19.4 C
Cairo
الجمعة, ديسمبر 20, 2024
الرئيسيةفكر مسيحيمُصالحة علم اللاهوت والرُوحَانِية: التقليد الوسلي (١٨)

مُصالحة علم اللاهوت والرُوحَانِية: التقليد الوسلي (١٨)

مُصالحة علم اللاهوت والرُوحَانِية
التقليد الوسلي (١٨)
وسلي والقراءة التحليلية والنقدية للآباء وللتراث المُصلَح – الجزء الأول

الدكتور ثروت ماهر

القاريء العزيز، عبر مقالات سابقة من هذه السلسلة، أشرت إشارات متعددة إلى علاقة التقليد الوسلي ببعض التقاليد الآبائية الشرقية وبعض التقاليد المصلحة الغربية. ورأينا تلاقي الفكر الوسلي مع فكر آباء الشرق -مثل: إكليمندس السكندري، ومقاريوس الكبير، وأثناسيوس الرسولي، وغريغوريوس النيصي، وغيرهم- في الكثير من الموضوعات المركزية في الحياة المسيحية، مثل: فهم ماهية العلاقة بين الزمن والأبدية، ومركزية هذا الفهم في تفسير علم الله الكلي، ونظرة وسلي والآباء للخلاص كشفاء، وفهم وسلي والآباء للخلاص بكونه اتحاد مع المسيح، ومكانة النعمة والاجتهاد في هذا الاتحاد. كما أشرت إلى كثير من الدارسين الذين أصَّلُوا لهذا التلاقي بين وسلي وآباء الشرق؛ سواء من خلال رصد اقتباسات وسلي المباشرة من الآباء، أو من خلال القراءة التحليلية لكتابات وسلي والآباء.

كما تناولنا في مقالات أخرى علاقة وسلي ببعض التقاليد الغربية المُصلحة، مثل: التقليد اللوثري التقوي، وحركات المورافيان، والأنابابتيست، واتفاقه مع كثير من مباديء هذه التقاليد الروحية. مما أدى بالكثير من دارسي تاريخ الفكر المسيحي لاعتبار وسلي حلقة الوصل بين التقاليد الشرقية والغربية، لمصالحته للمباديء الروحية والتعريفات اللاهوتية، وجمعها من الشرق والغرب.

في هذا المقال، أود أن أجيب عن سؤال رئيس فيما يخص علاقة التقليد الوسلي بالتقاليد الروحية التي سبقته، وهو: هل كان وسلي دائم الوفاق في كل التفاصيل مع هذه التقاليد التي قرأها واستخدمها؟ أو بكلمات أخرى: هل اقتصر تعامل وسلي مع ما سبقه من تقاليد روحية على “النقل”؟ أم تعامل مع ما سبقه من تقاليد بنظرة تحليلية، وقرأها قراءة نقدية، مكنته من تبني ما يراه مناسب، وتنحية ما لم يقتنع به؟ الإجابة المبدئية لهذا السؤال هي: أن وسلي قد قرأ هذه التقاليد الآبائية والمصلحة -شرقًا وغربًا- قراءة تحليلية ونقدية، مكنته من اختيار المناسب، وتعديل -أو أحيانًا رفض وتنحية- ما لم يراه متوافقًا مع الإعلان الكتابي وتاريخ الكنيسة والخبرة الروحية؛ وهذه هي الأطروحة التي سأعمل على إثباتها في هذا المقال.

منهجية وسلي في قراءة النصوص اللاهوتية الآبائية والمصلحة!

يُجمع دارسو التقليد الوسلي على استخدام جون وسلي لرباعية أوتلر في صياغته لأفكاره اللاهوتية. وهذه الرباعية هي أربعة أضلاع استنتج عالم الدراسات الوسلية ألبرت أوتلر (۱۹۰۸–۱۹۸۹م.) -كما سبق الحديث بالتفصيل في مقالات سابقة- أن وسلي قد استخدمها بشكل منهجي ليصيغ مفردات فكره اللاهوتي، وهي: الكتاب المقدس، وتاريخ الكنيسة (التقليد)، والخبرة الروحية، والتفكر. ومنطقيًا، فإن استخدام وسلي لهذه الرباعية يعطي إثباتًا مباشرًا أنه قد قرأ التقاليد التي سبقته قراءة تحليلية نقدية. فالتقاليد الروحية المُشار إليها تُمَثَل في الرباعية بضلع “تاريخ الكنيسة (التقليد)”، والذي بدوره يتحرك كترس في ماكينة رباعية، بالتناغم مع باقي الأضلاع/ التروس، وليس بمعزل عنها. بمعنى أن كل نص آت من تقليد روحي تاريخي -ممثلاً لضلع تاريخ الكنيسة- قد قرأه وسلي في ضوء باقي الأضلاع: ليختبر صحته -كتابيًا- عبر ضلع الأسفار المقدسة (وهو الأثقل بين الأضلاع وزنًا نوعيًا)، ويقيس صموده عبر ضلع الخبرة الروحية الجماعية والفردية، ثم يمتحن اتساقه مع باقي الأضلاع عبر ضلع المنطق المستنير بالروح القدس. وكما يُعبَر عنه في الكتابات اللاهوتية الوسلية: فإن الكتاب المقدس يُعلن (كمصدر الإعلان الإلهي)، والتقليد -أو تاريخ الكنيسة- يُلمِع، والخبرة الروحية تُنعش وتُجدد، والتفكر يؤكد ويثبت. وهكذا فما قرأه وسلي كان يتم قياسه بمقاييس متنوعة إما لإثبات أصالته، أو لاكتشاف حيدانه عن الحق. وقد طبَّق وسلي هذه المباديء في قراءته للنصوص، وفي تقييمه للشخصيات والحركات التاريخية، وفي حُكمه على النظريات اللاهوتية، فاتفق مع كثير من أفكار التقاليد الآبائية والمصلحة، لكنه اختلف أيضًا مع أفكار أخرى لم يحسبها صحيحة، كما سأوضح في الأمثلة التالية.

