد بشكل تعسفي أنه لا يمكن للشمس أن تسير إلى الوراء في السماء، ولا أن ينشأ النظام الشمسي في ستة أيام. ولكن ما دليله على هذا؟ قد يُجادل بأنه استنادًا للقوانين الطبيعية المعروفة، لا يمكن لمثل هذا الأمور أن تحدث. نتّفق معه في هذا. ولكن مَنْ قال إن القوانين الطبيعية هي الحد الأقصى لما هو ممكن؟ إن إله الكتاب المقدس غير ملزم بالقوانين الطبيعية. وبما أن حديث الكتاب المقدس عن طبيعة الله صحيح، إذًا ما من مشكلة أبدًا في أن يعكس الله اتجاه الكواكب، أو أن يخلق نظامًا شمسيًا في ستة أيام. يمكن لله الكلي القوة والعلم، أن يفعل أي شيء ممكن منطقيًا.
يبدو الناقد غير عقلاني عندما يرفض ببساطة تلك التصريحات الكتابية التي لا تُرضي حسه بما هو ممكن، هذا الحس الشخصي الذي لا يقبل الجدل. إنه يقوم بمغالطة منطقية معروفة باسم “المصادرة (استجداء السؤال)”، أي أنه يقرر مسبقًا بأن أمور كالمعجزات مثلًا هي مستحيلة، وبالتالي يفترض ضمنيًا أن الكتاب المقدس غير صحيح لأنه يحتوي على معجزات، في حين أن هذا الافتراض نفسه هو نقطة البداية التي بدأ بها منطقه. إن منطق الناقد يسير في حلقة مفرغة. فقد قرر مسبقًا أنه لا وجود لله القوي والكلي القدرة، الذي يستطيع تحقيق كل ما سجَّله الكتاب المقدس، وعلى هذا الأساس يُجادل ضد إله الكتاب المقدس. هذا المنطق ليس مقنعًا البتة. لذا، عندما يتّهم الناقد الكتاب المقدس بكونه غير منطقي لأنه يتعارض مع تقييمه الشخصي لما هو ممكن، يتضح أن الناقد نفسه – وليس الكتاب المقدس – هو غير منطقي.
عندما يُجادل الناس بأن هناك شيئًا غريبًا أو غير معقول في الكتاب المقدس، يجب أن نسأل دائمًا: “ما المعيار الذي يحدد ما إذا كان غريبًا أو غير معقول؟” إذا كان المعيار هو رأي الناقد الشخصي والتعسفي، فيجب علينا عندئذٍ أن نشير بأدب إلى أن هذا، مهما كان، غير جدير بأن يكون منطقيًا. إن الأحاسيس الشخصية ليست المقياس في تحديد ما هو صحيح أو ممكن. في الواقع، بما أن جميع كنوز الحكمة والعلم مذخرة في المسيح (كولوسي2: 3)، نفهم بهذا أن الله نفسه هو مَنْ يستطيع أن يحدد الممكن. وبالتالي كلمته هي معيار المعقول، وليس لنا معيار آخر مستقل (غير تعسفي)، به نستطيع الحُكم على كلمة الله.
قوانين المنطق
لا يمكن رفض تصريحات الكتاب المقدس الاستثنائية لمجرد كونها غير عادية. إذا كان إله الكتاب المقدس موجودًا فعلًا، ويتمتع حقًا بالصفات التي ينسبها إليه الكتاب المقدس (كلي العلم، وكليّ القدرة، خارج الزمن، الخ.) لا يتبقى للناقد أي أساس لإنكار إمكانية المعجزة. واضح أن الله كليّ القدرة يستطيع جعل الحمار يتكلم، كما أنه يستطيع خلق الكون في ستة أيام، وجلب اثنين من كل حيوان لنوح، الخ. ليست هذه مشاكل ومعوقات من منظور الكتاب المقدس. عندما يرفض الناقد المعجزة لمجرد أنها معجزة، فهو ببساطة يستجدي السؤال (مغالطة المصادرة).
على أي حال، يؤكد الناقد أحيانًا أن الكتاب المقدس انتهك فعليًا قانون المنطق؛ يدعي أن هناك مقاطع متناقضة في الكتاب المقدس. هذا تحدِّ أخطر، لأنه لا يمكن أن يكون كلا المتناقضين صحيحًا – حتى من حيث المبدأ. إذا أيّد الكتاب المقدس بيانين متناقضين، فلا بد لأحدهما أن يكون بالضرورة خاطئًا، وأن يكون الكتاب المقدس معصومًا تمامًا. في الواقع، يتبين أن معظم التناقضات المزعومة غير موجودة. أنها تكشف ببساطة أن الناقد لا يفهم حقًا ما هو التناقض. التناقض هو (“أ” ولا “أ” في الوقت نفسه وفي العلاقة نفسها)، حيث “أ” هي أي اقتراح. التناقض هو تأكيد ونفي للاقتراح نفسه. وهذا لا ينطبق على معظم التناقضات الكتابية المزعومة.
حقيقة أن للمسيح سلسلتي أنساب ليست تناقضًا. في الواقع، إن لكل الناس نسبين (على الأقل) – أحدهما عبر الأب، والآخر عبر الأم. بعض الناس لديهم أكثر من نسبين بسبب أن الأب البيولوجي قد لا يكون هو نفسه الأب الشرعي. إن حقيقة أن يسوع وُلِدَ في بيت لحم، رغم أنه من “الناصرة” ليست تناقضًا لأن الرب يسوع ترعرع في الناصرة. وحقيقة أن (متى8: 28) يذكر رجلين مسكونين بشياطين لا تتعارض مع حقيقة أن (مرقس5: 2) و(لوقا8: 27) اختارا أن يذكرا أحدهما فقط. ربما كان أحد الرجلين أكثر عنفًا من الآخر؛ على أي حال، ما من تناقض في هذا.
التناقضات المزعومة تبين صحة الكتاب المقدس!
من المدهش أنه عندما يؤكد الناقد أن الكتاب المقدس يحتوي على تناقضات، فإنه يدحض من غير قصد موقفه الخاص، ويُثبت أن الكتاب المقدس صحيح. والسبب هو التالي: إن حق الكتاب المقدس هو المنطق الوحيد المقنع للإيمان بقانون عدم التناقض. يؤمن الجميع تقريبًا بقانون عدم التناقض. و”نعرف” جميعًا أنه لا يمكن أن يكون كلا التصريحين المتناقضين صحيحًا. ولكن هل فكرت يومًا بالسبب في هذا؟
ينبع قانون عدم التناقض من طبيعة إله الكتاب المقدس. الله لا ينكر نفسه (2تيموثاوس2: 13)، وكل العلم مذخر فيه (كولوسي2: 3)، وبالتالي فإن المعرفة الحقيقية لا تناقض نفسها.
عندما يُجادل الناس بأن هناك شيئًا غريبًا أو غير معقول في الكتاب المقدس، يجب أن نسأل دائمًا: “ما المعيار الذي يحدد ما إذا كان غريبًا أو غير معقول؟”