21.4 C
Cairo
السبت, نوفمبر 23, 2024
الرئيسيةفكر مسيحيلغة الكتاب ولغة الاختبار

لغة الكتاب ولغة الاختبار

ق. رأفت رؤوف الجاولي

بادئ ذي بدء أقول: إن كلمة الله الحية الفعالة التي نستند لها وهي بالتأكيد تشبع حياتنا، فهي المنبع الدائم للتعزيات الحقيقية والشبع المستمر بشخص الرب، فالكلمة وحدها هي التي تروي وتشبع وهي أساس إيماننا ومحور تعليمنا، ولذلك كلما ازددنا عمقًا في الكلمة ازددنا ثباتًا وقوةً وفاعليةً في عمل الرب. أما الاختبارات فلا يجب أن تأخذ حجمًا أقوى من تأثير الكلمة في حياتنا، فإذا علت قيمة الاختبارات في نظرنا عن قيمة الكلمة فإن هذا يُعد خطرًا حقيقيًا يزلزل نمونا الروحي. لذا سنتأمل في هذا الموضوع الهام من خلال النقاط التالية:

أولاً: الكتاب المقدس هو سجل عميق للاختبارات الروحية:

وعندما نتحدث عن الاختبار أو الاختبارات التي تحدث في حياتنا، فإننا لا نقصد أي نوع من المقارنة بين تأثير كلمة الله علي حياتنا من جانب وتأثير الاختبارات على حياتنا من جانب آخر، إنما القصد هو وضع النقاط فوق الحروف لنمارس حياة روحية قوية وفعالة لا يوجد ما يزلزلها أو يزعزع أساساتها… فالاختبار مهما كان عميقًا فإنه ليس مادة تعليمية لأنه أمر شخصي بحت.

 لكن هذا لا يعني أبدًا أننا نتجاهل الاختبار بل يجب أن يكون في حجمه الصحيح، لذا فالكتاب يحوي بين صفحاته تسجيلًا عظيمًا للعديد من الاختبارات التي تُعد نموذجًا لما هو الاختبار الحقيقي في محتواه وعمقه. على سبيل المثال: ما الذي يجعل سفرًا مثل سفر المزامير يكون ضمن الأسفار الأكثر قراءة في كلمة الله؟ وذلك بكل بساطة لأن سفر المزامير هو أنشودة مقدمة للرب في كل الأوقات كشهادة عما فعله الرب مع كتبة المزامير في المحن والتجارب والخوف والدموع بل الأفراح والانتصارات، وإليك بعض الأمثلة:

-“الله لنا ملجأ وقوة عونًا في الضيقات وُجِدَ شديدًا” (مز46: 1)

حين تشتد الآلام، نجد في الله ملجأ لنا وقوة ومعينًا، إن كنا مقدسين له، ننعم بالشركة معه: والأعداء محيطون دائمًا بالكنيسة ولكن وجود الله فيها يعطيها قوة وهو حصن لها. وعلينا ألا نلجأ لسواه.

وُجِدَ: تشير لخبرة المرنم مع الله في ضيقاته وأن الله لم يتخلى عنه أبدًا. وفي الإنجليزية جاءت (إذا هو حاضر دائمًا ويتدخل سريعًا حسب فكره وإرادته a very present help in trouble)، فسريعًا هذه تختلف ما بين نظرتنا المتعجلة للأمور ونظرة الله الذي يتدخل في الوقت المناسب.

-“يا سامع الصلاة إليك يأتي كل بشر” (مز65: 2)

استماع الله للصلوات يُظهِر محبته للبشر، وكذلك تمنيات داود أن يأتي إلى الله كل بشر يظهر اتساع قلب داود، ومحبته للبشر جميعًا، لأن داود قد امتلأ قلبه بمحبة الله لكثرة صلواته.

-“يا راعي إسرائيل أصغ يا قائد يوسف كالضأن… كرمة من مصر نقلت. طردت أممًا وغرستها. هيأت قدامها فاصلت أصولها فملأت الأرض” (مز80: 1 و8 و9)

اهتمام الكرَّام بكرمه يجعله يسعى لتحقيق كل احتياجاتها حتى تتعمق جذورها فتثمر ثمرًا كثيرًا.

إن الكرَّام الأعظم (الآب السماوي) له معاملاته الكثيرة في نقل الكروم “كرمة من مصر نقلت. طردت أممًا وغرستها” (مز80: 8) “غطى الجبال ظلها وأغصانها أرز الله” (مز80: 10).

ثانيًا: الواقع الروحي اليوم من جهة العلاقة بين الكتاب والاختبارات:

وسنتأمل في ذلك من خلال فكرتين رئيسيتين:

الفكرة الأولى: ما يجب أن نعرفه عن الاختبار:

1- الاختبارات الروحية إنما ترتبط بفكر ومواعيد الله: القارئ لكلمة الله يجد أن كثيرًا من قديسي العهد القديم والجديد إنما هم يتغنون ببركات الرب الفائضة عليهم، ولنأخذ يعقوب كمثال لكل قديسي العهدين فيما يتعلق بذلك الربط الواضح بين المواعيد الإلهية له والتنفيذ العملي (اختباراته). ماذا قال يعقوب للرب وهو راجع من عند لابان خاله؟ “يا إله أبي إبراهيم وإله أبي إسحق الرب الذي قال لي: ارجع إلى أرضك وإلى عشيرتك فأحسن إليك. صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعت إلى عبدك. فإني بعصاي عبرتُ هذا الأردن والآن قد صرتُ جيشين” (تك32: 9 و10).

