د. ق. عزت شاكر
سألني أحدهم قائلًا: عندما تحدث الرسول بولس عن قيامة المسيح وقال: “لذلك يقول: «إذ صعد إلى العلاء سبى سبيًا وأعطى الناس عطايا». وأما أنه «صعد»، فما هو إلا إنه نزل أيضًا أولًا إلى أقسام الأرض السفلى. الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات، لكي يملأ الكل” (أف 4: 8-9)، ماذا كان يقصده بـ “أقسام الأرض السفلى”؟ وكيف نزل المسيح إلى أقسام الأرض السفلى؟ ومتى؟ ولماذا؟
وللإجابة على هذه الأسئلة أقول:
عندما يقول الرسول بولس في عدد 8: “لذلك يقول «إذ صعد إلى العلاء سبى سبيًا وأعطى الناس عطايا»” فهو يقتبس من (مز 68: 18) بحسب الترجمة السبعينية، حيث يقول المرنم: “صعدت إلى العلاء. سبيت سبيًا. قبلت عطايا بين الناس، وأيضًا المتمردين للسكن أيها الرب الإله.” ولقد استطاع الرسول بولس بنور الوحي والإلهام أن يطبق هذه النبوة القديمة على صعود المسيح ونواله موعد الروح ثم إعطائه هبة الروح القدس لكل مؤمن متحد به.
وفي هذا المزمور، يصف المرنم عودة الملك المنتصر، والذي كان يصعد طريق جبل الزيتون الشديد الانحدار، ليصل إلى شوارع المدينة المقدسة في موكب انتصار، ويُحضر معه جماعة الأسرى مقيدين بالسلاسل يمشون من خلفه. وهنا نلاحظ اختلافًا كبيرًا بين نص الآية في سفر المزامير وبين ما اقتبسه الرسول بولس، فالمرنم يقول: “سبيت سبيًا. قبلت عطايا بين الناس”، بينما الرسول يقول هنا: “سبى سبيًا وأعطى الناس عطايا”، فالرسول بولس وضع “أعطى الناس عطايا” مكان “قبلت عطايا بين الناس.” فالملك المنتصر في القديم كان يأخذ كل ممتلكات البلد التي هزمها كغنائم، بل وكان البلد المهزوم يدفع له الجزية، ويقدم عطايا وهبات ليرد الأسرى، أما في العهد الجديد فإن مسيحنا، بعد أن هزم إبليس وجرده من أسلحته بل وأباده في الصليب، هو الذي يقدم هباته وعطاياه لنا، وهذه هي رسالة الأخبار السارة. ويقول د. القس إبراهيم سعيد إنه لا يوجد تناقض لأن الملك في القديم كان يأخذ الغنائم والعطايا من البلد المهزوم ليقدمها لشعبه، والرسول بولس هنا يذكر غاية قبول العطايا وهي توزيعها على شعبه.” ويقول وليم باركلي: “إن بولس يذكر حقيقة رائعة هنا عندما يقول: “الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات، لكي يملأ الكل” وهي أن يسوع الممجد هو عينه الذي سارت قدماه على أرضنا، ولا زال يجب جميع البشر، ولا زال يبحث عن الخاطئ، ولا زال يشفي المتألمين، ولا زال يعزي الحزانى، ولا زال صديق المنبوذين. لقد صعد إلى العلاء لكنه لم يصعد ليهجر العالم، لقد صعد ليملأ العالم كله بحضوره.
