تقرير: إيهاب قزمان
يصادف الثامن من يونيو ذكرى وفاة اثنين من المجددين والمصلحين في الفكر الديني، الأول في الفكر المسيحي وهو الأب الراهب متى المسكين مؤلف الكتاب العمدة “حياة الصلاة” والذي توفي عام 2006 أي منذ 18 عامًا، والثاني في الفكر الإسلامي وهو المفكر الشهيد فرج فودة الذي نالت منه يد الغدر والإرهاب عام 1992 أي منذ 32 عام. لقد رحلا بالجسد لكن تبقى سيرتهما وأعمالهما حاضرة ومؤثرة بقوة يومًا بعد يومًا مهما رفض المتشددون أو حاولوا تشويه صورتهما.
متى المسكين وآراء مثيرة للجدل
الأب متى المسكين، هو واحد من أعظم الكُتاب الأقباط على مدار تاريخ الكنيسة، وهو شخصية فريدة للغاية، ومثله مثل المعلمين العظماء في التاريخ، اختلف حوله الناس في زمنه، وقيمته وقيمة كتاباته تسطع عام بعد عام. وعلي أي حال، سيتوقف التاريخ الكنسي مليًا أمامه، وإن كنا نحبه ولا نعصمه من الخطأ، لكن إحقاقًا للحق، فحتى الذين أشهروا سيف العداوة ضده في زمنه أو بعد نياحته جميعهم ليس فيهم مَنْ يُباريه ككاتب ومؤلف، وجميعهم اقتاتوا وتعلموا منه بشكل مباشر أو غير مباشر، وكثير منهم تتلمذوا على يديه يومًا ما، وكثير منهم يعلمون قدر الرجُل.
لم يكن الأب متى المسكين شخصًا مرغوبًا فيه داخل الكنيسة المصرية، لا هو ولا تلامذته الذين اتخذوا دير الأنبا مقار مقرًا لهم. حُورب من طرف البابا شنودة. تكررت محاولات محاصرة طريقته الحرة في التفكير والتي تفتح باب الاجتهاد والخيال والإلهام، والتي كان يستخدمها خاصةً في تفسيره لإنجيل يوحنا.
لا يوجد شخصية كنسية ثار حولها جدل واسع مثل الاب متى المسكين وذلك لسببين، الأول: هو كتاباته وآراؤه الدينية المجددة للفكر المسيحي بشكل عام وإصراره على الرجوع للمصادر الأصلية لفكر الكنيسة المتمثل في كتابات الآباء لأنها تحتوي على الأسس السليمة للتعليم القويم. والسبب الثاني هو رأيه في تدخل بعض رجال الكنيسة في العمل السياسي، فهو في كتابه “الكنيسة والدولة” أوضح بأدلة كتابية أن تدخل رجال الكنيسة في السياسة أمر غير مرغوب فيه وأن عمل أبناء الأقباط في السياسة على أرضية وطنية كمواطنين مصريين وليس كأقباط أو تابعين للكنيسة هو الأمر الأفضل والأحسن لمصلحة البلاد والأقباط على حد سواء.
الوعي العالي… والوعي العقلي
في حوار ثلاثي للدكاترة نصر حامد أبو زيد وجابر عصفور وهدى وصفي عام 1991 مع الأب متى المسكين، وقد نُشر الحوار في العدد الثاني عشر من مجلة “ألف” التي كانت تصدر عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة، عندما زاروه في دير الأنبا مقار، تساءل الأب موجهًا حديثه لصاحب مفهوم النص، وللدكتور جابر عصفور، عن سبب غلق باب الاجتهاد في الإسلام، فكان الجواب أنه بسبب أمور سياسية. ففي نظره غلق باب الاجتهاد، في الديانتين هو السبب في بُعد المسافة بين المسلمين والمسيحيين، لأنه رسخ التمسك بالطقوس بدلًا مما وراء النصوص، وهو الإيمان أو الروح الكلية، أو كما يسميها “الوعي العالي”.
حتى المسيحية حين انقسمت إلى كاثوليكية وبروتستانتية وأرثوذكسية تركت الوعي العالي ونزلت إلى الوعي العقلي، فحين يرتفع المسلم في باب الاجتهاد ويتلامس مع الروح، فسوف يتلامس معي بلا شك. ولكن حين ننزل على الأصول فقط، سيكون لك بيت ولي بيت، لا تزورني ولا أزورك.