 قراءة وسلي النقدية للإمبراطور قسطنطين وتأثير فترة حكمه على الكنيسة!

تُعد نظرة وسلي للإمبراطور قسطنطين وتأثيرات فترة حكمه على الكنيسة أحد الأمثلة الواضحة على قراءة وسلي النقدية لتاريخ الكنيسة. فالإمبراطور قسطنطين (٢٧٢–

٣٣٧م.) هو الامبراطور الروماني الذي حكم في الأعوام من ٣٠٦ إلى ٣٣٧ ميلادية، وهو من أعطى للمسيحية صفة ديانة رسمية في الإمبراطورية، وبالتالي توقف اضطهاد المسيحيين، وتوقف اعتبارهم فئة خارجة عن القانون في الإمبراطورية الرومانية، وحدث تحول جذري في وضع المسيحية عالميًا. وقد نُظر إلى قسطنطين عبر عدسات تأريخية متنوعة على أنه مسيحيًا حقيقيًا، رغم تعدُد الأدلة -المُثبتة لاحقًا- على أنه لم يهجر عبادة الشمس، لكن احتفظ بها جنبًا إلى جنبٍ مع اعتناقه للمسيحية، لرغبته في صنع سلامًا قوميًا يجمع الوثنيين مع المسيحيين لمصلحة الإمبراطورية سياسيًا واجتماعيًا! اعتبره يوسابيوس القيصري -وهو مؤلف كتاب “تاريخ الكنيسة” وأحد رموز التأريخ الكلاسيكي- خادمًا حقيقيًا لله ومؤمنًا تقيًا! واطلق عليه اسم “قسطنطين العظيم” في الكتاب الذي كتبه عنه تحت عنوان “حياة قسطنطين العظيم”! وقد خصصت بعض الكنائس الشرقية يومًا لتكريم قسطنطين مع قديسيها في كتب طقوسها الكنسية! لكن، بالرغم من هذا الجنوح الواضح في التأريخ الكنسي الكلاسيكي نحو تكريم قسطنطين والنظر إليه بنظرة إيجابية، إلا أن وسلي لم يوافق على هذا الرأي، ولم يرى الأمر هكذا على الإطلاق!

قرأ وسلي تاريخ الكنيسة بعدسةٍ تحليليةٍ، فاستطاع أن يرصد الانحرافات التي ضربت المسيحية في عصر قسطنطين، والتي بالفعل أثبتتها دراسات تاريخ الكنيسة لاحقًا. فبالرغم من مديح يوسابيوس القيصري لقسطنطين، وتأكيده على أصالة إيمانه المسيحي، غير أن انحرافات قسطنطين تظهر جليًا لباحث التاريخ. بل أن ميول يوسابيوس الآريوسية المعروفة، جنبًا إلى جنب مع معمودية قسطنطين المؤجلة طوال حياته، لتتم قبل عام واحد من وفاته على يد أسقف آريوسي تتحدث بصوت مدوي لباحث التاريخ. هذا بالإضافة إلى إثباتات أخرى واضحة تدعم رفض وسلي لوجهة نظر التأريخ الكلاسيكي حول هذا الأمر: بدءًا من عدم تخلي قسطنطين عن عبادة الشمس، بل واعتبارها مع المسيحية وجهين لعملة واحدة، وخلط الإيمان بالمسيح كالنور الحقيقي مع عبادة الشمس، مرورًا بعدم رفضه -حتى نهاية حياته- تعامل الوثنيين معه باعتباره كاهنهم الأعظم، وتشييده لتماثيل الآلهة الوثنية، في ميادين بيزنظة -وأبرزها تمثال لإله الشمس!- ووصولاً إلى اعتبار قسطنطين لنفسه مساويًا لأساقفة الكنيسة أو أعلى منهم، إذ رأى أن الله قد عينه بتكلييف مباشر أسقفًا لإدارة شئون الكنيسة في الإمبراطورية، فتصرف كصاحب السلطة الأعلى، وهذا واضح في دعوته للأساقفة للاجتماع للمجامع الكنسية، كلها أمور تظهر الخلط الذي عاشه قسطنطين! وقد أدى هذا الخلط إلى انحدار عام في الحياة المسيحية والتقوى آنذاك. لذا، رفض وسلي أن يشير إلى قسطنطين كمسيحي حقيقي، قائلاً: “أتحدث عنه بوصفه: “الذي دعى نفسه مسيحيًا”، لأني لا أجرؤ أن أؤكد أنه كان كذلك!” وقد رأى وسلي بوضوح أن عصر قسطنطين كان عهد انحراف عن حياة التقوى والنقاء -خاصة في الدوائر الكنسية- وأنه لم يمر على تاريخ الكنيسة وقتًا أكثر إظلامًا استطاع فيه الشيطان أن يخترق الكنيسة بتأثيراته قدر عصر قسطنطين! بعد وسلي، أيد الكثير من دارسي تاريخ الكنيسة وجهة النظر هذه، إذ رأوا بوضوح أن قسطنطين كان يبتغي وحدة سياسية للإمبراطورية، من خلال دمج الفئات المختلفة ومصالحة الاتجاهات الفكرية المتناقضة، وهذا ظهر واضحًا في الاحتفالات القومية التي جمعت المسيحيين والوثنيين معًا!