أما عندما يقول في عدد 9: “وأما أنه «صعد»، فما هو إلا إنه نزل أيضًا أولًا إلى أقسام الأرض السفلى”، فهناك عدة آراء حول المقصود بأقسام الأرض السفلى وهي كالتالي:
الرأي الأول:
إن هذه العبارة في اللغة اليونانية تعني حرفيًا الأقسام السفلى وتشير إلى “الأرض” فالأرض هي الأقسام السفلى بالنسبة للسماء التي هي الأقسام العليا، أو كما أطلق عليها في الآية التالية أنها “فوق جميع السموات.” ويؤكد هذا ما جاء في (إش 44: 23)، حيث يطلق النبي على الأرض تعبير “أسافل الأرض” فيقول: “ترنمي أيتها السموات لأن الرب قد فعل. اهتفي يا أسافل الأرض. أشيدي أيتها الجبال ترنمًا” ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي يذكر الوحي فيها عن الأرض أنها “أسافل الأرض” أو “باطن الأرض”، فعندما تحدث داود عن الحمل به في بطن أمه قال: “لأنك أنت اقتنيت كليتي. نسجتني في بطن أمي. أحمدك من أجل أني قد امتزت عجبًا. عجيبة هي أعمالك، ونفسي تعرف ذلك يقينًا. لم تختف عنك عظامي حينما صنعت في الخفاء، ورقمت في أعماق الأرض. رأت عيناك أعضائي، وفي سفرك كلها كُتبت يوم تصورت، إذ لم يكن واحد منها” (مز 139: 13-26). ويرد عدد 15 في ترجمة (كتاب الحياة): “لم يخف عليك كياني عندما كونت في السر وجُبلت في أعماق الأرض.” وبذلك فإن الرسول بولس يشير بنزول المسيح إلى أقسام الأرض السفلى إلى تجسده. وهذا ما تؤكده ترجمة (NEB) فنجدها كالآتي: “أما الكلمة صعد فتشير إلى أنه نزل أيضًا إلى الأقسام السفلى، أي إلى الأرض بذاتها.”
الرأي الثاني:
أقسام الأرض السفلى تشير إلى القبر، فيقول المرنم: “أما الذين هم للتهلكة يطلبون نفسي، فيدخلون في أسافل الأرض” (مز 63: 9). وأسافل الأرض هنا تعني القبر، فالإشارة هنا تعني موت المسيح ودفنه في القبر، وهذا أقل مستوى تنازل إليه المسيح في اتضاعه، فقد أطاع حتى الموت. ويربط وليم ماكدونالد بين الرأيين قائلًا: “إن عملية النزول قد تحققت تمامًا في تجسد الرب وموته ودفنه، ويضيف: نعم لقد نزل المسيح إلى أقسام الأرض السفلى، فقد نزل إلى مزود بيت لحم، ثم إلى موت الصليب فإلى القبر.”
ويقول جون ستوت: “لم تكن في ذهن الرسول بولس أبدًا مسألة النزول أو الصعود في معانيهما المكانية، بل تكلم بولس عن إشارتهما للذل والمجد”، ويضيف: “إن نزول المسيح إلى أقسام الأرض السفلى يعني ببساطة أنه اتضع إلى أقصى درجة من الاتضاع، وهذا مطابق تمامًا لما سُجل في (في2: 5-11)، حيث اعتُبر الصليب وموت المسيح بالصليب أدنى درجة من الذل والعار، ثم تلت ذلك رفعة المسيح المجيدة.”
الرأي الثالث:
وهو الذي تتبناه الكنيسة التقليدية، حيث يقولون: “عندما يقول الرسول إن المسيح نزل أولًا إلى أقسام الأرض السفلى: أي الجحيم أو الهاوية، مكان الأرواح المقيدة في أسر العدو. وبحسب تقليد الكنيسة فإن المسيح بعد الصليب مباشرةً نزل إلى الهاوية (الجحيم) حيث كانت الأرواح البارة في انتظار ذلك اليوم منذ آدم حتى يوم الصليب، فذهب المسيح وبشرهم (1بط 3: 19، 20). ثم صعد من الهاوية حاملًا أرواح هؤلاء القديسين الذين كانوا مسبيين في سبي العدو إبليس، فاعتبر المسيح أنه سبى مرة أخرى هؤلاء المسبيين، ولكنه سباهم لحساب النعمة والملكوت، وخرج من الهاوية منتصرًا وقام وصعد للسماء وأعطى الناس الذين على الأرض مواهب أي عطايا أو كرامات، فالمسيح بعد صعوده أرسل للكنيسة الروح القدس.”
وكما يقول فرانسيس فولكس: “لا توجد أي إشارة هنا إلى نزول المسيح ليعظ بالإنجيل إلى مَنْ ماتوا قبل مجيئه.”
هذا بالطبع إلى جانب أن كلمة الله تؤكد لنا بوضوح أن المسيح بعد موته ذهب مباشرةً إلى الفردوس، ألم يقل بفمه الطاهر للص التائب: “الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 23: 43). لذلك أقول بكل يقين: لم يذهب المسيح إلى الجحيم بعد موته.