الطائفية من وجهة نظر المسكين
في كتابه “الكنيسة والدولة”، يُعرِّف الأب متى المسكين الطائفية بـ “أن يستيقظ في الإنسان وعي استقلالي بجنسه أو دينه أو عقيدته، تحت دوافع صحيحة أو غير صحيحة، تجعله يسلك مسلكًا سلبيًا تجاه مًنْ لا يشاركه في جنسه أو دينه أو عقيدته، ثم تحت إلحاحات هذه الدوافع والإثارات؛ إما ينطوي على نفسه ليتفادى المصادمة، أو ينطلق يهاجم ويصادم، بوعي أو دون وعي، المصدر الذي يستشعر عدوانه والذي يثير قلقه باستمرار، (…) ونستطيع أن نقول إن سلاح التهديد الاقتصادي في إثارة الفتنة الطائفية أقوى بكثير من سلاح التهديد الديني الخالص.”
أهم مقولاته:
يكتب في “الكنيسة والدولة”: ”من الأفضل للإنسان أن يعيش ميتًا في نظر الناس والعالم ويخلص، من أن يتبوأ أعظم المراكز والخدمات ويخسر حريته وحياته الأبدية.”
وفي كتاب”حياة الصلاة”، يقول: “لتكن الصلاة سندًا لك في كل أمور حياتك، صلِّ بعمق وفهم وعاطفة، وعوِّد نفسك على ما هو ضد نفسك!”
الفكرة لا يمكن حبسها داخل قفص
بسذاجة منعوا كتبه فزاد الإقبال عليها، أخرجوها من المكتبات فأصبحت على كل موبايل وجهاز كمبيوتر. شتمه الأساقفة فمدحه الأكاديميون، وأصبح من أهم المفكرين المسيحيين في كتاب صمويل روبنسون، والمنتديات على الانترنت. تجاهلته المحافل الكنسية فأصبح موضوع المؤتمرات العالمية ومواقع التواصل. خرجت ضده الكتب فدخل هو وبقوة كل حوار لاهوتي في الكنيسة.
متى المسكين لم يكن هدفه تكوين جيش من التابعين ولكن كثيرين يحجون لتلك المقبرة المجهولة وسط الصحراء المالحة حيث يلتقي التراث بالحداثة في قلعة بلا أسوار تقف شامخة تدافع عن المسيحي المبعد من المعبد.
مَنْ سيدخل الملكوت من الطوائف؟
في ﻣﺮﺓ ﺯﺍﺭ أﺣﺪ ﺭﺟﺎﻝ ﺍﻟﻄﺎﺋﻔﺔ الإنجيلية ﺍﻻﺏ ﻣﺘﻰ ﺍﻟﻤﺴﻜﻴﻦ ﻭﺳﺄﻝ ﺍﻻﺏ ﻣﺘﻰ: ﻫﻞ ﺳﻴﺪﺧﻞ ﺍﻟﺒﺮﻭﺗﺴﺘﺎﻧﺖ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ؟
ﻓﺮﺩ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻻﺏ ﻣﺘﻰ ﺑﺴﺮﻋﺔ: ﻃﺒﻌﺎ ﻷ… فأحس ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺑﺨﺠﻞ ﻭﺳﻜﺖ
ﻓﻨﻈﺮ إليه ﺍﻻﺏ ﻣﺘﻰ ﻭ ﻗﺎﻝ: ﻋﻠﻰ ﻓﻜﺮﻩ ﺍﻟﻜﺎﺛﻮﻟﻴﻚ ﻣﻌﺎﻛﻢ ﻣﺶ ﻫﻴﺪﺧﻠﻮﺍ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻫﻤﺎ ﻛﻤﺎﻥ!
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺍﻟﺮﺟﻞ: الأرثوذكس ﺑﺲ ﻫﻤﺎ ﺍﻟﻠﻲ ﻫﻴﺪﺧﻠﻮﺍ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ؟!
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ: ﻭ ﻻ الأرثوذكس ﻫﻴﺪﺧﻠﻮﺍ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ!!