رأى وسلي أن فترة حكم قسطنطين قد جلبت على الكنيسة شرًا أكثر من جميع حقب الاضطهاد التي سبقته مجتمعة! كما رأى أن الكنيسة قد فقدت إرساليتها في هذا العصر، وفقدت انفصالها عن العالم كنتيجة مباشرة لحياة البذخ والمظهرية التي أدخلها قسطنطين للكنيسة وتأثرت بها الكنيسة في دوائر متنوعة. وفي تضاد مع اتجاهات عتيقة من التأريخ الكنسي الكلاسيكي، رأى وسلي، أنه فيما عدا مجتمعات مسيحية قليلة في القرن الرابع، حادت الكنيسة عن تكريسها ونقائها. ومن الجدير بالذكر، وكما يلاحظ بعض الدارسين الوسليين، ومنهم البروفيسور “تيد كامبل” عالِم الدراسات الوسلية وأستاذ تاريخ الكنيسة بجامعة بكلية لاهوت بيركينز بأوكلاهوما، فإنه بالنسبة لوسلي، فإن الحركة الرهبانية شرقًا وغربًا -والتي نشأت في الأصل في مصر في القرن الرابع الميلادي- كانت هي مصدر هذه المجتمعات التقوانية التي صمدت في وجه التيار العالمي الذي اجتاح الكنيسة في عصر قسطنطين! إذ يلاحظ كامبل أنه على الرغم من أن وسلي لم يُصرح بهذا مباشرة في كتاباته، إلا أن ذكره واقتباساته من آباء الرهبنة في القرن الرابع قد فاقت -بشكلٍ حصري- أي اختيارات أخرى. فمقاريوس الكبير، وإفرايم السرياني، وباسيليوس الكبير يأتوا في صدارة اختيارات وسلي من آباء القرن الرابع. وهؤلاء جميعهم رهبانًا، فمقاريوس هو وريث الرهبنة القبطية من أنطونيوس الكبير، وإفرايم هو أيقونة النسك السريانية، وباسيليوس هو جسر رئيس في نقل التقاليد الرهبانية من صحاري مصر إلى كبادوكية! وأيضًا من اللافت للنظر أن قسطنطين قد وجه للكنيسة القبطية خطابًا -ذكره يوسابيوس في كتابه- ليحثهم على حفظ السلام في الإمبراطورية، وعدم صنع شقاقات، وذلك لرفضهم لبعض قراراته التي فرضها على الكنيسة! وليس غريبًا -في هذا السياق- أن يقوم قسطنطين باضطهاد البابا أثناسيوس الرسولي -بابا الإسكندرية- ونفيه إلى تريف، رغم محاولات الأنبا أنطونيوس الكبير -والتي رفضها قسطنطين- التوسط لأجل عودة البابا أثناسيوس. وتظل محاولة يوسابيوس القيصري أن يبرئ قسطنطين من تهمة نفي أثناسيوس بقوله -في كتابه- أن هذا كان إجراءً لحفظ حياة أثناسيوس، محاولة غير مقنعة لكل دارس مُنصف للتاريخ، كما يوضح ويؤكد الأب متى المسكين في كتابه عن القديس أثناسيوس الرسولي، وفي سياق حديثه المُطول عن تفاصيل اضطهاد قسطنطين ويوسابيوس للقديس أثناسيوس ومؤامراتهما ضده! في الجزء القادم من هذا المقال، أقدم لك، عزيزي القارئ، مثالاً آخر لقراءة وسلي النقدية لتاريخ الكنيسة! دُمتُم في محبة الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس!

مقالات أخرى

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا