نعيش هذه الأيام في تلوث سمعي ونقص في التعليم، ولا أشير على الإطلاق إلى خادم معين أو شخص بعينه بل هو إحصاء موضوعي لكل ما هو غير موضوعي ومطروح على الساحة المسيحية هذه الأيام. ومن الملاحظ في ضوء كل المناقشات الفيسبوكية أن الصراع يأخذ قوته وفاعليته من تبني مدرستين فكريتين:
أولًا: المدرسة اللاهوتية المنقوصة
هذه المدرسة لا ترى أن معاملات الله في العهدين القديم والجديد ما هي إلا سلسلة معاملات إلهية متكاملة مهما اختلفت الأدوات والوسائل. على أن الإنكار لذلك يعني عدم الفهم اللاهوتي السليم وهذا لأننا اعتدنا أن ننظر إلى كتابنا المقدس على أنه كتابين منفصلين: العهد القديم والعهد الجديد. لقد حسم الرب يسوع مند أكثر من ألفي عام هذا الجدل وقال في (مت 5: 17-19):
“لا تظنوا أني جئتُ لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئتُ لأنقض بل لأكمل. فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل. فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلَّم الناس هكذا، يدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما مَنْ عمل وعلَّم، فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات.”
إن الرب يطالبنا أن نعلن النور الإلهي الساكن فينا خلال حياتنا العملية، فتصبح حياتنا كسراج على منارة.
لقد ظن اليهود، خاصةً قادتهم، أنهم حفظة الناموس لكنهم بالحقيقة أضافوا هم ورؤساؤهم إليه لا ما هو أفضل بل ما هو أردأ، أما المسيح فقد جاء ليكمل الناموس والأنبياء بطرق متنوعة، منها ما يلي:
1- لقد أكمل المسيح “الأنبياء” أي ما جاء على فم أنبياء العهد القديم، وبالطبع شخص المسيح هو مصدره وقائلة غير المعلن آنذاك، لذلك نقرأ: “لكي يتم ما قيل بالنبي” (مت 1: 22-23)، وذلك عندما ولد، وعندما تُرنم له، وعندما ركب الأتان (مت 21: 5-16)، والأمثلة كثيرة، فلقد حقق هذه الأمور كلها.
2- أكمل السيد الناموس بخضوعه لجميع الوصايا. يقول ليوحنا المعمدان: “لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل له كل بر” (مت 3: 15)، ويقول لليهود: “مَنْ منكم يبكتني على خطية؟” (يو 8: 46)، ويقول لتلاميذه: “رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء” (يو 14: 30). وهو “لم يعمل ظلمًا، ولم يكن في فمه غش” (إش 53: 9).
3- المسيح لم يكمل الناموس في نفسه فحسب، وإنما يكمله أيضًا فينا، قائلًا: “لأن غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن” (رو 10: 4)، كما قال: “دان الخطية في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد” (رو 8: 3-4)، وأيضًا: “أفنبطل الناموس بالإيمان؟! حاشا! بل نثبت الناموس” (رو 3: 31). فإنه ما دام الناموس كان عاملًا لكي يبرر الإنسان فاحتاج الأمر إلى تدخل إلهي أكبر، لهذا يقول: “ما جئتُ لأنقض بل لأكمل.”
4- أكمل أيضًا السيد الناموس بتكميل نصوصه، بالدخول إلى أعماقه. ففي القديم أمر الناموس بعدم القتل، فجاء السيد ليؤكد الوصية لا بمنع القتل فحسب، وإنما بمنع الغضب باطلًا، أي نزع الجذر، فتبقى الوصية في أكثر أمان، وهو بهذا لم ينقضها، بل قدمها في أكثر حيوية وقوة. يؤكد السيد قدسية الناموس حتى في أصغر حروفه: “فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما مَنْ عمل وعلَّم فهذا دعي عظيما في ملكوت السماوات. فإني الحق أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات” (مت 5: 19-20).
فليحذر كل مَنْ يجرم “الناموس” لأنه أقوال الله ووصاياه، واستخدام الكلمات عشوائيًا إنما يسيء إلى الناموس وإلى الرب نفسه الذي أعطى موسى هذا الناموس، فلا يجب استخدام عشوائي لكلمات مثل: عجز الناموس – تكميل الناموس – فشل الناموس، بل يجب أن يقال إن الله كان لا بد أن يأتي بنفسه لمحو الغيوم وإظهار بره فعليا وإضافة عمق لما أعلن قديما وتقديم تفسير واضح لكل معاملاته عبر التاريخ المقدس. ليس معني أننا سمعنا آلاف العظات التي تقول إن الناموس فشل أن نقف في موقف الإدانة للناموس الذي هو كلام الله بل نقف موقف الحق المتكامل ونرى أنه تم إكماله بشخص وفي شخص يسوع المسيح.
ثانيًا: مدرسة التفسير الأوحد للكلمة المقدسة
يقول بولس: “إن كان أحد يحسب نفسه نبيًا أو روحيًا فليعلم ما أكتبه إليكم أنه وصايا الرب” (1 كو 14: 37).
وعبَّر عن هذا فقال: “نتكلم بها أيضًا لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلِّمه الروح القدس” (1 كو 2: 13).
الكلمة أعظم من أن تفسر بطريقة تخدم أغراض محددة للمتكلمين. فلا بد للكلمة أن تفسر بحياد عن قائلها مهما كان وأيًا كان لأنها ليست أقوال المتكلمين بل هي كلمة الله. وواضح أن البعض قد نسي أن أقوال الله يجب أن ننطق بها كما فاه الله بها وأكدها لا كما نصبغها نحن بانطباعاتنا الذاتية حتى لو كانت انطباعات جيدة، فلا توجد وجهات نظر فيما قاله الله بل يجب أن نقوله بنفس ما قصد الله أن يفوه به ويعلنه. فلا تستخدم أيها الخادم كلمات الكتاب لخدمة أفكارك الخاصة بل انكسر واتضع وافهم المكتوب وامتلئ به. وقد يبدو الكلام المذكور التالي كأنه محفوظ أو منطقي مع أن كثيرين لا يطبقونه لذا وجب التأكيد:
“كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافِع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأْديب الذي في البر، لكي يكون إِنسانُ الله كاملًا، متأَهبًا لكل عمل صَالِحٍ.”(2 تي 3: 16 و17)
“موحى به من الله” في أصل اللغة اليونانية التي دُوِّن بها العهد الجديد “ثيؤبينوستوس” جاءت في صيغة المبني للمجهول بمعني “نُفخت من الله”/ أي صيغت بروح الله، وخرجت من فم الله. “لأنه لم تأتِ نبوءة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2 بط 1: 21)، وتعبير “مسوقين” أي محمولين بالروح القدس.
“أليس مكتوبًا في ناموسكم أنا قلت أنكم آلهة… ولا يمكن أن يُنقض المكتوب” (يو 10: 34، 35)، مشيرًا بهذا إلى قول المزمور “أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم” (مز 82: 6). فالأسفار المقدسة لها سلطان عظيم إلى الدرجة التي لا يمكن معها أن تُنقض، ولذلك قال رب المجد يسوع: “فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل” (مت 5: 18)، وقال الوحي الإلهي في القديم: “وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد” (إش 40: 8).
“كل الكتاب هو مُوحى به من الله” (2 تي 3: 16). الرب يسوع خاطب الآب قائلًا: “كلامك هو حق” (يو 17: 17)
1- استخدم كتبة الأسفار المقدَّسة عبارات “هكذا يقول الرب” والمترادفات لها نحو 3800 مرة.
2- قول الله لموسى: “اكتب هذه الكلمات لأنني بحسب هذه الكلمات قطعتُ عهدًا معك ومع إسرائيل” (خر 34: 27)، “أُقيم لهم نبيًّا من وسط أخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيته به” (تث 18: 18) فقوله: “كلامي”، و”بكل ما أوصيته به” يوضح أن الكلام هو كلام الله ذاته الذي يحمل وصاياه الإلهيَّة.
3ـ- يقول إشعياء النبي: “اسمعي أيتها السموات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم…” (إش 1: 2)، كما أمر الرب إشعياء قائلًا: “خذ لنفسك لوحًا كبيرًا واكتب عليه” (إش 8: 1)، وأيضًا قال الرب لإشعياء النبي: “تعالَ الآن أكتب هذا عندهم على لوح وأرسمه في سفر ليكون لزمن آتٍ للأبد إلى الدهور” (إش 30: 18).
4- قال الرب لإرميا النبي: “وتتكلم بكل ما أمرك به” (إر 1: 7)، وقال إرميا: “ومد الرب يده ولمس فمي وقال الرب لي ها قد جعلت كلامي في فمك” (إر 1: 9)، وقال الله لإرميا: “قم وكلمهم بكل ما آمرك به” (إر 1: 17)
5- قال بطرس الرسول: “كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود…” (أع 1: 16)، “وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائه أن يتألم المسيح قد تمَّمه هكذا” (أع 3: 18).
أخيرًا:
إن المناقشات التي تبدو أنها روحية خرجت عن الهدف تمامًا وتحولت إلي شجار ونقاش حاد بعيد عن الفهم المنطقي والآداب الروحية التي تعلمناها من الرب، وأصبح هناك مَنْ يقف مع جانب وهناك مَنْ يقف مع جانب آخر ولا يدري مَنْ يقف مع أي جانب منهم إنه إما يقف مع “فكر لاهوتي منقوص” أو مع “تفسير منحاز أو أوحد للكلمة المقدسة”. نعم، ينطبق تمامًا القول المقدس التالي في سفر هوشع النبي:
“قد هلك شعبي من عدم المعرفة. لأنك أنت رفضت المعرفة… نسيت شريعة إلهك” (هو 4: 6). لقد اعتاد شعب الرب علي الاستماع للعظات لا التنقيب في الكلمة وبذل الجهد فيما يفيد ويبني لفهم أقوال الله وإدراك مقاصده العظمي والثمينة. ولنلاحظ أن الله دائمًا يعلن ذاته لنا، ولكن العيب فينا أننا لا نستجيب لهذه الإعلانات. “لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم” (رو 1: 28) وعلينا ألا ننسى أفضال الله وخيراته وأن نشكره عليها دائمًا، ولا بد من الربط الواضح والعميق بين معرفة الله والحياة التقوية المقدسة في الرب. إخوتي الأفاضل، لا تنحازوا دون علم أو فهم بل بالأولي انحازوا للحق بمفهوم الحق نفسه، واعلموا أن الكتاب فكر واحد وشخص واحد وهدف واحد هو إعلان الرب يسوع المسيح بكل وأي أسلوب أو وسيلة كانت.
القس رأفت رؤوف الجاولي