والآن إذا تبنينا بالفعل موقفًا من الحياد في تناولنا للأناجيل، كيف ننتقل إلى ما وراء الحيادية لتأكيد أن حدثًا ما هو تاريخي بالفعل؟ لقد طور العلماء عددًا مما يسمى” معايير الأصالة” لتمكِّننا من فعل ذلك.
إنه أمر غاية في الأهمية أن تُذكر هذه المعايير وتُفهم جيدًا، فقد أُسيء استخدامها بشكل هائل في الكثير من الأحيان. والمعايير هي حقًا مؤشرات الموثوقية التاريخية. فإذا أظهرت قصة في الأناجيل أحد هذه المعايير، بافتراض ثبات كل العوامل الأخرى، تكون هذه القصة على الأرجح تاريخية أكثر من احتمالية كونها تاريخية دون هذه المعايير. وبكلمات أخرى، يزيد وجود أحد هذه العلامات من احتمالية أن يكون الحادث المسجل تاريخيًا.
ما هي علامات الأصالة التاريخية تلك؟ إليك قائمة ببعض أهم هذه العلامات:
1- الملاءمة التاريخية: يلائم الحادث الحقائق التاريخية المعروفة للزمان والمكان.
2- مصادر باكرة ومستقلة: الحادث متصل بمصادر متعددة قريبة من الزمن الذي يُقال إن الحادث وقع فيه، ولا يعتمد بعضها على بعض أو على مصدر مشترك.
3- الإحراج: الحادث غير ملائم أو له نتائج عكسية على الكنيسة الأولى.
4- التباين: لا يماثل الحادث أفكارًا يهودية سابقة أو أفكارًا مسيحية لاحقة أو لا يماثل أيًا منهما.
5- السامية: تظهر في القصة آثار من اللغة العبرية أو الآرامية (التي كان يتكلمها أبناء البلد الذين عاصروا يسوع).
6- التماسك: يلائم الحادث الحقائق المؤكدة بالفعل بشأن يسوع.
لاحظ بعض الأمور فيما يتعلق بهذه “المعايير”: أولًا، كلها علامات إيجابية للمصداقية التاريخية، أي أنه يمكن استخدامها فقط لتأييد تاريخية حادث ما، وليس لنفيه، فإذا لم تكن القصة مُحرجة أو متباينة أو موجودة في مصادر باكرة مستقلة (مثلًا)، فذلك بالتأكيد لا يعني أن الحادث ليس تاريخيًا.
الطريقة الوحيدة التي يمكنك بها استخدام المعايير استخدامًا مبررًا لنفي المصداقية التاريخية هي الافتراض المسبق أن الأناجيل غير موثوق بها إلى أن تثبت موثوقيتها، فهنا نعود ثانية إلى أمر عبء الإثبات! إذا تبنينا موقفًا من الحيادية في تناول الأناجيل، فإن الإخفاق في إثبات تاريخية حادثًا ما يتركنا في موقف من الحيادية، حيث إننا سنعرف فقط ما إذا كان الحادث تاريخيًا أم لا.
ثانيًا، لا تفترض المعايير مسبقًا الموثوقية العامة للأناجيل، إذ تنطبق المعايير على حوادث معينة لا على السفر كله، فيمكن أن تكتشف هذه المعايير شذرات تاريخية من المعلومات في أي مصدر، حتى في أناجيل الأبوكريفا، وذلك يعني أنه من أجل الدفاع عن المعقولية التاريخية لحدثٍ ما في حياة يسوع، لنقُل مثلًا دفنه، لا تحتاج إلى الدفاع عن المعقولية التاريخية لأحداث أخرى مثل ميلاده في بيت لحم، وإطعامه للخمسة آلاف، ودخوله أورشليم في أحد الشعانين وهكذا، إذ يمكن تقييم أحداث محددة بمفردها باستخدام هذه المعايير.
لذا إذا كان نقاشك على أساس المعايير أن يسوع قال تصريحًا راديكالية معينًا، وأشار غير المؤمن إلى أقوال أخرى يظن أنها غير أصلية، فذلك لا يهم، لأنك لا تحاول إثبات عصمة الكتاب المقدس في هذه اللحظة، بل تحاول فقط إظهار أن يسوع صرَّح بهذا التصريح الراديكالي المحدد، وما إذا كان صرَّح بتصريح آخر هو ببساطة أمر غير ذي صلة.
قبل أن نطبق هذه المعايير على أحداث عن يسوع وعلى أقواله في الأناجيل، تجدر الإشارة إلى مشكلة عامة تواجه النقاد الذين ينكرون أن يسوع صرَّح أصلًا بأي من هذا، فنحن نعلم من رسائل بولس أنه في أول عشرين سنة من موت يسوع كان يُعد الله المتجسد، وكان معاصروه يعبدونه على هذا الأساس (فيلبي2: 5-7). ومن المتعذر تفسير كيف كان يمكن أن ينسب يهود موحدون إلوهية إلى إنسان كانوا قد عاصروه إن لم يكن قد صرَّح هو نفسه بأمر مثل هذا، فالتوحيد هو قلب الإيمان اليهودي، وقد كان القول إن إنسانًا هو الله تجديفًا، ورغم ذلك فهذا بالضبط ما أعلنه المسيحيون الأوائل وآمنوا به بشأن يسوع! فلا بد أن تصريحًا مثل هذا كان متأصلًا في تعليم يسوع نفسه. وفي الواقع، نجد بالفعل في تعاليم يسوع وأنشطته تصريحات شخصية بنوعيها واضحة وضمنية توحي بإلوهيته.
الحقيقة هي أنه ليس هناك مصدر تاريخي ذو مصداقية ومن المصادر خارج العهد الجديد يشكك في صورة يسوع التي رسمتها الأناجيل
سفر الأعمال يتداخل مع التاريخ العلماني للعالم القديم، والدقة التاريخية لسفر أعمال الرسل ليست محل جدل