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺍﻟﺮﺟﻞ: ﺣﻴﺮﺗﻨﻰ أﻣﺎﺍﻝ ﻣﻴﻦ ﺍﻟﻠﻰ ﺣﺘﻜﻮﻥ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻣﻦ ﻧﺼﻴﺒﻪ؟!
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ أﺑﻮﻧﺎ ﻣﺘﻰ: ﻛﻞ ﺧﻠﻴﻘﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﻴﺢ ﻳﺴﻮﻉ… ﻛﻞ إنسان ﺣﻴﺎﺗﻪ إنجيل ﻣﻌﺎﺵ… ﻛﻞ إنسان ﺑﺴﻴﻂ ﻭ ﻗﻠﺒﻪ ﺑﺮﺉ ﺯي الأطفال… ﻛﻞ إنسان ﺿﻤﻴﺮﻩ ﻧﻘي ﻭﻣﺎﺷي ﻓﻲ ﺧﻮﻑ ﺍﻟﻠﻪ ﻫﻴﺪﺧﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ… ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺸﺎﺭﻕ ﻭﺍﻟﻤﻐﺎﺭﺏ ﺳﻴﺘﻜﺌﻮﻥ ﻣﻊ إبراهيم ﻭإﺳﺤﻖ ﻭﻳﻌﻘﻮﺏ ﻓﻲ ﻣﻠﻜﻮﺕ ﺍﻟﺴﻤﻮﺍﺕ.
متى المسكين (المسكون) القس الزاهد … والأسقف المرشح
يحكي د. نصحي عبد الشهيد ويقول: البابا كيرلس السادس كان مسمي أبونا متى بالــ “مسكون”، ويحكي كاهن قريب من البابا كيرلس ويقول: “أنا أول مره سمعته بيقول متي المسكون افتكرت إنه اخطأ في اللفظ وقولت له تقصد المسكين يا سيدنا؟”
فقال لي: “لا أقصد المسكون!!!” .. فسكتُ تمامًا!!
فقال لي: “أنت رحت فين؟ أنا أقصد المسكون بالروح القدس… الروح القدس ساكن بقوه في هذا الراهب.”
من كتاب “شاهد أمين” للدكتور نصحي عبد الشهيد: “بعد نياحة البابا كيرلس وعندما بدأت الترشيحات، سعى الأنبا شنودة بكل طريقة بالتعاون مع آخرين لإبعاد الأب متى المسكين عن الترشيح. وكان يتصل بالمطارنة أعضاء لجنة الترشيحات ويخيفهم من الأب متى المسكين بأنه كتب في كتاب “المواهب الكنسية” أن الأسقف والقس كانا في بداية الكنيسة رتبةً واحدةً قبل أن تتوزّع إلى رتبتين، وطبعًا هذا هو ما يعرفه العلماء على أنه صحيح، حتى بالنسبة لمار مرقس في الإسكندرية عن السبعة الذين كانوا يُسمَّون بالقسوس الأساقفة، فكان يستخدم مثل هذه العبارات من كتب الأب متى عن الخدمة والكنيسة، موحيًا للمطارنة أنه إذا صار الأب متى بطريركًا فإنه سيعاملكم أنتم المطارنة كالقسوس.
كما أنه كان يجول في الإسكندرية والقاهرة في فترة خلو الكرسي ويحدِّث الناس في الكنائس والاجتماعات صراحةً عن صلاحيته هو شخصيًا أكثر من أي أحد آخر للكرسي البطريركي. في حين أنه كما عرفنا من تاريخه عندما كان راهبًا بدير الأنبا صموئيل أنه قال للرهبان زملائه إنه سيترك دير الأنبا صموئيل ويرجع إلى دير السريان حتى إذا ما صار الأب متى المسكين بطريركًا لا يُلزمه أن يصير أسقفًا، فهو قد تظاهر أمام الرهبان بأنه زاهد حتى في الأسقفية، بينما عندما خلا الكرسي البطريركي، فهو يعمل بنفسه دعايةً علنيةً لنفسه أمام الجميع بلا أي خجل، أو تذكُّر لماضيه الرهباني كما يقول.”
