هايدي حنا
هل من الممكن أن يعاني المراهق من مشكلة أزمة الثقة في الآخرين؟ وما السبب في هذه الأزمة؟ وكيف نتعامل معها؟ هذا ما سوف نناقشه خلال السطور التالية…
في البداية، علينا أن ندرك أن مرحلة المراهقة من أكثر المراحل التي تتعرض لأزمة الثقة بسبب مشاعر المراهق الحساسة التي تُجرح بسهولة حتى وإن كان لا يبدو عليه هذا، وذلك بسبب سيكولوﭼيته والتي تجعله غير متزن نفسيًا لأنه ما زال يحدد شخصيته – هويّته – كما سبق القول في سلسلة مقالات “رحلة لأعماق المراهق”. هذه السمة تجعل مشاعره تهتز بسرعة لأنه لم يصل لمرحلة النضج التي تجعله يتعامل مع الصدمات الخاصة بالثقة بصورة صحيحة وبقوة نفسية دون عدم اتزان.
في البداية، علينا معرفة السبب في تلك الأزمة:
1) خيانة الأصدقاء: من أصعب الأمور التي تجعل المراهق يفقد الثقة في الآخرين، وقد تستمر هذه الأزمة في حياته، خيانة الأصدقاء بعدما منحهم ثقته. هذا بالإضافة إلى أن تأثير هذه الصدمة على المراهق يكون قوية أكثر من أي مرحلة أخرى كما سبق القول، لذا فإن صدمته بخيانة صديقه الذي منحه ثقته تمثل أقوى صدمة يتعرض لها وتجعله يفقد الثقة في الآخرين بصفة عامة. والجدير بالذكر أن هذه المشكلة تظل معه في حياته المستقبلية، بل والبعض منهم يعزف عن تكوين صداقات مرة أخرى، والبعض يكون منهكًا في العلاقات العاطفية بسبب عدم قدرته على الثقة في الآخر.
2) إحباطه من شخص وثق فيه: مثل، قائده في الاجتماع، مرشده الروحي، مشيره، العم، الخال،…؛ فليس من السهل أن يثق المراهق في الشخصيات الراشدة التي هي تمثل رمز السُلطة لديه، حيث إن العلاقة بينهم هي علاقة شَدّْ وجذب وليس ثقة، وذلك بسبب إصرار الراشد على فرض السُلطة ورفض المراهق لهذه الطريقة. لذا عندما يثق المراهق في شخصية تمثل له رمز سُلطة ويقترب منها ويسمع لها فهذا يعني أن يقوم بأمر خارج سيكولوﭼيته، وبالتالي إن قام هذا الشخص بسلوك سلبي غير متوقع يهدم به هذه الصورة التي وضعها له المراهق فإنها تكون صدمة حقيقية له تجعله يفقد الثقة في أي شخص آخر فيما بعد مهما كان جديرًا بالثقة. فكما سبق القول بسبب حساسية مشاعر المراهق فإن ما يؤثر على الراشد بنسبة 100% يؤثر 200% على المراهق، حيث إن ردود أفعال المراهق تكون أقوى وأشد عنفًا.
3) غياب القدوة والصدمة فيمن يُعرف بالمثل الأعلى: والمقصود هنا الوالدان، فعندما يرى فيما يمثل قدوة بالنسبة له يقوم بسلوكيات سلبية من: الخلافات بين الوالدين والتي تشمل الضرب والإهانة، عدم الاهتمام بالأهل وإهمالهم، خيانة أصدقائهم، الخلافات مع الأهل بسبب المال والميراث، الذم في الغير من وراء ظهورهم في الوقت رغم أنهم يبتسمون في وجوهم بل ويمدحونهم…، الحياة بأقنعة التقوى في الكنيسة وأمام الآخرين والحياة بقناع مختلف وسط الأسرة من طمع، غيرة، كذب، حقد… وغيرها من السلوكيات التي يرى فيها المراهق خيانة الكبير للغير، خاصةً عندما يكون هذا الكبير يمثل القدوة والمثل الأعلى له تنكسر بداخله الثقة في الآخر. والجدير بالذكر أنه من أصعب المواقف التي يتعرض لها المراهق والتي تسبب له أزمة الثقة في الآخرين هو غياب القدوة والصدمة التي يتعرض لها في المثل الأعلى.
