بقلم الدكتور القس ﭽورﭺ شاكر
نائب رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر
يسطر الرسول بولس في (2كو5: 7) قاعدة ذهبية في غاية الأهمية لحياتنا الروحية عندما يقول: “لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان”. وكأنه يقول لنا: إن كنا نسلك بالإيمان فلن نحتاج إلى العيان… وإذا سلكنا بالعيان يعني أنه لا مكان في حياتنا للإيمان، فكل منهما يستبعد الآخر، فالعيان يربطنا من خلال حواسنا بالعالم المرئي (ما يُرى)، والإيمان يأخذنا لما يتجاوز المرئي إلى (ما لا يُرى).
إن العالم يقول لنا “لا تصدق إلا ما تراه بالعيان” لكن كلمة الله تعلمنا أنه يجب أن نؤمن أولًا وبعدها سوف نرى.
وهذا ما أعلنه الرب يسوع لمرثا في معجزة إقامة لعازر من الموت إذ قال لها: “إن آمنت ترين مجد الله”. وهنا نلاحظ أن ما طلبه الرب يسوع من مرثا هو أن تؤمن أولًا، وعندئذ ترى مجد الله، فنحن لا نرى ثم نؤمن، وإنما العكس نؤمن ثم نرى. (يو11) ولنا في هذا الموضوع الحقائق الآتية:
أولًا: الإيمان يرى ما لا يراه العيان
في (عب11: 27) مكتوب “بالإيمانِ موسى ترك مصر غير خائف من غضبِ الملِكِ، لأنه تشدد، كأنه يرى من لا يُرى”.
نعم! كانت ظروف موسى المرئية في ذلك الوقت تدعو إلى القلق والخوف إذ كانت حياته محفوفة بالمخاطر والمتاعب، ومهددة بالدمار والضياع، إلا إنه تشجع وتشدد، ولم يخش من أي تهديد أو وعيد، فلقد استطاع بالإيمان أن يرى من لا يُرى، فالإيمان يوفر لنا إمكانية رؤية ما لا يُرى، ومن هنا يجعلنا قادرين على التصدي والتحدي برسوخ وشموخ للمصاعب والمخاوف في الوقت الذي فيه العالم المرئي لا يقدم لنا أي بصيص من الأمل والرجاء، ولا يمدنا بأي تشجيع أو تعضيد. بل يصيبنا بالإحباط واليأس، حيث إن العيان يعتمد ويستند على المحسوس والملموس، أما الإيمان يجعلنا نرى ما لا يُرى، فالإيمان هو الإيقان بأمور لا تُرى (عب11: 1).
كان هذا سبب عتاب الرب يسوع لتوما عندما شك في القيامة وقال: “إن لم أبصر في يديه أثر المسامير، وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه، لا أومن”.
ولهذا ظهر له الرب خصيصًا وقال له: “هات إصبعك إلى هنا وأبصر يدي، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا”. عندئذ أجاب توما وقال له: “ربي وإلهي!”. وهنا “قال له يسوع: “لأنك رأيتني يا توما آمنت! طوبى للذين آمنوا ولم يروا” (يو20: 25-28، 29).
ثانيًا: العيان محدود والإيمان بلا حدود
ربما يكون أقوى برهان على إمكانات الإيمان هو ما نراه في عبارتين نطق بهما الرب يسوع الأولى في (مت19: 26) “عند الله كل شيء مستطاع” والثانية في (مر9: 23) “كل شيءٍ مستطاع للمؤمن” وتأتي في الأصل اليوناني “كل شيء مستطاع للذي يؤمن”.
بالطبع ليس صعبًا قبول فكرة “أن كل شيء مستطاع لله”، لكن هل يمكن أن نقبل فكرة “أن كل شيء مستطاع للذي يؤمن”،… إن الإيمان هو القناة التي تجعل كل ما هو مستطاع لله متاحًا لنا.
كيف لا؟! ألم يقل الرب يسوع في (مت17: 20) “لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل: انتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم”.
ويقدم لنا الرسول يعقوب نموذج إيليا أنه صلى كإنسان صلاة الإيمان فأوقف بصلاته المطر عن النزول ثلاث سنوات ونصف، ثم صلى فجعل المطر ينهمر بعد ذلك (يع5: 7- 8).
والجدير بالذكر أن منح أو منع الأمطار من سلطان الله نفسه كما نقرأ في (تث11: 13- 17؛ إر5: 24؛ إر14: 2). ومع ذلك اختبر إيليا لمدة ثلاث سنوات ونصف ذلك الامتياز، وقد أكد يعقوب أن إيليا كان “إنسانًا تحت الآلام مثلنا” (يع5: 17).
لكنه طالما كان قادرًا أن يصلي بإيمان فطلبته وصلاته كانت مستجابة وفعالة ومقتدرة.
ثالثًا: العيان يسأل والإيمان يجيب
العيان دائمًا يتسائل كيف؟ ولماذا؟ ومن أين؟ وما الفائدة؟ لكن الإيمان لديه الإجابة على أية أسئلة
ألم نقرأ في امتحان إيمان إبراهيم عندما قال له الرب: “خذ ابنك وحيدك، الذي تحبه، إسحاقَ، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقةً على أحد الجبال الذي أقول لك” (تك22: 2). وفي طريقهما سأل إسحاق أبيه قائلًا: يا أبي هوذا النار والحطب، ولكن أين الخروف للمحرقة؟” (تك22: 7). كان سؤاله يرتبط بالعيان، فكانت إجابة الإيمان من أبيه “اللهُ يرى له الخروف للمحرقة يا ابني”. (تك22: 8).
والجدير بالذكر أن إبراهيم هنا يقول: (الله يرى) وليس (سيرى) فإبراهيم كان يثق أن الله رتب بالفعل معجزة لإنقاذ ابنه إسحاق فلقد كان يؤمن “بالذي يحيي الموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة”. (رو4: 17).
وأمام احتياجات الحياة، والضغوط الاقتصادية الطاحنة قد يسأل العيان من يسدد احتياجاتنا؟ من أين؟ كيف؟ فيجيب الإيمان أنا. كيف لا؟! ألم نقرأ عن إيليا وكيف كانت الغربان تعوله (راجع 1مل17).
ألم نقرأ لغة العيان في كلمات أرملة صرفة صيدا عندما طلب منها إيليا أن تعطيه كسرة خبز وهي تقول: “حي هو الرب إلهك، إنه ليست عندي كعكة، ولكن ملء كف من الدقيق في الكوار، وقليل من الزيت في الكوز، وهأنذا أقش عودين لآتي وأعمله لي ولابني لنأكله ثم نموت” (1مل17: 12). فقال لها إيليا بلغة الإيمان “لا تخافي. لأنه هكذا قال الرب: إن كوار الدقيق لا يفرغ، وكوز الزيت لا ينقص” (1مل17: 13، 14)، ألم تقرأ عن الأرملة التي من نساء بني الأنبياء التي هرعت وصرخت إلى أليشع بلهجة العيان تشكو من المرابي الذي سيأخذ ولديها كعبدين لإيفاء الدين الذي عليها، أما أليشع بعين الإيمان يري حل المشكلة من “دهنة الزيت” التي أصبحت نبعًا يفيض حتى يسدد كل احتياج في حياتها (راجع 2مل، ص4)، ألم نقرأ عندما أراد ملك أرام يحارب إسرائيل وأرسل جيوشه ومركباته ليلًا لتحيط بالمدينة وعندما رأى غلام أليشع المشهد صرخ قائلًا: “آه ياسيدي! كيف نعمل؟” (2مل6: 15). هذه رؤية العيان المحدود، أما لغة الإيمان فتبدو في كلام رجل الله أليشع إلى غلامه “عندما قال له: “لا تخف، لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم”. (2مل6: 16).
إن عين الإيمان ترى أنه في الرب الكفاية والشبع وسط جدوب الحياة، ألم يتغني حبقوق قائلًا: “فمع أنه لا يزهر التين، ولا يكون حمل في الكروم. يكذب عمل الزيتونة، والحقول لا تصنع طعامًا. ينقطع الغنم من الحظيرة، ولا بقر في المذاود، فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي” (حب3: 17-19).
في معجزة إشباع الخمسة الآلاف سأل الرب يسوع فيلبس عن مكان يمكن أن يشتروا منه كمية مناسبة من الخبز تكفي الجموع، وكان مقصد السؤال هو إمتحان الإيمان فأبتدأ فيلبس بأسلوب العيان يحسب التكاليف المحتملة وقال: “لا يكفيهم خبز بمئتي دينارٍ ليأخذ كل واحد منهم شيئًا يسيرًا”. (يو6: 7). وقال أندراوس: “هنا غلام معه خمسة أرغفة شعيرٍ وسمكتان، ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟” (يو6: 9).
لا شك أن التساؤلات كانت كثيرة وكلها تؤكد استحالة إشباع الجموع بفكرنا البشري المحدود، لكن يسوع صنع المعجزة وأشبع الآلاف بالقليل وفاض.
لعله يريد أن يعلمنا أن الإيمان لديه الإجابة على كل تساؤلاتنا، ويمكنه أن يغطي كل احتياجاتنا، فقط علينا أن نثق في ذاك الذي يستطيع كل شيء، ولا يستحيل عليه شيء، الذي يقول فيكون ويأمر فيصير، الإله القدير رب المعجزات.
رابعًا: الإيمان يُمدح والعيان يُقدح
نعم! كم من مرة مدح الرب يسوع اللذين يعيشون حياة الإيمان، وكم من مرة كان يتألم من عدم أو قلة أو ضعف الإيمان، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر:
في (لو8: 22-25) نقرأ أنه بينما كان يسوع والتلاميذ يعبرون بحر الجليل هاجمتهم رياح عاصفة وأمواج عاتية، فأيقظ التلاميذ يسوع الذي كان نائمًا في مؤخرة السفينة قائلين: “يامعلم، يا معلم، إننا نهلك!”. فقام وانتهر الريح وأمواج البحر وصار هدوء” (لو8: 24). وعندما زال الخطر تطلع يسوع إلى تلاميذه وقال لهم: “أين إيمانكم؟” (لو8: 25). وكأنه يسألهم: “لماذا لم تستطيعوا أنتم القيام بذلك؟ ولماذا يجب أن أفعل أنا ذلك؟ كما أراد أن يقول لهم: كان من الممكن أن تقوموا أنتم بتهدئة البحر الهائج لو كان لكم الإيمان العميق، لكن رؤيتكم للبحر الهائج بالعيان ملأ قلوبكم بالخوف وأزاح الإيمان خارجًا.
وفي (مت14: 25-33) ترصد عدسة الوحي المقدس الرب يسوع وهو يمشي فوق أمواج بحر الجليل الهائجة الهادرة، وأراد بطرس يتبع مثال يسوع ويمارس نفس النوع من الإيمان، وقد كان وإستطاع أن يفعل نفس الشيء الذي فعله يسوع، أما عندما حّول نظره من على يسوع إلى الأمواج، فقد فارقه إيمانه وبدأ يغرق، وهذا ما جعل يسوع يقول له: “ياقليل الإيمان، لماذا شككت؟”.
عبرة فى عبارة
– بالإيمان أرى الغد أفضل بكثير من اليوم والأمس.
– وبالعيان عندما أتطلع للمستقبل يمتلئ قلبي بالخوف واليأس.