وصية متى المسكين لأولاده
“إياكم يا تلاميذي أن تدفنوني تحت المذبح أو في الهيكل، إن تجرَّأ أحدٌ فوضعني تحت المذبح فلا يشاهدنَّ المذبح السماوي؛ لأنه لا يليق بالدُّود الَّذي أَفْرَز عفنًا أن يُوضع في هيكل الرب المقدَّس، ولا تضعوني في أي مكان آخر من هيكل الله … انتبِهوا أيُّها الأخوة ألَّا تصنعوا قبرًا لذِكرَى رفاتي، لأن عندكم ما تَذكرون، ألَا وهو وصيَّة الله مُخلِّصنا فتحفظونها إلى أن يجيء.
لذا أرجوكم أيها الأحبَّاء أن تُفضِّلوا تعليم المسيح؛ فلا تضعوني مع القديسين، لأني خاطئ وهزيل وأخشى أن أقترب منهم مصحوبًا بحقارتي وجهالتي … لا تستخدموا المواكب والمظاهر في جنازتي، بل احملوني على الأكتاف وادفنوني كحقيرٍ مَخزيٍّ … مَنُ يَضع في جنازتي ثوبًا فاخرًا يُرَ في الظلمة الخارجيَّة، ومَنْ يُطَيِّبُني يُلْقَ في نار جهنَّم.
ادفنوني بقميصي وجُبَّتي، بلُباسي الاعتيادي؛ لأن الزينة لا تليق بالخاطئ المملوء دودًا وعَفَنًا.”
المفكر الإصلاحي فرج فودة
دفع د. فرج فودة حياته بسبب مجاهرته بآرائه ضد التفكير الديني المتطرف، وأيضًا بسبب تحكيمه لعقله، ومخالفته الرأي السائد، وإعادته قراءة التراث وانتقاده، لدرجة جعلته مصدر خطر على بقاء الجماعات المتطرفة وسيطرتها واستمرار نفوذها على المجتمع.
جلبت آراء د. فرج فودة الجريئة عليه موجات متتالية من التشكيك، خاصةً في إسلامه، إذ تم تكفيره والتشهير به وحصاره وعزله، لدرجة الاتفاق غير الرسمي على اغتياله وإهدار دمه. والملاحظ أن فودة ظل حتى آخر لحظة من حياته يشجع على التنوير ونبذ التطرف والتعصب وتكفير الآخر، وظل على هدوئه وثباته حتى مع أكثر معارضيه شراسة، محافظًا على حقه في التعبير عن رأيه، وقد اتسم حديثه دائمًا بدقة معلوماتية وتاريخية مبهرة، وارتكز على البحث والتحليل والحوار، وعبَّر بشكل حقيقي عن وسطية الدين واعتداله، مبتعدًا بالكامل عن الجدل العقيم، واستخدام الصوت المرتفع ودغدغة مشاعر البسطاء، ولهذا حاولوا دائمًا التقليل منه، والاستهزاء به بشكل مخطط وموجه، مثلما حدث في ندوة معرض الكتاب في يناير 1992 قبل شهور من اغتياله.
فصول الاغتيال بدأت بمناظرة الشيخ الغزالي وانتهت برصاصات أمام مكتبه
وقد بدأت فصول الاغتيال الأولى بمشاركة فرج فودة في مناظرة معرض القاهرة الدولي للكتاب في 7 يناير 1992 تحت عنوان: “مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية”، وكان فرج فودة ضمن أنصار الدولة المدنية مع الدكتور محمد أحمد خلف الله، بينما على جلس الجانب المقابل الشيخ محمد الغزالي، والمستشار مأمون الهضيبى مرشد الإخوان الإرهابية آنذاك، والدكتور محمد عمارة، وحضر المناظرة نحو 20 ألف شخص.
وشهدت تلك المناظرة طرقًا واستشهادات وحججًا، فقد قال الدكتور محمد عمارة إن الدولة الدينية استمرت على مدى ثلاثة عشر قرنًا، متسائلًا كيف جرى الاختراق، بينما رد فرج فودة بقوله إن الطرف الآخر الذي يريد حكم الدولة الدينية لم يخرج منه سوى العنف ومن ذلك السطو على المحلات والعمليات التي تحول البشر إلى أشلاء.
واستشهد فرج فودة في تلك المناظرة بما ذكره الشيخ محمد الغزالي في الوفد حين قال إن الخلافة الراشدة كانت راشدة في عصر الدولة الإسلامية فيما لم يتحقق لها الرشد في العصور التالية.
وكانت آراء “فودة” في المناظرتين حول الدولة المدنية والدولة الدينية سببًا في إصدار فقهاء التطرف فتاوى بقتله، هو ما حدث في 8 يونيو 1992 قبيل أيام من عيد الأضحى، حيث انتظره شابان من الجماعة الإسلامية، هما أشرف سعيد إبراهيم وعبد الشافي أحمد رمضان، وأطلقا عليه الرصاص.
وبعد تلك المناظرة، حضر فودة مناظرة أخرى في نقابة المهندسين في 27 يناير حضرها 4 آلاف شخص، ونظمتها اللجنة الثقافية بنقابة المهندسين بالإسكندرية، حملت عنوان “مصر بين الدولة المدنية والدولة الدينية”، وشارك في هذه المناظرة الدكتور فؤاد زكريا، رئيس قسم الفلسفة بجامعة عين شمس، والدكتور فرج فودة، ومن جانب التيارات الدينية الدكتور محمد عمارة، عضو مجلس الحقوق بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والدكتور محمد سليم العوا أستاذ القانون المقارن.
في يوم الاغتيال، أغلق الدكتور فرج فودة باب مكتبه بالطابق الأول من العقار رقم 2 بشارع أسماء فهمي في مصر الجديدة، متجهًا نحو سيارته وعن يمينه ابنه “أحمد”، وعن يساره صديقه “وحيد”، ومشى في ممر يبلغ طوله نحو 10 أمتار من باب المكتب إلى باب السيارة مرورًا من “بوابة العقار” الواسعة الحديدية السوداء، وفي تمام السادسة والنصف مساءً، أطلق عليه الرصاص وسقط فودة في دمائه، وانطلق السائق وأمين شرطة كان متواجدًا بالمنطقة، وقبضا على أحد المتهمين.
يُذكر أن فرج فودة وُلِدَ في قرية الزرقا بالقرب من مدينة دمياط في 20 أغسطس 1945 والتحق في الستينيات بكلية الزراعة وحصل على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد الزراعي في يونيو 1967 من جامعة عين شمس. وفي الشهر نفسه، استشهد شقيقه الملازم محيى الدين فودة، والذي كان يصغره بعام واحد، في حرب 5 يونيو 1967، وشارك فرج فودة في مظاهرات الطلبة الغاضبة عام 1968 واعتُقل لعدة أيام في عهد الرئيس جمال عبد الناصر.
أهم مقولاته:
في كتابه “نكون أو لا نكون”، أكد فرج فودة على أهمية أن تعرف الأجيال القادمة حجم المعاناة التي أحس بها في سبيل ما كتبه وما أخرجه للناس من آراء وأفكار، قائلًا: “لعلهم لن يصدقوا أننا كتبناه ونحن غارقون في اتهامات التكفير، ومحاطون بسيوف الإرهاب والتهديد، ويقينًا سوف يكتب البعض من الأجيال القادمة ما هو أجرأ وأكثر استنارة، لكنه سوف يصدر في مناخ آخر، أكثر حرية وانطلاقًا وتفتحًا، ولعله من حقنا عليهم أن نذكرهم أنهم مدينون لنا بهذا المناخ، وسوف يكتشفون عندما يقلبون أوراقنا ونحن ذكرى أننا دفعنا الثمن.”
هكذا يشير بوضوح فودة إلى أنه كتب ما كتبه وهو غارق وسط سياق وبيئة مخيفة ومرعبة، حيث التهديد بالقتل، وهو ما تم تنفيذه لاحقًا على يد بعض عناصر الجماعات الإرهابية.
ورغم هذه الحالة المؤسفة والمخيفة التي تحيط بجو المفكر، تحاول أن تقصيه عن طريقه عن أهدافه وعن حلمه الذي حلم به للأجيال القادمة، نحو عالم يموج بالحرية والانطلاق والانفتاح، فإنه يصر على عدم المبالاة رغم المخاوف.
في كتابه “قبل السقوط”، يقول فودة: “لا أبالي إن كنتُ في جانب والجميع في جانب آخر، ولا أحزن إن ارتفعت أصوتهم أو لمعت سيوفهم، ولا أجزع إن خذلني مَنْ يؤمن بما أقول، ولا أفزع إن هاجمني مَنْ يفزع لما أقول، وإنما يؤرقني أشد الأرق ألا تصل الرسالة إلى مَنْ قصدتُ، فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة، وقُصاد الحق لا طالبي السلطان، وأنصار الحكمة لا محبي الحكم، وأتوجه إلى المستقبل قبل الحاضر، وألتصق بوجدان مصر لا بأعصابها، ولا ألزم برأيي صديقًا يرتبط بي أو حزبًا أشارك في تأسيسه، وحسبي إيماني بما أكتب، وبضرورة أن أكتب ما أكتب، وبخطر ألا أكتب ما أكتب.”
كيف حارب المفكر الراحل التطرف عبر كتبه؟
كتاب “الإرهاب”
يتناول من خلاله طبيعة العنف المسلح الذي تقوم به جماعات الإرهاب، ويثبت بالأدلة أنها لا تعرف معنى للحوار السلمي، بل تتخذ من العنف منهجًا أصيلًا ودائمًا، والكتاب صدر عن دار ومطابع المستقبل عام 1987.
كتاب “الحقيقة الغائبة”
يقدم من خلاله رؤية فكرية وسياسية ضد جماعات الإسلام السياسي وإعادة تفسير بعض من المفاهيم المغلوطة التي يقدمونها عن الدين الإسلامي، فهو دين سماحة وحوار وليس عنف وديكتاتورية، ويُعد من أشهر كتب فودة على الإطلاق.
كتاب “الملعوب”
يعرض لأسرار وطريقة عمل واحدة من أغرب القضايا السياسية والاقتصادية في مصر في الثمانينيات، وهي شركات توظيف الأموال.
كتاب “حوار حول العلمانية”
مجموعة مقالات، صدرت عام 1990 عن دار ومطابع المستقبل، تناول فيها مفهوم العلمانية وفلسفتها في التاريخ والحاضر، ودورها في المجتمعات الأوروبية، ومدى ظروف نجاحها في المجتمعات العربية.
كتاب “نكون أو لا نكون”
يتألف من مجموعة من المقالات تضم آراء الكاتب الراحل، وكتب فرج فودة في مقدمته «إلى زملاء ولدى الصغير أحمد، الذين رفضوا حضور عيد ميلاده تصديقًا لمقولة آبائهم عنى، إليهم حين يكبرون ويقرأون ويدركون أنني دافعت عنهم وعن مستقبلهم، وأن ما فعلوه كان أقسى من رصاص جيل آبائهم».
كتاب “شاهد على العصر”
مجموعة مقالات سياسية، صدرت عام 1993، ناقش فيها أزمة حرب الخليج وغزو العراق للكويت وتأثيرها على الوضع الإقليمي والدولي.
كتاب “النذير”
وضع من خلاله الكاتب يده على بعض المشاكل المهمة التي مرت بمصر في ثمانينيات القرن الماضي، والظهور الواضح لتيار الإسلام السياسي والتيار المتشدد، وخصوصًا بعد قتل الرئيس الراحل أنور السادات، فأظهر الكاتب أن التيار المتشدد لم يكن مجرد مرحلة أو حركة، ولكنه دولة داخل دولة!! قائلًا: “إن الفروق بين المعتدلين والمتطرفين في الإسلام السياسي هي الدرجة وليس النوعية.”
ماذا لو اتبع العالم الإسلامي أفكار فرج فودة؟
– لم يكن تنظيم “داعش” ليولد من رحم الفكر المتطرف، ولم نكن لنرى أسواق النخاسة وبيع النساء في الأسواق يعود ليطل بصورته البشعة علينا في القرن الواحد والعشرين.
ـ كان العالم الإسلامي ليكون اليوم بلا إرهاب، وكان الملايين من الناس سينعمون بالسياحة العالمية قادمة إلى أوطانهم فيختفي الفقر والعوز عند كثيرين.
ـ لم تكن الكنائس لتنفجر وتترك وراءها ثكلى وأرامل ويتامى يتألمون للأبد لفراق أحبائهم.
ـ لم نكن لنرى ظاهرة “الإسلاموفوبيا” أو كراهية الإسلام والتي نشأت بعد جريمة الحادي عشر من سبتمبر وانتهت بتدمير العراق ودك أفغانستان.