4) التحرش الجنسي: فالتحرش به يجعله لا يثق في أي شخص بسبب خوفه أن يغدر به بعد ذلك ويتحرش به، حيث لم يعد يثق في تقديم الحب له، الملامسات لغرض التعزية… أو أي سلوك كان يقوم به المتحرش نحوه، خاصةً إذا كان المتحرش شخصية وثق فيها، وتزداد الأزمة عندما لا يجد من أسرته المساندة والوقوف في ظهره ومساعدته على أخذ حقه من الجاني.
كيف نتعامل مع هذه الأزمة؟
بالنسبة لغياب القدوة:
كثيرًا ما ناقشتُ فكرة غياب القدوة، وأكرر كثيرًا لكل أب وكل أم: أنتم قدوة لطفلك مهما كان يبدو عليه عدم الاهتمام، لكنه في الحقيقة مهتم جدًا بل ويؤثر عليه غياب القدوة بصورة سلبية، لذا من المهم أن تحترسوا في سلوكياتكم، علاقتكم، كلامكم… لئلا تكونوا سبب هذه الأزمة لدى طفلكم وهنا أتذكر آية جميلة جدًا وهي: “وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْتَنِي بِخَاصَّتِهِ، وَلاَ سِيَّمَا أَهْلُ بَيْتِهِ، فَقَدْ أَنْكَرَ الإِيمَانَ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ” (تيموثاوس الأولى 5: 8). إن طفلك بصفة عامة وطفلك المراهق بصفة خاصة يحتاج منك أن تكون قدوة له في الحياة بحيث يكون ما تقوله هو ما تفعله، فهكذا تساعده على عدم التعرض لتلك الأزمة والتي سبق وأشرتُ إلى أنه تكون قوية جدًا عندما يكون السبب فيها الوالدين. ولعلك تلاحظ الصفة التي يصف بها الكتاب إلى الشخص الذي لا يهتم بأهل بيته وهي أنه: “أَنْكَرَ الإِيمَانَ، وَهُوَ شَرٌّ مِنْ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ.”
بالنسبة لمشكلة إحباطه من شخص وثق فيه أو خيانة أصدقائه:
هذه الأزمة لأنها خارج دائرة الوالدين لذا سيكون أساس خروج المراهق من هذه الأزمة هو مساعدة الوالدين له وذلك من خلال:
1) مساندته واحتواؤه، وتتوقف هذه الخطوة على مدى قربكما منه ومدى شعوره أنه محبوب منكم، عندها سيكون من السهل مشاركتكما بما يشعر به وقبوله لمساندتكما وسماعه لكما في حواركما معه.
2) كي ينجح الحوار معه عليكما أن تسمعاه جيدًا دون مقاطعة، بل عليه أن يشعر وهو يشارككما بأزمته هذه بأنكما تشعران به وبألمه ولا تستهينان به وتقللان من شدة الأزمة التي يمر بها بقولكما: “وإيه يعني اللي يسيبك سيبه وبكرة تلاقي غيره، ده الموضوع بسيط ما يستهلش كل اللي انت فيه ده…”، فمثل تلك العبارات تجعله يشعر بالإحباط بسبب الاستهانة بمشاعره.
3) بعد سماعه بهدوء وتقدير مشاعره عليكما توضيح أنه على حق بما يشعر به من ألم، لكن هكذا هو حال العالم فيه الحلو والمخلص وفيه المُر والخائن، وهذا بالتأكيد مؤلم ويسبب صدمة ومع ذلك يجب عدم الاستسلام للحزن والتوقف عن الحياة، بل علينا أن نتعلم الدرس كي لا نكرر أخطاءنا ونستمر في الحياة دون أن تكسرنا الأزمة. فمثلًا لا نمنح الثقة بسرعة للآخر قبل أن نعرفه جيدًا من عدة مواقف إيجابية تعكس أمانته سواء معنا أو مع الآخرين. وعلى الوالدين التأكيد له بأنه في كل مرة سوف يواجه المُر أو الخائن في الحياة من حقه أن يحزن لكن لا يستسلم لهذا الحزن ولا يضعف وينهار بل عليه أن يتحدى هذه الأزمة ويتعلم درسًا في الحياة تجعل خبرته قوية فلا يكرر ما قام به من خطأ، وعندها سوف يتذوق الحلو والمخلص في الحياة.
4) في نهاية حواركما معه وضحا له أنكما في ظهره ومتاحين له في أي وقت، ثم لا تعودا لفتح هذا الموضوع معه مرة ثانية إلا إذا تكلم هو معكما وأراد فتحه مرة ثانية، وذلك لأنه كثيرًا ما يرغب المراهق ألا يتكلم في موضوع سبق وفتح قلبه معكما فيه، وهذا بسبب سماته التي منها عدم مشاركة رمز السُلطة بضعفه والاعتراف بأنه يحتاج لهما. والجدير بالذكر أن الكثير من الناضجين بعد فتح قلوبهم والتكلم عما بداخلهم من ألم لا يرغبون من الآخر أن يحاول فتح الموضوع مرة ثانية حيث إن انفتاحهم يكون لحظة يحتاجون فيها التخفيف عن ألمهم بمشاركته مع الآخر ثم قد يندمون لأن من طبيعتهم عدم مشاركة الآخر بضعفهم. لذا فمشاركتهم كانت في لحظة انهيار ولا يرغبون في إعادة هذا السلوك، أو لأن ما شاركوا به يخص أمرًا خاصًا جدًا في حياتهم ولا يريدون التحاور فيه مرة ثانية على أمل أن ينسى الآخر ما شاركه به. لذا إن لم يفتح المراهق الموضوع مرة ثانية فاحترم هذا السلوك حتى وإن كان المطلوب منه رد فعل عليه القيام به ويريد الوالدان الاطمئنان عليه.
5) للتعامل بحكمة مع صمت المراهق مع التحاور معه، من الممكن بعد وقت أن تسألاه: هل هناك أخبار جديدة؟ وإن تهرب أو لو اختصر بأن كل شيء جيد… فاحترما رد فعله هذا بدون الضغط عليه. ونستطيع القول إن على الوالدين أن يعرفا الشعرة اللي بين الاهتمام والمساندة وبين التدخل والاقتحام في وقت هو لا يرغب في هذا، فالسؤال هنا على حاله بعد وقت من الحوار مهم ودليل على الاهتمام، لكن لو كانت إجابته تدل على أنه لا يرغب في الاسترسال في الحوار فعلى الوالدين ألا يغضبا بل يحترما صمت المراهق فهذا دليل على عدم رغبة الوالدين في اقتحام حياته.
أما بالنسبة لتعرضه للتحرش، فقد ناقشتُ هذه القضية في مقالات سابقة سواء كيف نحميه من التحرش، أو كيف نواجه المتحرش لأخذ حقه، كذلك ناقشتُ كيفية التعامل معه كي يتخطى تلك الأزمة.
أخيرًا..
على الوالدين ألا يقللا من هذه الأزمة إن لاحظا على طفلهما المراهق سلوكيات تقول إنه أحبط من شخص ما كان يثق فيه، أو ابتعد عن صديق كان ملتصق فيه كأخيه بل عليهما مساندته كما سبق القول، كذلك على الوالدين ألا يتهاونا في سلوكهما بل يسلكوا بالتدقيق كما أوصانا الكتاب المقدس، وهذا ليس فقط حماية لنا من الانزلاق في طريق بعيد عن الله، لكن حمايةً لأطفالنا خاصةً المراهقين من التعرض لتلك الأزمة. بالإضافة إلى ذلك، سنجده يرفض أي نصيحة من الوالدين لطاعة كلمة الله، فكيف لهما أن يطلبا هذا الطلب وهما غير قادرين على القيام بهذا؟ لذا فحمايةً لطفلك، خاصةً المراهق، كن مثله الأعلى في حياتك وسلوكك قبل نصائحك.