فما طلبه يعقوب إنما سأل الرب أن يعطيه كما وعده سابقًا، إذ كان ولا يزال غنيًا وسخيًا في عطائه له.

“فإني بعصاي عبرتُ هذا الأردن والآن قد صرتُ جيشين” [10]. حين ترك يعقوب بيت أبيه خرج فارغ اليدين لا يملك سوى عصا في يده، وإذا به يرجع بجيشين عظيمين.

2-” الاختبار الروحي الحقيقي المبني على كلمة الله” يجذب النفوس لتتعلق بالرب: إن الاختبار الذي يشير إلى الرب إنما يشحذ كل الهمم ويركز الأبصار على شخصه ومن ثَمَّ تستطيع النفوس أن ترى كيف أن الرب صالح وبالتالي يمكن أن يعرفوه ويحبوه من كل القلب. وعلى النقيض تمامًا فإن كل سرد ذاتي للاختبارات دون قاعدة كتابية إنما هو عبادة نفسية نافلة.

أسمع كثيرًا أشخاصًا أتقياء يحكون اختباراتهم عديد من المرات والعجيب أنهم يقولون: “أنا حكيته قبل كده” وكأنها حصة مراجعة فهل الناس لا زالت تتذكر هذا الاختبار المدوي أم لا؟

الفكرة الثانية: ما يجب مراعاته (تجنبه) في الاختبار:

1- أجمل شيء أن يظل الاختبار سريًا: فهو جزء من لمسات الرب الشخصية التي يجب أن تظل شيئًا شخصيًا خالصًا وخاصًا كذلك. إن العمق الروحي الشخصي هو صمت الخاشع الفاهم لمعاملات الله دون استخدام بوق ينادي بما تعلَّمه من الله.

ولا يأتي استيعاب الاختبارات إلا من قلب مصلي خاشع وخاضع للإرادة الإلهية لتسطر في حياته المزيد مما يثري عرش النعمة في حياته في المخدع وأوقات الصلاة.

ما أجمل أن يشعر الإنسان أنه يستمتع بالعلاقة الشخصية مع الله، فتصير العلاقة مع الله نغمًا جميلاً وعزفًا راقيًا بلا نشاز فتنطلق الاختبارات الممتعة بناء على وعود “الصادق والأمين”، الأمر الذي وضح في حياة القديس أغسطينوس حتى قال في إحدى مناجاته إنه يتخيل كما لو لم يوجد في العالم غيره هو والله؛ يهبه كل الحب، ويرد هذا الحب بتقديم كل قلبه لله.

2-الاختبارات الروحية ليست فرصة أن يحكي الشخص أمجاده: كقاعدة عامة: لا يُعد “اختبارًا روحيًا” كل فكر يحيد عن كلمة الله، وحتى الاختبار الروحي هو أمر شخصي بحت. وقد يغلب أحيانًا في سرد الاختبارات الفخر الذاتي والإحساس بالزهو لدى مَنْ يحكي الاختبار، بل إن كثيرًا من فرص الترنيم اليوم في الكنائس تحولت إلى عظات واختبارات أكثر منها أوقات ترنيم وتسبيح تمجد الرب.

للتأكيد: الاختبار هو تفاعل مع معاملات الله وسرد لما يحمله فكر الله الشخصي لهذا الشخص أو ذاك.

3- التغني بالاختبار قد يؤثر سلبًا على مؤازرة الآخرين: أمر شائع للغاية: فمن الغريب أنه عندما يدور حوار بين اثنين من المؤمنين ويحكي شخص أمرًا مؤلمًا يمر به إذا بالشخص الآخر يقاطع كلامه ليقول له إنه حدث معه نفس الموقف المؤلم ويبدأ في سرد اختباره، فيظل الشخص المتألم متألمًا لأنه لا أحد يستمع إليه أو يشعر بثقل الحجر الجاثم على قلبه وأعماقه. إن الشخص المتألم لا يحتاج إلى وعظ وهو مطحون في ألمه إنما يحتاج إلى رقة مشاعر ولمن يبكي معه ويشعر بعمق جرحه.

فما فائدة سرد الاختبار والمتألم يحتاج إلى مستمع جيد يصغي (دون وعظ أو تعليق على القصة المؤلمة) بل يقف في خندق واحد مع المتألم. ولنأخذ مثالاً من المسيح عند قبر لعازر إذ بكى متجاوبًا مع الألم والمعاناة اللتين رآهما في أختي لعازر مريم ومرثا.

أخيرًا:

أصلي لكنيسة المسيح اليوم أن يصير منبرها فعالاً يسرد الحق الاختباري فتلمس النفوس المسيح المُخلِّص والمحرر. إن الكلمة تكون النبع الحقيقي الذي تنبعث منه كل الاختبارات فيصبح الحق والحق وحده معاشًا. الرب يعطينا ألا نبحث عن أن نمجد أنفسنا بل نمجد الرب فنشير له ونستمتع به وننادي النفوس لكي تتقابل معه وتعرفه معرفة شخصية حقيقية.

مقالات أخرى

اترك رد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا