صورة مفرحة للمسيح والعذراء مبتسمين تثير لغطًا
هل نقل ثقافة العالم وإسقاطها على الأيقونات هو “عمل شيطاني”؟
تحقيق: د. ماريانا يوسف
ونحن في ظل أجواء عيد الميلاد المجيد، تداولت مواقع السوشيال ميديا صورة للعذراء مريم حاملة ابنها الطفل يسوع وكل منهما مبتسم على خلاف الصورة التقليدية المعروفة والتي لا تُظهِر ابتسامة، وتناقلها الأقباط فيما بينهم مهنئين بعضهم بعضًا بالعيد المجيد، فأثارت تلك الصورة حفيظة البعض وانقسم الأقباط إلى قسمين: قسم متحفظ على الصورة يعتبر ذلك نوعًا من “الهرطقة” معتمدًا على أن الإنجيل ذكر أن يسوع “بكي” ولم يذكر قط أنه ضحك أو ابتسم، بينما هناك على الجهة الأخرى أناس يرون أن المسيح عندما عاش على الأرض كانسان كان يضحك ويبكي ويتألم ويفرح وأن الصورة المبتسمة تضيف حالة من الفرح وتُدخِل السرور إلى النفس أكثر من تلك الصورة المعتادة التي لا تُظهِر ابتسامة.
الراهب السرياني: هذا العمل يسيء إلى الله وكتابه المقدس
كانت هناك حملة قادها الراهب واﻷب يحنس السرياني، بعد أن أضفى أحد المعاصرين ابتسامة وقورة على وجوه كل من يسوع وأمه مريم في إحدى اﻷيقونات الشهيرة.
وصف اﻷب الراهب هذا العمل بالتهريج والعك، وقال إننا “لم نسمع في إنجيلنا عن الرب يسوع أنه ضحك أو عن أم النور أنها ضحكت، لكن الكتاب قال: ’بكى يسوع.‘”
ثم أكمل طارحًا قناعته بشكل قاطع أن هذا العمل “يسيء إلى الله وكتابه المقدس.”
كانت أفكار السرياني أكثر وضوحًا في رفضه، حيث قال: “نقل ثقافة العالم وإسقاطها على الأيقونات هو عمل شيطاني ومرفوض بشكل قطعي، بلاش فزلكة، وبلاش اللعب في المُسَلَّمات، وبلاش الخلط بين الفرح الروحي والضحك.”
خطورة هذا الطرح من اﻷب يحنس ليست فقط في الطرح ذاته، بل في شخص صاحبه. هو ببساطة راهب وكاهن وقد يختلط اﻷمر على العوام ويظنون أن رأيه هو رأي الكنيسة ورأي المؤسسة ورأي الدين ورأي المسيح شخصيًا، وكل هذا محض افتراء.
فاﻷب الراهب يضع خطًا فاصلًا وحادًا بين الفرح وبين الابتسام، فاﻷول لديه مقبول والثاني غير مقبول، مع أن الثاني هو أحد دلالات اﻷول! كيف يمكن للمرء أن يفرح دون ابتسامات؟ وما معنى الفرح دون أقل مظاهر الفرح؟ وماذا عن داود النبي الذي كان مفهوم الفرح لديه مرتبطًا بالرقص والعزف والهرولة بشكل ارتجالي بعيدًا عن قيود الملوك؟ ومَنْ وضع هذه الفواصل الحادة التي قد تصل بنا لفرح حبيس الصدور ﻻ يغادرها وإﻻ عُدَّ ممنوعًا؟ وﻻ نفهم لماذا يصر البعض على وضع عداوة بين المقدس وبين سعادة اﻹنسان!
ذهبي الفم: المسيح لم يضحك أو يبتسم… وأفكاره تدعو لترشيد الضحك والتبسم
يُذكر أن يوحنا ذهبي الفم (347–407) هو أول مَنْ أشار إلى عدم ورود ذكر لضحك المسيح قط، مستشهدًا بذلك على كون النحيب أكثر ملاءمةً للحياة الدنيوية، موبِّخًا الضاحكين، ومذكِّرًا إياهم بآلام السيد المسيح. وفي زمن ذهبي الفم، أعلن القديس جيروم (347 – 420) أيضًا أن الضحك سلوك لا يليق بمسيحي. لم يكن ذهبي الفم وجيروم سوى حبتين في عقد من اللاهوتيين والكنسيين الذين طالبوا أتباعهم بترشيد الضحك، بل والتبسم نفسه أحيانًا.
يأتي ذكر الضحك في أدبيات الرهبنة كنقيصة وشيْن، حاله كحال السباب، والكذب، والغضب، والإساءة للغير. ولا عجب من موقف الرهبنة المسيحية من الضحك، فلم يُذكر عن مؤسسها – القديس أنطونيوس الكبير (251– 356) – أنه ضحك قط. وقد احتفظ بعض آباء الكنيسة بموقف وسطي من الضحك، مثل القديس أوغسطين.
اللاهوتي خريستو المر: الإنجيل لم يذكر أن المسيح ضحك… ولكنه لم يذكر أيضًا أنه لم يضحك
وفي مقالة له، كتب خريستو المر، وهو كاتب لاهوتي فلسطيني ومُساهم وعضو في مجلة النور (تصدرها حركة الشبيبة الأرثوذكسية)، ردًا على أن يسوع لم يضحك أو يبتسم: “صحيح أن الإنجيل لم يذكر أن المسيح ضحك، ولكنه لم يذكر أيضًا أنه لم يضحك؛ والإنجيل لم يذكر أشياء كثيرة، الإنجيل لا يصف حياة يسوع بكامل تفاصيلها، بل يكتفي بما هو أساس للوصول إلى هدف إيماني: وصف طبيعة علاقة الله معنا، وما ينبغي لعلاقتنا معه ومع الآخرين أن تكون لنكون فَرِحين مُحَقِّقين إنسانيتنا.
إن الاعتقاد بأن يسوع لم يضحك أبدًا أو بأنه يفتقر إلى روح الدعابة يتعارض مع العقيدة التي تعبت الكنيسة في صياغتها بجهد لاهوتي كبير، ألا وهي أن يسوع يحمل الطبيعة البشرية كاملة، ومنها النفس البشرية وأوضاعها الطبيعية، وما يعتمل فيها من مشاعر، ولذلك لا شك أنه كما بكى لموت صديقه لعازر، وغضب أمام لصوص الإيمان الذين يستغلون الناس وقلب طاولاتهم في الهيكل، فإنه ابتسم استقبالًا للوجوه وفرحًا بها، وضحك لدعابة ذكية، كتلك التي بدأنا فيها هذه المقالة.”
الخوري باتريك كساب: تواجد يسوع في عُرس قانا دليل حسي على مشاركته أفراح الناس بالابتسام على الأقل
وفي ذات السياق، كتب الخوري باتريك كساب مقالة، وهو كاهن بأبرشية أنطلياس المارونية، وحاصل على بكالوريوس في اللاهوت من جامعة الروح القدس من الكسليك، وحائز على ماجستير في الإدارة والتدبير الرعوي من جامعة القديس يوسف ببيروت.
قال الخوري في مقالته ردًا على أن يسوع لم يضحك أو يبتسم قط: “في الكتاب المُقدّس لا شواهِدَ مُباشرة وصريحة تقولُ إنَّ يسوعَ أخبَرَ النُكاتَ أو ضَحِكَ مثلًا. لكنَّ بَعضَ شُرَّاحِ الكتابِ المُقدَّس رأوا في تعابيرِ يسوع البعضَ مِن الفُكاهة، الّتي لا تبدو لنا كَذَلِكَ، لأنَّهُ يَصعُبُ علينا نحنُ اليوم أن نفهَمَها، لا سيّما أنَّ الثقافات تتبدَّل عَبرَ التاريخ. مثالًا على ذَلِكَ، ما قالَهُ يسوع حينَ دعي المُرائي لإخراجِ الخَشَبة مِن عينِهِ (متّى 7: 5)، والّذي قَد يكونُ استعارةً مُضحِكة لأبناءِ جيلِه. بالطبعِ كُلُّها فرضيّات غير مؤكَّدة.
لكنَّ تواجُد يسوع في عُرسِ قانا (يو 2: 1-12) هو دليلٌ حسّي على مُشاركتِهِ أفراحَ الناس. في العُرسِ، رَمْز الفَرَح والتعييد، الجميعُ يُغنّونَ ويَرقُصون، ويُخبرونَ النُكات، ويضحكون ويقهقهون. ولا أتخيَّلُ يسوعَ ضيفًا سمِجًا، لا يضحَكُ أبدًا، يُنَكِّدُ عيشَ المُعيّدين. مِن البديهيّ أنَّهُ فرِحَ أيضًا مع المُعيّدين في عُرسِ قانا. بَل أكثَر، أنقَذَ العُرسَ وكمَّلَهُ بآيَتِهِ الأولى، مُعلِنًا ألّا فَرَحَ كامِلَ مِن دونِه.”
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الفن معصوم؟
الفن ليس مقدسًا، بل هو إبداع بشري حر وقائم على الخيال المحض يتبارى فيه الفنانون في “أيقنة” الـ “اللقطة الثابتة، سواء كانت مرسومة أو منحوتة، وفق أدوات ومدارس فنية ذات سمات وخصائص متباينة تختلف بالعصور والمنطقة الجغرافية.
كل صورة تحمل رأيًا – شخصيًا وإنسانيًا – ومذيلة بتوقيع الفنان وتُعد جزءًا من حرية اﻹبداع اﻹنساني. والفنان غير مقيَّد بنص ديني، وهو يرسم قناعاته الذاتية في المسيح كملك منتصر حتى وإن أخبرتنا اﻷناجيل أن إكليل يسوع الوحيد كان من أشواك.
الفن ﻻ قواعد ثابتة له، وﻻ ضمانات مقدمة من الله أو رجاله بعصمة الفن. تعقيدات الفنان ربما تكون أكبر من أن تفهمها أجيال بِرُمَّتها. مثلًا، وفي نفس اللوحة، الطفل يسوع لم يرتدِ التاج الذهبي الملوكي يومًا، وهو القائل راشدًا: “مملكتي ليست من هذا العالم.”
الايقونات الطقسية بين العمل الإنساني والهوية الدينية
من لغة اﻷيقونات الفنية المتعددة، هناك جزء يسمى “اﻷيقونات الطقسية”، وهذا معناه التاريخي يعود للمؤسسة الدينية التي انتخبت جزءًا من هذه الفنون البشرية، وارتأت أنه وافق معايير أخرى للدقة العلمية بجوار كونه “إبداعًا فنيًا”، فدشنته، أي عمَّدته. ولهذا طقوس مقدسة تصير من بعدها اﻷيقونة حاملة لبركة الكنيسة على العمل اﻹنساني، وتُعَامَل معاملة خاصة من المؤمنين (المسيحيين) بعد أن صارت ممسوحة بزيت الميرون المقدس، والمتوارث لمئات السنين من ذخائر ﻻمست جسد المسيح واستُخدمت في تطييبه. وهي هنا، بالتدشين، قد صارت مقدسة.
وﻻ تنعكس القداسة على نُسخ الأيقونات المقلدة المباعة في المكتبات، وﻻ بالطبع نسخها الرقمية التي يضعها البعض بديلًا لصورة المف الشخصي في الشوسيال ميديا أو يحمِّلونها على هواتفهم للتبرك بها.
وفي النهاية.. فان خطورة هذا الطرح من اﻷب يحنس ليست فقط في الطرح ذاته، بل في شخص صاحبه. هو ببساطة راهب وكاهن يتحدث في شؤون عالم يتخاصم معه ومع لغته، وقد يختلط اﻷمر على العوام ويظنون أن رأيه هو رأي الكنيسة ورأي المؤسسة ورأي الدين ورأي المسيح شخصيًا. وكل هذا محض افتراء يجب أن يُردَع بحسم في مجال الرأي الشخصي، خاصةً وأن أساس الفن هو الحرية في الإبداع وأي تقييد للفن يجعله هزيلًا مكررًا مقيَّدًا.